محاربة "داعش" لاستعادة نظام "القطب الواحد"

حجم الخط

منذ العام 2007 اتضح لصناع القرار الأميركي أن استخدام القوة العسكرية لتكريس إدارة العالم بنظام "القطب الواحد"، حصد- في الواقع- كراهية الشعوب، ونهوض أقطاب دولية وإقليمية جديدة استفادت من مغامرة احتلال الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق بخسائرها البشرية والمادية الباهظة التي سرَّعت انفجار أزمة رأس المال المالي الأميركي التي تحولت إلى واحدة من أشد الأزمات الاقتصادية العالمية البنيوية للرأسمالية.

أملى ذلك استدارة في السياسة الخارجية الأميركية بدت معالمها في توصيات لجنة "بيكر- هاملتون" المشتركة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وفي خسارة "المحافظين الجدد" وفوز الحزب الديمقراطي بقيادة أوباما في دورتين انتخابيتين متتاليتين، وفي تبكير الانسحاب العسكري من العراق، وفي التفاوض الاضطراري مع حركة طالبان، وفي الاحجام عن خوض حروب برية جديدة، وفي اقتصار التدخلات العسكرية الخارجية عل الضربات الجوية كما حصل في ليبيا، ولا يزال يحصل في كل من اليمن وباكستان.

لكن الطبيعة الاستقطابية العنيفة الثابتة لنظام الاستعمار والسيطرة الرأسمالي الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة منعت تطوير هذه الاستدارة لخيار سياسي إستراتيجي يقر بانتهاء حقبة السيطرة الأميركية المنفردة على العالم لمصلحة بناء نظام دولي أكثر توازناً، ما جعلها مجرد استدارة تكتيكية لتجديد الهجوم من بوابة "الحرب الباردة"، سواء من خلال معاودة تشديد الهجوم على أبرز الأقطاب الدولية الناشئة، روسيا، من بوابة أوكرانيا بذريعة الدفاع عن الديمقراطية، أو من خلال استخدام الخطر الفعلي لتنظيم "داعش" على دول المنطقة، والعربية منها بالذات، غطاء لاسترداد ما خسرته من نفوذ في العراق، ولتحقيق ما عجزت عن تحقيقه من أهداف في سورية طيلة أربع سنوات من الصراع فيها وعليها. ما يعني أن ثمة حسابات أميركية إقليمية ودولية خاصة خلف "خطة محاربة تنظيم "داعش في العراق وسورية".

الاستخلاص أعلاه ليس وليد تفكير يُفسِّر كل شيء بنظرية المؤامرة، بل وليد تحليل منطقي لمجريات سلوك السياسة الأميركية في الواقع. أما كيف، ولماذا؟

أغلب الدول العربية، وليس في العراق وسورية فقط، مهددة، بتفاوت، بالتفكك لمصلحة إقامة دويلات بعدد الطوائف والمذاهب والاثنيات والمناطق. تتكفل تنفيذ هذه المهمة الجهنمية تنظيمات تكفيرية إرهابية يوحِّدها رغم اختلاف مسمياتها استلهام فكر "تنظيم القاعدة" المستمد أصلاً من فكر "الإخوان" "القطبي" المتواشج مع الفكر "السلفي الوهابي الجهادي"، كفكر يكفِّر كل ما عداه، وينتهج العنف لاستعادة "الدولة الإسلامية" على أنقاض الدول الوطنية العربية التي نشأت بعد إفشال الغرب الاستعماري كل محاولات العرب إقامة دولتهم القومية، (الدولة الأمة)، في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية.

ولئن كانت التنظيمات التكفيرية الإرهابية هي أدوات مشروع تفكيك الدولة القُطرية العربية، فإن الولايات المتحدة هي الراعي الأساس والمُستخدم الأول لهذه التنظيمات، بدءاً بتأسيس واستخدام حركة "طالبان" ورديفها تنظيم "القاعدة" ضد الاتحاد السوفييتي في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، مروراً باستخدام "محاربة الإرهاب" بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 ذريعة لاحتلال العراق وتحويله إلى مرتع لانتشار تنظيم القاعدة ونشوء أخطر تلاوينه "داعش"، وليس انتهاء باستخدام الحراك الشعبي السلمي العربي مدخلاً لإغراق أكثر من قُطْرٍ عربي في حالة من الفوضى، وخصوصاً سوريا التي غزتها التنظيمات الإرهابية بألوانها، وأخطرها تنظيم "داعش" الذي جند عشرات آلاف المقاتلين، وسيطر على أجزاء واسعة ومتصلة من العراق وسورية، واستولى على آبار نفط وأسلحة عسكرية نوعية، وتوافرت له مسالك حدودية آمنة، تركية تحديداً، لتسويق النفط المسروق وجلب المزيد من المقاتلين الأجانب من جنسيات شتى.

عليه، كيف لعاقل أن يصدق أن الولايات المتحدة جادة في محاربة الإرهاب، بينما هي صاحب الدور الأساس في نشوء وانتشار وتعاظم قوة التنظيمات الإرهابية، والمُستخدم الأول لها، تبعاً لتقلبات الظروف والمعادلات السياسية في المنطقة والعالم، منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي وحتى يوم الناس هذا.

بل كيف لعاقل ألا يتشكك في نوايا الولايات المتحدة ما دامت تختزل خطر الإرهاب في تنظيم "داعش" دون سواه من التنظيمات التكفيرية الإرهابية، ما يعني التمييز بين إرهاب وإرهاب وفقاً لحسابات الولايات المتحدة الخاصة ومصالحها العليا في المنطقة والعالم؛ وتحصر هذا الخطر في العراق وسوريا، وكأن لبنان واليمن ومصر وليبيا وتونس والصومال والجزائر والمغرب لا يضربها، بتفاوت، الإرهاب التكفيري الإرهابي ذاته؛ وتقتصر دورها في محاربة "داعش" على إدارة العمليات العسكرية وتنسيقها وتقديم الاستشارة والقيام بضربات جوية لا تمولها، وفق تصريحات الرئيس الأميركي، أوباما، بينما تُبْقي تصريحات رئيس هيئة الجيوش الأميركية، ديمبسي، الباب مفتوحاً على احتمال المشاركة في العمليات البرية تبعاً للتطورات الميدانية على الأرض؛ وتختزل هدف الحملة في "إضعاف"، (وليس اجتثاث)، تنظيم "داعش" خلال ثلاث سنوات، وكأن تنظيم "داعش" هذا قوة عظمى تضاهي أو تفوق قوة الولايات المتحدة التي تستطيع احتلال اليابسة والجو والبحر في أية بقعة من العالم؛ وتبدأ العزم على محاربة تنظيم "داعش" ارتباطاً بتهديده لمدينة أربيل الكردية، بينما يعلم الجميع أن هذا التنظيم وتنظيمات إرهابية أخرى تعيث منذ سنوات فساداً في الأرض وترتكب ما لا يحصى من جرائم التقتيل والتذبيح والتخريب والتدمير في العراق وسوريا وغيرهما من الدول العربية، بل تشعل حريقاً كبيراً غير مسبوق في الوطن العربي من أقصاه إلى أدناه.

وأكثر، كيف لعاقل ألا يتشكك في خطة الولايات المتحدة لمحاربة "داعش" ما دامت تطلب من تركيا، عضو حلف الناتو، وصاحبة التطلعات العثمانية الجديدة، المشاركة في الحملة على الإرهاب، وكأن تركيا هذه لا تلعب منذ سنوات الدور الأساس في رعاية تنظيم "داعش" وكل التنظيمات الإرهابية، وتدريب مقاتليها، وتسهيل تدفقهم إلى العراق وسوريا، وتنظيم عملية استيراد النفط المسروق منهما، علاوة على أنها، تركيا، ترعى التنظيم الدولي لـ"الإخوان المسلمين" وحلفائه من التنظيمات التكفيرية الأخرى في مواجهة النظام المصري الجديد منذ أطاح الشعب المصري بدعم من جيشه الوطني سلطة "الإخوان" في ثورة 30 يونيو 2013. هذا ناهيك عن تزامن طرح الخطة الأميركية لمحاربة تنظيم "داعش" مع عودة الحديث عن عزم تركيا اقتطاع جزء من أراضي سورية لإقامة "منطقة عازلة"، وللدقة منطقة حظر جوي آمنة كتلك التي فرضتها الولايات المتحدة في شمال العراق بعد إخراج الجيش العراقي من الكويت في العام 1991.

وكل ذلك دون أن ننسى تزامن طرح الخطة الأميركية لمحاربة "داعش" مع سيطرة "جبهة النصرة" الإرهابية على السياج الفاصل في الجولان المحتل، علماً أن احتلال جزءاً آخر من أراضي سورية تحت مسمى منطقة عازلة تمتد من القنيطرة في الجولان المحتل إلى درعا هو هدف إسرائيلي معلن منذ بداية الأزمة السورية، بما يذكَّر بتجربة المنطقة العازلة التي أقامتها إسرائيل في جنوب لبنان وتولت السيطرة عليها قوات العميل سعد حداد ثم قوات خلفه العميل أنطوان لحد.
أما الدليل الأهم على أن ثمة للولايات المتحدة حساباتها ونواياها وأهدافها الخاصة من وراء محاربة تنظيم "داعش"، فيكمن في التفرد الأميركي في تحديد هدف خطة العمل وآلياتها ومدتها والدول المشاركة في تنفيذها، ما يعني إصراراً أميركياً على استبعاد دور هيئة الأمم المتحدة، وعلى التملص من ضوابط ميثاقها ذات الصلة بعدم جواز انتهاك سيادة الدول واستقلالها ووحدة أراضيها، وهو ما لم تحترمه يوماً دول الاستعمار والسيطرة الرأسمالية الغربية، سواء تحت قيادة بريطانيا العظمى في مرحلة الاستعمار المباشر، أو تحت قيادة الولايات المتحدة في مرحلة الاستعمار غير المباشر، بل المباشر أحياناً كما حصل في أفغانستان والعراق وغيرهما. بإيجاز واختصار شديدين ثمة "وراء أكمة" الخطة الأميركية لمحاربة تنظيم "داعش" "ما وراءها". لكن الثابت هو أن ثمة أمام تنفيذ هذه الخطة وتحقيق أهدافها وفق الحسابات والأهداف الأميركية الخاصة عقبات حقيقية تمثلها، (علاوة على شعوب المنطقة والعالم الرافضة لعودة سيطرة الولايات المتحدة وحروبها ولعولمة سياستها الليبرالية الجديدة)، قوى دولية وإقليمية ناهضة ومناهضة بقوة لعودة التفرد الأميركي في إدارة النظام الدولي والسيطرة على العالم وقضاياه بعقلية شرطي أو "كابوي" الكون المطاع.