تحولات اليمن ليست صراعاً سنياً شيعياً

حجم الخط

   التطورات السياسية الجارية في اليمن مهمة، وتنطوي على تداعيات كبيرة، وطنيا وعربياً وخليجياً خصوصاً. لفهم جوهر ما يجري في اليمن يجدر التذكير بأن "المبادرة الخليجية" قد أجهضت حراك الشعب اليمني السلمي لإسقاط النظام، واختزلت مطالبه في تنحي الرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح، مع ضمان عدم ملاحقته، وانتخاب نائبه، عبد ربة منصور هادي، رئيساً، أدار حواراً وطنياً لم تُنَفَّذ مخرجاته، ما أبقى عوامل استئناف الحراك الشعبي قائمة. فتغيير رأس النظام لم يفضِ إلى تغيير جدي لا في بنيته الإدارية والعسكرية والأمنية، ولا في مضمونه القمعي الفاسد التابع. ذلك علماً أن لمعارضة هذا النظام شقين متداخلين، الأول أفقي تمثله مطالب شعبية عامة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، والثاني عمودي تمثله مطالب جنوب اليمن والحوثيين بالإنصاف وإنهاء التهميش والمظلومية.

   لذلك لم يكن مفاجئاً أن تشكل خطوة رفع حكومة الرئيس اليمني الجديد لأسعار المحروقات الشرارة التي أشعلت سهل الشعب اليمني كله في تظاهرات واعتصامات سلمية بمشاركة مئات الألوف، لعبت فيها جماعة "أنصار الله"، (الحوثيين)، دور رأس الحربة، بمطالب ثلاثة هي: إسقاط الحكومة وتطبيق مخرجات الحوار الوطني وإلغاء قرار رفع سعر المحروقات. لكن تعرض التظاهرات السلمية للقمع وإطلاق النار على يد فرقة من الجيش يقودها اللواء علي محسن الأحمر، المستشار العسكري للرئيس اليمني، وحليف حزب الإصلاح، (الفرع اليمني لجماعة الإخوان المسلمين)، هو ما فاقم الأمور وصولاً إلى سيطرة جماعة أنصار الله واللجان الشعبية التي تقودها على مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية داخل العاصمة، صنعاء، في ظل إحجام بقية فرق الجيش وأجهزة الأمن عن التدخل، حيث دعا وزيرا الدفاع والداخلية إلى معاملة مسلحي جماعة أنصار الله واللجان الشعبية كأصدقاء، بينما اتسم سلوك الحوثيين بالنضج السياسي، فلم يقدموا على التفرد وحسم السلطة التي صارت في متناول يدهم، خشية اتهامهم بالطائفية والمذهبية والانقلاب العسكري، الأمر الذي من شأنه تفتيت الحركة الشعبية وإدخال اليمن في حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس، خاصة وأن الحوثيين لا يحتكرون حيازة السلاح الذي يحوزه اليمنيون بكثافة أفراداً وقبائل وأحزاباً سياسية، بضمنها خصمهم الأول، حزب الإصلاح، ناهيك عن فرع تنظيم القاعدة في اليمن الذي يملك أسلحة نوعية ويسيطر على مناطق جغرافية. وكل ذلك دون نسيان صعوبة الحسم العسكري في شمال اليمن والعاصمة صنعاء التي تقع على أرض منبسطة تتاخمها جبال شاهقة وعرة تملؤها كهوف صخرية، ما يفسر، نسبياً، لماذا ظل اليمن خارج قبضة الإمبراطورية العثمانية، ولماذا اقتصر الاحتلال البريطاني على جنوب اليمن دون شماله؟

   عليه، لم يكن أمام السلطة اليمنية ورئيسها تحديداً من خيار سوى الموافقة على مطالب الحركة الشعبية الثلاثة. فبعد حوارات الغرف المغلقة بوساطة مبعوث الأمم المتحدة تم التوصل إلى اتفاق مؤتمر "السلم والشراكة الوطنية" بموافقة الأطراف الوطنية كافة، وتعهدها والرئيس اليمني بتنفيذ بنوده خلال سقف زمني محدد. وهو ما أُعتبر-بحق- انقاذاً لليمن الدولة والنسيج الوطني والمجتمعي من حرب أهلية، وللدقة فتنة طائفية مذهبية وقبَلية ومناطقية، لن تقود الشعب اليمني إلا إلى السقوط في مستنقع التدمير والتقتيل والتخريب تماما هو حاصل في العراق وسورية وليبيا.

   إزاء هذه الحقائق السياسية والميدانية الدامغة، ورغم أن الاتفاق الوطني يشكل حلاً وطنياً يتجاوز ويصحح حل "المبادرة الخليجية" الإجهاضي بمباركة دولية قادتها الولايات المتحدة، أصدر وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية بياناً رحب بالاتفاق، ودعا أطرافه إلى الالتزام بتنفيذ بنوده. لكن يبدو أن هذا الموقف الخليجي كان مجرد انحناءة اضطرارية لحسها بيان وزراء الداخلية بالقول: "إن دول مجلس التعاون الخليجي لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه التدخل الخارجي الفئوي في اليمن"، ما يعني اتهام إيران بالوقوف وراء التحولات الجارية في النظام السياسي اليمني، بما يخدم وحدة اليمن واستقلاله وسيادته، ويكفل تحقيق مطالب شعبه في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ويضمن توحيد مكوناته الوطنية في مواجهة تنظيم القاعدة التكفيري الإرهابي الذي يعيث فساداً وتدميراً وتقتيلاً وتخريباً في اليمن وغيره من دول الحراك الشعبي العربي، كحراك عملت الولايات المتحدة وحلفاؤها الإقليميون، ولا يزالون، على عسكرته وحرف مساره، بل واستخدموا بداياته السلمية وحولوه إلى حريق ارهابي تكفيري غير مسبوق. وما اعتراف نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، بدور حلفائه الإقليميين في تمويل وتسليح وجلب وتسهيل حركة التنظيمات الإرهابية التكفيرية بمسمياتها إلى أكثر من دولة عربية، وإلى العراق وسورية تحديداً، إلا محاولة مفضوحة لغسل دور الولايات المتحدة في تقوية هذه التنظيمات الإرهابية واستخدامها ذريعة لاحتلال الدول وتدميرها وتفتيتها ونهب خيراتها والتحكم بمصير شعوبها، تارة بدعم هذه التنظيمات وتمويلها وتسليحها، وتارة باسم محاربتها، وفقاً لمقتضيات المصالح الأميركية وتغيرات خريطة التحالفات وموازين القوى  في كل مرحلة.

   على أية حال، صار واضحاً أن الولايات المتحدة ودول الخليج، والسعودية بالذات، لن تقف"مكتوفة الأيدي" تجاه التطورات السياسية الكبيرة والمتسارعة في اليمن، بما ينذر بإدخال اليمن في أتون السيناريو التدميري ذاته في كل من العراق وسورية وليبيا، رغم ما يترتب على ذلك من  تداعيات كارثية تطال المنطقة والعالم. أما الذريعة فماثلة في بيان وزراء داخلية مجلس التعاون الخليجي، أي إحباط "تدخل إيران الفئوي". ينطوي اختزال ما يجري في اليمن من تحولات سياسية واجتماعية وطنية كبيرة في تأثير إيران السياسي على جماعة أنصار الله على انكار دور "المبادرة الخليجية" في إجهاض الحراك الشعبي اليمني وإبقاء عوامل تجدده قائمة، وعلى إنكار هشاشة النظام اليمني وقابليته للانهيار، وعلى انكار أن "الحوثيين"، (أتباع المذهب الشيعي الزيدي)، لا يشكلون سوى ثلث سكان اليمن، بينما يتبع ثلثا اليمنيين المذهب الشافعي السني، ناهيك عن أن مذهب الزيدية اليمني هذا، يختلف-جوهرياً- مع مذهب الإثنا عشرية الإيراني، ارتباطاً بأنه، المذهب الزيدي، لا يقر بعصمة الخليفة علي بن أبي طالب، ويقتصر الإمامة على الخمسة الأوائل من نسله، بينما يقر أتباع المذهب الشافعي السني بتسعة منهم، ويعترف علماء الأزهر بالمذهب الجعفري، (نسبة إلى جعفر تاسع أئمة الشيعة)، كمذهب خامس يجري تدريسه في جامعة الأزهر أسوة بالمذاهب السنية الأربعة المعروفة. لذلك قيل: "الزيدية أقرب إلى السنة منها إلى الشيعة"، و"أتباع الزيدية في اليمن أكثر اعتدالاً من أتباع السنة في مصر".                                   

   خلاصة القول: جوهر ما يجري في اليمن صراع سياسي اجتماعي، وليس صراعاً سنيا شيعياً، كما يُصوِّره-بقصد غالباً وبجهل أحياناً- أصحاب مقولات-أدوات تحليل- الفكر الاستعماري والاستشراقي من المفكرين والسياسيين والباحثين والإعلاميين الغربيين، والأميركيين خصوصاً. فهؤلاء، ومثلهم نظرائهم العرب، يصرون، على تلبيس الصراع السياسي الاجتماعي الذي أطلقه الحراك الشعبي العربي لبوس الصراع الديني والطائفي والمذهبي والاثني والقَبَلي والمناطقي، سواء لناحية فهمه كحدث تاريخي، أو لناحية التعامل معه وتحديد المواقف منه وتشخيص تداعياته واستقراء نتائجه ومآلاته على المدى القريب والمتوسط والبعيد. ومن فرط  تشبث هؤلاء بمقاربتهم " اللا تاريخية" المثقلة بأغراض ومصالح سياسية ينكرون حتى الاختلاف النسبي الواقعي الملموس بين هذه الحالة أو تلك من حالات هذا الحراك. يساعد أصحاب هذه المقاربة الاستشراقية التسطيحية والخطرة في آن أن هذا الحراك وُلد منذ البدء قابلاً، بتفاوت بين حالاته، للتشويه والحرف والاحتواء والإجهاض والاستخدام والتدخل الخارجي بجنسياته وأشكاله المختلفة، ليس فقط بسبب انطلاقته العفوية وغياب الحزب السياسي المعارض المستعد والجاهز ببرنامج وطني ديمقراطي بديل وشامل، بل أيضاً  بسبب أنه حدث سياسي اجتماعي تاريخي معقد وشائك أنجبته عقود من الاستبداد والفساد والتبعية والقمع والتجريف السياسي. عقود عربية مظلمة أفرزت، فيما أفرزت، حركات إسلاموية جاهلة متطرفة إرهابية، شكلت إجابات خاطئة على أسئلة الواقع الصحيحة، تستخدمها الولايات المتحدة وحلفاؤها لا في اليمن، فحسب، بل في كل دول الحراك الشعبي العربي، أيضاً.