لماذا اتبع هذا الرجل عن جورج حبش كايقونة شخصية

حجم الخط

 

-1-

تفتح سيرة الحكيم أسئلة لانهاية لها، وقد كان لي الشرف في القرب منه والتعلم مباشرة

من رجل عظيم مثله، ولكنها في النهاية سيرة تحمل الاجوبة، ولعل السؤال عن الطينة التي جبل هذا الرجل تجد حوابها في سيرة الفلسطيني الكلي الذي لم يعدم وسيلة للنهوض والكفاح، ولكن الاستثناء في سيرة جورج حبش هو انتماؤه لسجل النجاح لا الفشل، وكأن سيرته هي الرد على استحواذ قليلي النفع والجهلة والفاشلين على زمام الحركة الوطنية الفلسطينية، فهذا رجل ناجح في حياته، خريج متفوق من كلية الطب في الجامعة الأمريكية ما أهله ليصبح أستاذا مساعدا في قسم علم الانسجة، فجاء إلى السياسة والكفاح من نجاح شخصي عظيم، فكان قائدا سياسيا وعبقرية تنظيمية لم تشهد الساحة الفلسطينية بل العربية مثيلا لها، وطبيبا مشهورا، ثم كان صحفيا لامعا، بتأسيسه لمجلة الرأي في عمان التي أشرف عليها وكتب افتتاحياتها النارية الملهمة، ثم أعاد اصدارها في دمشق، في خضم تأسيسه لأهم حركة سياسية في الخمسينيات والستينيات في الوطن العربي كله. لذلك -وهو  لايحتاج لهذا- كان جورج حبش زعيما ثوريا بمنزلة رئيس دولة، وكان صمام الامان للثورة الفلسطينية، حرص الجميع على الاستماع لرأيه وإن لم يمشوا وراءه لأن مبادئه وتصميمه كانت أكبر واهم من حدود خيالهم  ومصالحهم الضيقة.

-2-

بمقدار انخراطه الكلي في الشأن الوطني، وحمله عبء فلسطين على كتفيه، انخرط

جورج حبش بكليته في الهم العربي، بل إنه جاء إلى الكفاح الوطني من مصدرين، مصدر

كونه لاجئ بالاساس ، وهي سمة جعلت منه ممثلا وقائدا حقيقيا للاجئين إن لم يكن

بالفعل فبالقوة، ومصدر حركة قومية كبيرة كان لها فرع في ظفار قبل أن يكون لها فرع في

 فلسطين، لأنه كان يعتقد أن التحرير والوحدة شرطان متلازمان، ولم يكن هو من اخترع

القطرية، بل الإتجاه الفلسطيني المباشر عنده جاء كرد ثوري تاريخي على هزيمة الأنظمة

العربية وتركها فلسطين لقمة سائغة للعدو،  وقد ترافق هذا مع نظرة جديدة للخيار القومي جوهره اكتشاف أن ليس كل طبقات الأمة لها مصلحة في التحرير ما فتح أبواب الماركسية بدون عنت أو تهور ، وإلى هذا إن صح تسميته انخراط بالشأن العام كان جورج حبش منخرطا تماما وتقريبا بالهم الشخصي للناس، بسبب طبيعته المسيحية  المتسامحة والرقيقة وعقليته كطبيب ومعاناته الشخصية كلاجئ، لدرجة يظن فيه بعض المنتفعين السذج فرصة للنهب او الاستغلال، وهو ما كان يحدث، ليس لأن جورج حبش ساذج، بل لأنه كان يعطي الأولوية للقيمة الانسانية في تعاملاته مع البشر والناس العاديين.

-3-

تحول جورج حبش إلى أيقونة مركزية ليس في الاطار التنظيمي للثورة الفلسطينية

 ومنظمة التحرير فحسب، بل في الوعي الشخصي لعشرات الآلاف من أنصاره ومتبعي

أراءه السياسية والفكرية، ورغم مركزيته وقدرته البالغة على التأثير وفرض قرارارته التي

يريد إلا أنه لم يلجأ لهذا النفوذ أبدا وكان ديمقراطيا يخضع نفسه لنتائج التصويت في الهيئات القيادية مثل أي عضو آخر ، وقد خبرت هذا شخصيا، وكان شديد الاهتمام بنتائج

أي تصويت كم كان مع وكم كان ضد، ما عكس قدرته على الامساك بحلقة التوازن داخل الجبهة كما في القوميين العرب، وكم من قرار استراتيجي اتخذته الجبهة على عكس ما كان يرى ولم يتصرف إلا كقائد كبير يقود حزبا كبيرا بل كان أحرص الناس على تنفيذ ما صوت ضده لأنه كان قرار القيادة الجماعية، ما انعكس في حالة الالتفاف غير المسبوق على شخصه وموقعه حتى بعد مغادرته لمنصب الأمين العام والتشكيلات القيادية للجبهة.

وبمقدار مرونته التنظيمية كان جورج حبش عصيا على المساومة المبدئية، غير قابل للاخضاع مهما كانت الضغوط والظروف، كان موقفه بالنسبة للمساومات والتنازلات التي مست القضية والوطن ليس مجرد اعتراض سياسي بل احتقار عميق، ارتباطا بقداسة القضية والشعب عنده وايمانا منه بأن أي عدو ومهما كانت قوته لن يستطيع اخضاع هذا

 الشعب ، فكان يرى أن الاجدر بالممثلين السياسيين أن يتبعوا صمود شعبهم لا أن يدفعوا شعبهم إلى الهاوية، وهو إلى هذا كان يتخذ مواقفه انطلاقا من قاعدة العدل والحقيقة وحق الوطن والشعب، ما كان يجعل أي ناقد ينظر فيما بعد لايتردد في التأكيد على صحة خيارات الرجل، ما يكذب بشكل مباشر ادعاءات الكثيرين حول مراجعة الحكيم لبعض مواقفه

 الاستراتيجية كذبا وتزويرا مستغلين قربهم منه في لحظة معينة، ومن الطبيعي أن يتم

الكذب على لسان قامة مثل جورج حبش ما يعطي مصداقية لطروحات هؤلاء ولكن الحقيقة

 سرعان ما تظهر.

 

-4-
بدون التقليل من أهمية أحد، كان جورج حبش نسيج وحده، رجل استثنائي في أزمنة

استثنائية، في الوقت الذي كانت الأمة تندب ضياع فلسطين، عام 1948، كان جورج حبش

 يؤسس لاسترجاعها، دون أن يتوقف عن طرح الأسئلة حول معنى ضياع فلسطين وسقوطها في يد الصهيونية، ولكن أن يستمر الانسان في اعتناق مبدأ واحد طوال قرابة

 الستين عاما، لهو دليل على عمق ايمانه ليس هذا فحسب بل اخلاصه وصدقه في هذا الايمان، لقد أحب وطنه حد البكاء، وآمن بوطنه حد اطلاق ثورة عظيمة، ولعل سيرته وصبره

وصمود عقيدته الفلسطينية تجسيد حي لسيرة شعب فلسطين الذي لم يتوقف لحظة واحدة، عن الكفاح والنضال لأجل فلسطين.. ذات يوم سألني عن أكثر شخصين تأثرت بهما،

فقلت له يوسف العظمة وعبد القادر الحسيني، فسألني عن السبب فأجبته انهما نموذجان ساطعان للانتصار، كلاهما خاض معركة مميتة الاول لكي لايقال ان دمشق سقطت بدون قتال والثاني لكي لايسجل التاريخ ان الفلسطينيين اذعنوا للانظمة العربية وسلموا بلادهم بدون قتال... يومها بكى الحكيم، وقال لي: جدع.. عبد القادر كان جدع....كان الحكيم مثابرا بشكل استثنائي على زيارة ضريح يوسف العظمة.. وكان لاينساه أبدا...

 

-5-

كان باب الحكيم مفتوحا بكل ما تعنيه الكلمة، ولا أظن أن ثمة من يمكن أن يدعي أنه قصده

لأي سبب كان ولم يتمكن من لقائه وشرح مقصده، وتلك ميزة الحكيم كقائد ثوري وزعيم قبلي أيضا ولكن بالمعنى الايجابي للكلمة الأخيرة، والفرق شاسع بين أن يتصرف الرجل كزعيم وبين أن يتصرف كـ (مسؤول)، تلك الكلمة التي اكتسبت في المخيم معنى سلبيا فجمعت (مسائيل) هؤلاء لم يكن جورج حبش منهم، ولعل البعض يستغرب أن أضفي صفة الزعيم القبلي على جورج حبش، ولكن هذا كان يعطي اغناء لشخصيته ونفوذه البالغ على جميع من يقف في حضرته بدون مبالغة، كانت قبيلته هي الجبهة عند الحديث عن شأن تنظيمي، وقبيلته هي فلسطين عند الحديث عن شأن وطني عام وقبيلته هي الأمة إن تحدث عن مصر أو البوليساريو أو أخبار الرفاق في عدن، سياسة الباب المفتوح لم تكن ايجابية بالكامل، فقد سمحت للمنتفعين والانتهازيين بالتسلل إلى عواطف الحكيم وطيبته، وسمحت للمغرضين بمحاولات بث سموم هنا وهناك، ولكن هذا ليس سوى عارض لايمكن تسجيله كقاعدة، لأن شخصية الحكيم بالأساس كانت تقوم على قاعدة متينة من الأخلاق، كان الرجل محميا باستقامته ونقاء سريرته ونظافة يده.. كان الحكيم يتصرف كأب روحي للجميع، قبل أن يكون أمينا عاما، ولاشك أنه تجاوز هذا المنصب في العقد الأخير من شغله له، فأصبح أكبر منه بكثير ، وكان الحكيم يتحول تلقائيا وهو يمشي بيننا إلى رمز وأيقونة عصية على الاحتواء... فكان تخليه عن منصب الأمين العام ليس ققط لأنه يريد الافساح في الطريق لرفاق آخرين، وليس أيضا لأن صحته لم تعد تحتمل، في الحقيقة يعلم الجميع أن الشهيد أبو علي كان يقوم بجزء كبير من صلاحيات الامين العام، ولكن السبب الحقيقي هو انفلات الحكيم من المساحة المحددة للأمين العام.. كان الرجل أعظم وأهم من المنصب بحد ذاته وإذا كان الرجال هم الذين يعطون المناصب قيمتها، فقذ كان حبش عصيا على أي منصب. 


كان عقل الحكيم يعمل كأفضل ما يمكن للعقل أن يعمل، تمتعه بشغف التلميذ للاكتشاف وقدرته التحليليلة الفائقة وربطه للمسائل ومعالجتها جدليا وقدرته على رؤية ماوراء الكلمات كلها جعلته رجلا بعضلات فكرية بالغة القوة، ولولا ذلك لما صار ماهو عليه ولعل دراسته للطب كانت السبب وراء هذه القوة العقلية الفائقة والذكاء الشديد.

ومن المهم هنا القول أن الحكيم لم يأبه أبدا لأي نقد أو مقولات كانت ترفع من مقامه وتنال من الجبهة، لأنه كان يدرك أن هذا ليس سوى نقد وافتراء يقصد منه هدم الصرح الذي بناه تحت ستار مدحه الشخصي الذي لم يكن يأبه به، كان يرى في الجبهة مشروعه الذي بناه حجرا حجرا، ويعرف بالضبط أين وضع أحجاره وكيف رتبها، ويعرف بالضبط طينة رفاقه ومعدنهم، وكان يدرك أنه صار عصيا على التجاوز، لذلك عندما غادر منصبه لم يتوقف عن كونه الزعيم... لقد كان بحق الرجل الذي صنع هذا المجد وتعمد بنيرانه.