ثلاثية القدس والعودة والصمود

حجم الخط

بمناسبة الذكرى السبعين للنكبة، خرج الفلسطينيون في قطاع غزة، إلى مناطق التماس مع قوات الاحتلال، تواصلاً مع مسيرات العودة التي صادفت ذكرى النكبة أسبوعها السادس، ما أضفى على الغضب الفلسطيني ومسيرات العودة هذا العام، طابعاً مختلفاً، هو تزامن ذكرى اغتصاب فلسطين مع نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، في تحدٍ واضح للقرارات الدولية، الصادرة تجاه القضية الفلسطينية.

ومن هنا يستمد حديثنا هذا عنوانه، الذي هو عنوان الكفاح الفلسطيني، في هذه المرحلة. فمفاوضات الحل النهائي، بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين» لاستكمال تنفيذ اتفاقية أوسلو عام 1993، تعطلت عند موضوعي عروبة القدس، وحق عودة الفلسطينيين في الشتات إلى ديارهم.

بقي حلم الفلسطينيين في حق تقرير المصير، وإقامة دولتهم المستقلة، فوق ترابهم الوطني مؤجلاً، من غير بصيص أمل، أمام العجز الدولي، عن فرض قرارات مجلس الأمن، وقرارات الشرعية الدولية الأخرى، ذات الصلة، وأيضاً أمام انشغال البلدان العربية بقضاياها الخاصة، وغياب التوازن في الصراع بين العرب والمشروع الصهيوني.

فكانت نتيجة العجز والركود، وانتظار النجدة من المؤسسات الدولية، والموقف العربي المساند، أن يقرر الفلسطينيون، بلحمهم العاري، أن يمسكوا زمام أمورهم بأنفسهم، فكان القرار هو مواجهة الاحتلال بسلاح الإيمان، منطلقين في احتجاجات سلمية استمرت عدة شهور، منذ أعلن الرئيس الأمريكي، ترامب قراره بنقل سفارة بلاده لمدينة القدس، في تعبير واضح وصارخ عن انحياز الإدارات الأمريكية المتعاقبة ل«إسرائيل»، فكان التمسك من قبل الفلسطينيين بعروبة القدس، ورفض سياسات تهويدها من قبل العدو.

وبالسير بخطى ثابتة، نحو رفض سياسات تهويد المدينة المقدسة، والاحتجاج على سياسة أمريكا المنحازة بالجملة والتفصيل تجاه «إسرائيل»، حضر بقوة حق العودة، لتتصاعد مظاهرات الاحتجاج وليكون حق العودة، كما هي عروبة فلسطين، على رأس أولويات الكفاح الوطني الفلسطيني، من أجل الحرية والاستقلال، وإقامة الدولة الفلسطينية.

ومن خلال المعادلة الثلاثية: القدس والعودة والصمود، برزت حقبة جديدة في الكفاح الفلسطيني، لتدحض بشكل قاطع المقولة «الإسرائيلية»: «الآباء يموتون، والأبناء ينسون». وليتأكد للقاصي والداني، أن قضية فلسطين ستظل حية ومتقدة في وجدان الفلسطينيين وفي ذاكرتهم، وألاَّ سلام ولا أمن حقيقياً في المنطقة، ما لم ترد الحقوق لأصحابها الشرعيين.

وفي هذه المعادلة، تتطهر النفوس، ويجري تصحيح البوصلة، وتغيب الفئوية والخصوصية، ويرتفع فوق رُبى فلسطين المحتلة، علم واحد فقط هو علم فلسطين، يتحلق الجميع نحو هدف واحد مشترك، هو هدف التحرير في عناوين رفض التهويد، لكل المناطق الفلسطينية المحتلة، وحق العودة لكل الفلسطينيين بالشتات.

يسقط الضحايا الفلسطينيون بالمئات، مئات الشهداء وآلاف الجرحى في قطاع غزة، وفي نقاط التماس مع العدو، ويتصاعد عدد الشهداء والجرحى، ليصل في اليوم الذي احتفل فيه الأمريكيون «والإسرائيليون» بنقل السفارة الأمريكية لمدينة القدس، إلى ستين شهيداً، وألفي جريح، وليتحول هذا اليوم إلى حدث تاريخي، سرقت فيه دماء الشهداء الأضواء، عن الحفل الذي أريد له أن يكون مختلفاً وبهيجاً، لصانعيه، بمدينة القدس.

ويرجع الصدى قوياً، لمدن الضفة الغربية في بيت لحم ومدينة الخليل ورام الله، ولتتسع دائرة الاحتجاج على العنجهية والوحشية والغطرسة الصهيونية، لتصل إلى داخل أراضي فلسطين عام 48، حيث تشارك حيفا ويافا وأم الفحم في مسيرات الاحتجاج، وإن كان ذلك لا يزال يتحقق بوتائر متدنية.

إن من شأن استمرار انتفاضة العودة، واشتداد عودها، أن يجعلها تتسع وتقوى لتشمل معظم الأراضي الفلسطينية.

لم يكن انعقاد مؤتمر لوزراء خارجية الدول العربية بالقاهرة، والقمة الإسلامية في تركيا، وقرار لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، ليكون ممكناً وسريعاً، لولا التضحيات الجسيمة للشعب الفلسطيني البطل، وهذه التضحيات هي التي صنعت القرارات التي اتخذها المجلس الوطني الفلسطيني، في دورته الأخيرة، وهي التي في حالة استمرارها ستمنح زخماً وقوة للقرار الفلسطيني، وتعيد القضية الفلسطينية مجدداً للواجهة العربية والدولية.

لقد أعادت انتفاضة العودة الحضور لقضية الوحدة الفلسطينية مجدداً وبقوة. ووضعت قيادتي رام الله وغزة، أمام خيارين لا ثالث لهما. إما التسريع في تحقيق المصالحة الفلسطينية ووحدة الضفة الغربية وقطاع غزة، وإما التفريط في الدماء الفلسطينية المسفوكة، ومعها تضيع مشروعية تمثيلهم لتطلعات وأماني الشعب الفلسطيني، وأحلامه في التحرر والانعتاق.

ليس يكفي أن يقف الشعب العربي مسانداً للقضية الفلسطينية، وليس يكفي أيضاً أن يصدر بيان استنكار شديد اللهجة من المؤتمر الإسلامي، وأن تساند الشعوب المحبة للسلام في العالم بأسره، الكفاح الوطني الفلسطيني، ما لم يردف ذلك وحدة بين الفلسطينيين أنفسهم. «إن الله لا يغيّر ما بقوم، حتى يغيّروا ما بأنفسهم».

سيكون على القيادات الفلسطينية في منظمة التحرير، سلطة ومقاومة، دعم هذه الانتفاضة المباركة، واستثمارها في تصليب الموقف الفلسطيني، وفرض واقع جديد لصالح الكفاح الفلسطيني.

شرط ذلك تحقيق ثلاثة أمور: الأمر الأول: تحقيق الوحدة الفلسطينية، والأمر الثاني صياغة برنامج كفاحي جديد، على ضوء تطورات المرحلة الراهنة، يوازن بين العمل السياسي والمقاومة الشعبية السلمية. والأمر الثالث، الانتقال من الصيغ الجامدة والساكنة، إلى إبداع جديد يتماهى مع حجم التضحيات الجسيمة التي يقدمها الفلسطينيون في تصديهم الباسل، وعلى خطوط التماس مع العدو في قطاع غزة. وأن يكون العرب وكل القوى المحبة للسلام إلى جانب كفاحهم، فذلك هو السبيل الأفضل للاقتراب رويداً رويداً من آمال وتطلعات شعبنا العربي في فلسطين.