ظاهرة عربية المناضل محمد القاضي/ أبو ناصر: في الذاكرة الشعبية الجماعية

حجم الخط

«طلت البارودة والسبع ما طل...يا بوز البارودة من الندى مبتل».                                                                                                                                                  من التراث الشعبي الفلسطيني

*****

متوسداً حلم العودة؛ طار إلى كوكبا،

عاد إلى الحقل الذي ترعرع فيه، محاطاً بأشجار التين وكروم العنب.

العنب بأنواعه؛ الخليلي، واليافي، والقرشي، وبزّ البقرة، وقلب الطير، والشوباني، والأسود، والتين بأنواعه؛ البحاري، والحماري، والأسود، والموازي.

عاد ليرافق عائلته، أيام الحصيد.

أين أنت يا أمي؟ أيتها السيدة العظيمة، التي امتازت برجاحة العقل والحكمة، والتي كانت تشارك في زراعة الحقل والحصيد، وكانت تصنع السجاد، من صوف الأغنام، أشتاق طعامك يا أمي، أشتاق إلى الجبجب، إلى الطعام المطهي بالطابون، إلى فتة الحليب بالسمن والسكر، أين أنت يا جزيلة الخير والعطاء؟! أين بيتنا الجميل؟! والقهوة التي كانت تحمَّص وتدقّ أولاً بأول لتقدّم فور وصول الضيف؟! متى أستطيع استضافة الأحباب في كوكبا؟!.

*****

عرفته كوكبا، وعرفته فلسطين، والعراق، ومصر، وسوريا، ولبنان، ومقاتلو الأغوار، وجيش التحرير الفلسطيني، ورفاق ورفيقات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قيادات وقواعد، والمقاتلون من أجل الحرية عبر العالم.

*****

ولد المناضل في قرية كوكبا يوم 31 كانون الأول 1938، وتوفي في القاهرة يوم 21 نيسان عام 2015.

درس الابتدائية في كوكبا، وأكمل تعليمه في «مخيم البريج»، وتخرج من معهد الضباط، عمل مديراً لمكتب الحاكم العام لقطاع غزة منذ 1958 حتى 1967، والتحق بكلية الضباط الاحتياط بمصر عام 1963، ثم التحق بجيش التحرير، وبعد هزيمة 67، سافر إلى مصر عبر سيناء، مشياً على الأقدام، والتحق هناك بقيادة جيش التحرير، وعمل على إعادة تجميع وتنظيم حركة القوميين العرب، وبعد الإعلان عن قيام الجبهة الشعبية، تولى مسئوليتها في مصر، وأشرف على إعداد المقاتلين، وإرسالهم إلى الأردن.

انتخب عضواً في اللجنة المركزية للجبهة عام 1968م، واستقر فترة في الأردن، وأشرف على تدريب المقاتلين، وتدريب الحركة النسائية، ثم تولى مسؤولية القطاع الشمالي، والجولان، وجنوب لبنان، بالإضافة إلى الإشراف على القطاع الجنوبي بالأردن.

وفي عام 1970، تولى مسؤولية العمل العسكري، والميليشيا، في لبنان، وفي أوائل 1973، وعلى أثر خلافات سياسية، آثر التنحي عن العمل، للتأمل في التجربة النضالية، بشكل نقدي، على صعيد العمل الفلسطيني خاصة، والعربي عامة.

*****

من خلال توثيق تجربته الشخصية، ضمن مشروع التأريخ الشفوي لذكرى التهجير عام 1948، (الذي تنفذه مؤسسة الرواة للدراسات والأبحاث)؛ فتح المناضل كنوز ذاكرته، ليتحدث عن بطولة شباب قريته، الذين تصدوا للمؤامرات الصهيونية قبل التهجير، ونسَّقوا مع القوات المصرية والسعودية، التي كانت قد وصلت إلى القرية بناء على قرار الجامعة العربية.

«تم وضع نقطة حراسة وإنذار أمامية من أبناء القرية، في حقل من الذرة الشامية شرقي الموقع بعدة مئات من الأمتار، وحين قامت قوة صهيونية (حوالي فصيلين من المشاة) بمحاولة للهجوم على موقع القوات المصرية والسعودية، فاجأ أبناء القرية القوات الصهيونية بوابل من النيران، وألحقوا في صفوفها الخسائر، وانسحبوا إلى المدرسة وتحصنوا فيها، ودارت معركة طيلة الليل، وحتى الثانية عشرة ظهر اليوم التالي، وبالتعاون بين القوات النظامية والشعبية، حيث كان أبناء القرية يصطادون الصهاينة الذين يحاولون الفرار من الجبهة الشمالية، وبذلك تم القضاء على القوة بالكامل».

ويروي المناضل عن تهجيره عام 1948:

«أذكر حملة الإبادة التي أجبرتنا على ترك قريتنا لحظة الهجوم على القرية، تجمع الصهاينة شمال غرب القرية، قادمين من عراق سويدان، وبعد أن اكتسحوا القوات المصرية المتمركزة هناك، جمعوا من تبقى من أهل القرية، وأطلقوا عليهم النيران، وألقوا بجثثهم في بئر القرية، وكان منهم جدي، وزوجة عمي، وفراش مدرستنا مسعود».

*****

روى المناضل عن إنشاء حرس وطني في مخيمات اللجوء، وعن إنشاء أول قوة فدائية فلسطينية تحت قيادة مصر، وعن تشكيل أول جيش فلسطيني، استطاع مقاتلوه أن يصدوا عدة هجمات إسرائيلية على قطاع غزة، مستخدمين دباباتهم القديمة، وبعض قطع المدفعية، والأسلحة الخفيفة.

«في أثناء المعركة، عام 1967، أول طائرة للعدو أسقطها في مدينة غزة أحد أقربائي: «محمد عبد الرحمن كامل أبو ريا»، وتمَّ أسر قائد هذه الطائرة، وقام مدير مكتب الحاكم العام في غزة، بإيصال  الأسير في نفس اليوم إلى القاهرة، إلى «عبد الناصر»، ثاني طائرة أسقطها العبد الفقير إلى الله، الّلي أمامكم، جاءت الطائرات لتقصف موقعنا، استقبلنا هذه الطائرات حسب تدريبنا، برشاشات، من ضمن الرصاص المستخدم كان فيه رصاص اسمه خارق حارق، أصبت إحدى الطائرات، اشتعلت فيها النار، وأُسقطت بعيدا عن الموقع، في اتجاه معسكر البريج، في وادي غزة.

بقيت مع فصيلتي في موقعي حتى الساعة الثالثة، وكان عددهم ثمانية وثلاثون، وكل أسلحتنا خفيفة، في الثالثة جاءتني مكالمة بأن ثلاث دبابات إسرائيلية قادمة من اتجاه خان يونس جنوباً متجهة إلى موقعي، وهي ترفع علم الجزائر، والعراق، ومطلوب مني أن أتصدى لها.

طلبت من القيادة مدّي بالألغام وبعض قطع المدفعية؛ لكنها اعتذرت، وبعد إنهاء المكالمة هاجمتنا ثلاث طائرات، وبدأت المدفعية بقصف الموقع تمهيداً لهجوم الدبابات، وكان عددها 22، ما بين دبابة وحاملة جنود مجنزرة، تمكنّا من تدمير أول دبابة، وهي كاسحة ألغام، ثم أصبنا ثلاث دبابات أخرى، واستمرت المعركة، وألحقنا الإصابات بين أفرادها، إلى أن تمكنت بعض هذه المجنزرات من اقتحام الموقع من الضلع الغربي، ومع ذلك هاجمنا بالقنابل اليدوية، وتم إعطاب خمس مجنزرات، ثم أمرت بالانسحاب».

*****

«لا حركة ثورية دون نظرية ثورية» أبا ناصر، كما كنت تثقف وتعلم الأجيال، مستلهماً تجارب الشعوب التي ناضلت من أجل حريتها، وانتصرت.

لا عودة أو نصر دون رؤية سياسية ثاقبة، وعمل دؤوب لتحقيق هذه الرؤية.

أيها الثوري دون ادِّعاء، أيها الإنسان الحنون، والرجل الصلب العظيم،

وفاؤنا لك لن يكون سوى بإجراء مراجعة سياسية نقدية، لاستخلاص الدروس والعبر، حتى نستطيع أن نستمر في طريق النضال الطويل، ونحقق النصر.

أما مكانك، فهو في قلب الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني والعربي، الذي أخلصت له طيلة حياتك.