حكومات لإنهاء الانقسام أم لتعميق المأزق؟

حجم الخط

    مفاعيل فوز "حماس" المفاجئ في الانتخابات "التشريعية" عام 2006 لا تزال تفعل فعلها في علاقة الحركة بحركة "فتح" القيادة الفعلية لـ"السلطة"، وبالأطراف الدولية والإقليمية والعربية التي تعترف بحكومات "السلطة" مقابل التزامها باتفاق أوسلو وشروطه السياسية والاقتصادية والأمنية. أما قيادة "حماس" التي رفضت اتفاق أوسلو فلم تختر إلغاء تعاقده بعد فوزها "التشريعي"، ولم تختر التحكم "تشريعياً" بحكومة "السلطة" ومجمل أجهزتها التنفيذية، بل اختارت تشكيل حكومة. لذلك كان من الطبيعي أن تقاطعها إسرائيل وتحاصرها، بدعم من حليفها الثابت الولايات المتحدة، وبتغطية من "اللجنة الرباعية" التي اشترطت الاعتراف بحكومة "حماس" وتمويلها بإعلان الحركة "نبذ العنف والاعتراف بإسرائيل وبالاتفاقات الموقعة معها"، بينما أبقت على علاقتها مع رئاسة "السلطة" الملتزمة بشروطها. هنا اتخذت إسرائيل حادثة اختطاف الجندي "شاليط" ذريعة لتصعيد العدوان والحصار على قطاع غزة. وعندما لم تفضِ موافقة "حماس في "اتفاق مكة" على "احترام الاتفاقات الموقعة"، وتشكيل حكومة "الوحدة الوطنية" إلى تخفيف عدوانية إسرائيل وشروط "اللجنة الرباعية"، أقدمت الحركة على تنفيذ ما وصفتها بـ"الخطوة الاضطرارية"، أي السيطرة على "السلطة" في القطاع بوسائل عسكرية، ما أودى بـ"حكومة الوحدة الوطنية"، وأدخل الحركة الوطنية الفلسطينية في انقسام بنيوي مدمر، وزاد مأزق مفاوضات أوسلو العبثية وتمديدها الواقعي تعقيداً على تعقيد. لماذا؟

   بهذا الانقسام تحولت "السلطة" التي حلت محل مرجعيتها منظمة التحرير الفلسطينية إلى "سلطتين تنفيذيتيْن أمنيتيْن "تشريعيتين"، ما شجع حكومات الاحتلال على رفع منسوب استباحتها الشاملة للضفة وشن حروب الإبادة والتدمير وتشديد الحصار الشامل على القطاع، وصولاً إلى العمل في السر والعلن على تحويل هاتين "السلطتين" إلى مركزيْ تفاوض مع الاحتلال، الأول مباشر لإقامة "حكم إداري ذاتي" في الضفة، والثاني غير مباشر لإقامة "دولة غزة"، في إطار مخطط لفصل القطاع عن الضفة، وفصل كليها عن القدس، وفصل مصير "مناطق 67" عموماً عن مصير اللاجئين و"مناطق 48"، أي العمل على تقويض البرنامج الوطني في "الدولة والعودة وتقرير المصير" وتصفية القضية الفلسطينية من جميع جوانبها. أما شروط "اللجنة الرباعية" فقد تحولت بعد هذا الانقسام من شروط لتشكيل حكومات "السلطة" والاعتراف بها وتمويلها إلى شروط على "حماس" الحركة وليس "الحكومة" فقط، علماً أن شرط الاعتراف القائم بوجود إسرائيل وأمنها ارتفع إلى مطلب الاعتراف بها "دولة للشعب اليهودي". 

   بذلك ظهرت جلية العلاقة الشرطية بين إنهاء الانقسام الداخلي ووقْف التمديد التفاوض الثنائي المباشر والتحلل من التزاماته السياسية والأمنية والاقتصادية المعبَّر عنها في شروط "اللجنة الرباعية" التي تتحكم الولايات المتحدة تماماً بمواقفها واجتماعاتها وقراراتها، ما يعني أن  مدخل الخروج من المأزق الوطني كان ولا يزال سياسي بامتياز، وأن خطوته الأولى تتمثل في إجراء مراجعة شاملة لسياسة منظمة التحرير الفلسطينية، وليس في سياسة إقالة أو تعديل أو استقالة حكومات "السلطة" وتشكيل حكومات جديدة ثبت عجزها حتى عن إعادة توحيد مؤسسات "السلطة" في الضفة والقطاع، فما بالك أن تقوى على إعادة توحيد فصائل وجهود وإمكانات ومؤسسات الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات.

   رغم ذلك عادت حركتا "فتح" و"حماس" قبل عام ويزيد، وكل منهما لأسبابها وحساباتها وأهدافها وأزمتها الخاصة، إلى السياسة الفاشلة ذاتها، حيث توصلتا، على عجل وبصورة مفاجئة، إلى "تفاهم الشاطئ" "لتنفيذ "اتفاقات المصالحة"، بدءاً بتشكيل حكومة "توافق" "تكنوقراطية" لإعادة اعمار القطاع والإعداد لانتخابات رئاسية و"تشريعية"، وكأن ذلك شأن فلسطيني داخلي ولا يتطلب موافقة إسرائيل والالتزام بشروط "اللجنة الرباعية". هنا كررت الحركتان ما حصل في "اتفاق مكة"، 2007، حيث أرجأتا في "اتفاق الشاطئ"، 2014، التوصل إلى حل سياسي شافٍ وواضح للخلاف حول عقيدة ووظيفة الأجهزة الأمنية في الضفة والقطاع، وإعادة بناء وتوحيد وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، ومعايير تسوية أوضاع موظفي "السلطة" في قطاع غزة، سواء الذين عينتهم "حماس"، (نحو 42 ألفاً)، أو المستنكفين عن العمل بقرار من "السلطة" في الضفة. لذلك، كان من الطبيعي أن تتكرر تجربة فشل حكومة "الوحدة الوطنية"، رغم موافقة "حماس" على "احترام الاتفاقات الموقعة" في "اتفاق مكة"، في صورة تعطيل عمل حكومة "التوافق" في القطاع، رغم تمرير "حماس" إعلان الرئيس بأن برنامج الحكومة هو برنامجه الملتزم بشروط "اللجنة الرباعية"، أملاً في حل أزمة الحركة المالية، بينما اشترطت تسليم إدارة القطاع لحكومة "التوافق" بدفع رواتب موظفيها، ومنعت الموظفين المستنكفين من العودة إلى مزاولة عملهم. هنا تبين أن قيادتي "فتح" و"حماس" إنما اضطرتا لتشكيل "حكومة التوافق"، وأن كل منهما لم تتخلَّ عن محاولة فرض شروطها على الأخرى، بينما جاء عدوان الاحتلال على القطاع بعد شهرين على تشكيل "حكومة التوافق" ليزيد أوضاع سكانه على المستويات كافة بؤساً على بؤس، حيث باتوا ضحية لتنافس "حكومة التوافق" التي تدير القطاع بالاسم والشكل، وأجهزة حكومة "حماس" التي تسيطر عليه واقعياً ولم يطرأ عليها تغيير سوى استقالة وزرائها، بما يذكِّر بشكلية واسمية إدارة "حماس" لحكومة "الوحدة الوطنية" بعد "اتفاق مكة".

   هنا، عوض أن تتعظ قيادتا "فتح" و"حماس" وتكفا عن مواصلة السير في المدخل الفاشل للخروج من المأزق الوطني، أي مدخل استقالة أو تعديل أو إقالة حكومات "السلطة"، وعوض أن تذهبا إلى المدخل الفعلي للخروج من هذا المأزق، أي مدخل المراجعة الوطنية الجماعية الجدية الشاملة للسياسة التي أوصلت الشعب الفلسطيني بأسره، وليس في الضفة والقطاع فقط، إلى أزمة بنيوية تتاخم المأزق. نقول عوض الذهاب إلى مدخل الاتفاق أو التوافق الوطني على استراتيجية وطنية موحدة جوهرها البرنامج الوطني، الدولة العودة وتقرير المصير، أي برنامج منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، عادت حركتا "فتح" و"حماس" إلى تبادل الاتهامات حول فشل "حكومة الوفاق"، بل وعادتا، وكل منهما على طريقتها، إلى تجريب المدخل الفاشل ذاته. ففي حين تحاول قيادة "حماس" استمالة بقية الفصائل لقبول تشكيل "إدارة فصائلية" لقطاع غزة لتغطية سيطرتها عليه واتصالاتها غير المباشرة مع حكومة الاحتلال لتثبيت "التهدئة" لمدة طويلة لقاء رفع أو تخفيف الحصار وفتح المعابر وتسهيل إدخال مواد البناء وربما بناء ممرريْن بحري وجوي، اتخذ "المجلس الثورى" لحركة "فتح" في اجتماعه الأخير قراراً يقضي باستقالة أو إقالة "حكومة الوفاق" وتشكيل "حكومة وحدة وطنية تشارك فيها جميع الفصائل". وفي مسعى لمشاركة ما أمكن من الفصائل في الحكومة الجديدة طُرِح الأمر على "اللجنة التنفيذية" لمنظمة التحرير التي شكلت لجنة من أعضائها وأعطتها مهلة أسبوع للاتصال والتشاور مع الفصائل، بما فيها "حماس"، وحثها على المشاركة في هذه الحكومة، مع الإشارة إلى أن برنامجها السياسي سوف يكون برنامج قيادة منظمة التحرير الملتزمة بشروط "اللجنة الرباعية"، وأن الفشل في تشكيل هذه الحكومة لا يعني التوقف عن المحاولة. إن الخطوات الأخيرة لقيادتيْ "فتح" و"حماس" إن هي إلا تجديد لـ"اللعبة" الفئوية ذاتها وللمدخل الفاشل ذاته. وبالتالي فإنها لن تفضي إلا إلى إطالة أمد المأزق الوطني وتعميقه أكثر فأكثر.