حكاية ولدٍ غزيٍّ وبحّار يدعى غسان!

حجم الخط

(إلى روح الشهيد غسان كنفاني... وإلى أطفال فلسطين...وأطفال العرب جميعا)

"سمعتك أمس في الغرفة الأخرى تسأل أمك: أأنا فلسطيني أيضا؟ وحين قالت لك: نعم، خيّم صمت ثقيل في البيت كله، كأن شيئاً كان معلقاً فوق رؤوسنا فسقط، وانفجر دويّه، ثم صمت (...) وحين دخلتَ إليّ، خيل إليّ أنك آت من غارك الخاص، وأن صوتا ما قد قال لك: "اقرأ" فأرعبك في البدء، ولكنه وضع خطاك على بوابة الطريق". (غسان كنفاني - بيروت –"فضول طفل أم قدر رجل؟" - 1967).

(1)
ذات صباح تموزيّ في بيروت وقبل أن يطير الندى عن أجنحة الفَراش... وقبل أن تستيقظ حقول القمح... وفيما الشمس لا زالت تعانق النوافذ التي لم يغادرها دفء المساء... فاحت رائحة القهوة... سارت من شرفة إلى أخرى... مرّت على الجيران والأطفال ومعها حملت تحيات الصباح...
في ذلك الصباح "جلسنا جميعنا أطول من العادة، نشرب قهوتنا التركية على الشرفة. وكان لدى غسان كما هو دأبه الكثير من الأمور للتحدث عنها، وكنّا كما هو دأبنا دوماً حاضرين للاستماع"... غادرنا الصباح... انتهى زمن القهوة سريعا... في الصالة كان شغب حبيب بين ثلاثة أطفال ورجل له قلب طفل أيضا... في النهاية أصلح الرجل "القطار الكهربائي لابننا فايز ولابنة أخته وأخيها"... وقف الرجل قليلا ... تأمل الأطفال وهم يتابعون دوران القطار الصغير... تمنى لو يبقى أطول... لكنه نظر إلى ساعته... عليه أن يغادر فهناك عمل ينتظره في مكتب المجلة... وهناك رفاق ينتظرون أيضا... كما ينتظره وطن على مسافة نداء...
نظر غسان في عيني زوجته وشقيقته، قبّلهما ضاحكا وقال: هيا بنا يا لميس... سيكون هذا اليوم مشهودا... لوّح بيده مودعا وضاحكا... ولحقت به صبية تطير أمامه وإلى جانبه كفراشة...
"
كان على لميس، ابنة أخت غسان، ان ترافق خالها الى وسط البلد للمرة الأولى منذ وصولها من الكويت بصحبة أمها وإخوتها لأسبوع خلا"... لم يتلاش بعد دفء قبلة " إلى اللقاء" التي تركها غسان على شفاه زوجته وجبين شقيقته... هما فقط دقيقتان كانتا كافيتين لتكونا أيضا فاصلتين بين دفء الحب وضحكة الصباح ورائحة القهوة ومناغاة الأطفال وبين انطلاق صفير الرحيل في عمق البحر الذي يلُوح من الشرفة كسماء هبطت عند خط الأفق...
دقيقتان فقط ... "حتى دوى انفجار مريع... تطايرت نوافذ البيت جميعها. انحدرتُ بسرعة، لأجد اشلاء سيارتنا الصغيرة تحترق. وجدنا "لميس" على بعد بضعة امتار، ولم نجد غسان. ناديته باسمه، ثم اكتشفت ساقه اليسرى. وقفت مشلولة، فيما راح فايز يضرب برأسه الحائط، ورددت ابنتنا ليلى النداء تلو النداء: "بابا، بابا..". 
وبالرغم من ذلك فقد ساورني أمل ضئيل بأنه قد اصيب اصابة خطرة ليس إلا. لكنهم عثروا عليه في الوادي، قريباً من منزلنا، ونقلوه بعيداً عنّا، وفقدت الأمل بأن أراه مرة اخرى..."
تطاير الجسدان معا... جسد بحّار فلسطيني يدعى غسان وجسد فراشة كانت تطير قرب عينيه اسمها لميس... 
قعد اسامة قرب جسد أخته الميتة، وقال لها: "لا تجزعي، يا لميس، ستكونين بخير، وستعلّمينني الانكليزية من جديد..".
كان ذلك المساء له طعم الفقد الهائل... اعتكر البحر... وعلا الموج كما الحزن... في الصالة ... في العتمة كان قطار صغير يقف بصمت حزين وغريب... فقط صوت نحيب عميق من عيون طفلة لا زالت تنتظر عودة والدها... لم تفهم... "في المساء قالت لي صغيرتنا ليلى: ماما، سألت البابا أن يأخذني معه في السيارة لنشتري شوكولاته، لكنه كان مشغولاً، فأعطاني لوحاً كان يحتفظ به في جيبه. ثم قبلني وطلب مني الرجوع الى المنزل. جلست على درج بيتنا لآكل الشوكولاته، وحصل دوي كبير. لكن، يا ماما، لم تكن تلك غلطة البابا، إن الاسرائيليين هم الذين وضعوا القنبلة في سيارته"... 
مساء نامت بيروت على وقع فجيعتها... مع منتصف الليل كانت يدٌ تحمل قلماً تقترب في ضوء القمر من الشاطئ... بهدوء غاصت في الماء وراحت في البحر وعمق الليل تجذِّف... وتبتعد جنوبا... كان القلم يشبه مجذافا... أو محراثا أو مفتاحا أو ربما بندقية... كان الحزن يلف البحر... ومن العمق بدت بيروت كعاشقة مفجوعة... رحلت عيناها وراء القلم الراحل أو معه... ومع الفجر سالت دمعة... عند خط الأفق بدت اليد خارطة تشبه وطنا يرفع سارية تشبه قلما يشبه مجذافا يشبه بندقية.. وأحيانا يشبه مفتاحا...
سأل البحر اليد: إلى أين في هذا الفجر؟
-
إلى عكا... 
صمت البحر... ثم ابتسم... 
-
لا بأس... ولو حتى أشلاء فالعودة قدَرٌ... فهذا أيضا نوعٌ من عودة... 
أمر البحر الأمواج بأن تهدأ... وأن تغني كي تبدد وحشة قلم يرحل في الفجر إلى وطن... هدأ الموج... واحتضن القلم وراح يغني... 
في ذلك اليوم أقسم بحّار يجوب البحر كثيرا... أن البحر قد غيّر مجراه... والتيارات البحرية عكست وجهتها... راحت في ذاك اليوم جنوبا تمضي... هادئة تمضي... كانت تنشد ألحانا تشبه أغنية لم يألفها البحّارة من قبل... 

(2)
الثامن من شهر التين...في بيروت... قيل أن كوكبا دريّا قد انفجر وتشظى... ومعه هوى قمر يتبعة كفراشة... قيل أن الكوكب يشبه وجه بحّار فلسطيني يدعى غسان، والقمر بحجم فراشة اسمها لميس... كانت تلك اللحظة تشبه لحظة موت، أو لحظة تكوين وولادة... في ذاك اليوم انهمر الضوء بلون الحنّون فأضاء بيروت وأشجار الأرْز ثم امتد إلى البحر... ومن هناك امتد ليغسل أشجار الزيتون من رأس الناقورة حتى غزة...
كانت يد البحّار تحمل قلما... أرسلها التفجير إلى البحر... ومن هناك راحت تبحر... أقسم بحّارة في البحر المتوسط أنهم يشاهدون في الليل المقمر يدا تشق البحر كزورق... تحمل مجذافا يشبه قلما... وتمضي جنوبا كشراع أزلي... تمضي إلى وطن يشبه حلما ويقيم على مسافة حقلٍ من حنّون... 
منذ الحَوْلِ الأولِّ بعد التفجير... والمواسم تهلُّ وترحل...يهلّ ربيع ويرحل... واللوز يزهر في نيسان أو أبكر... يأتي تشرينٌ ومعه موسم زيتون، يرحل تشرين ويأتي آخر في العام القادم... أما الصحراء فلا زالت كالبحر... تبتلع الفلسطيني فيغوص عميقا في كثبان الرمل... وككمأ الصحراء يعود مع الرعد... 
تهلّ الأقمار قمرا يتبع قمرا... ويزداد القلم عنادا... ويجذِّف... ويجذِّف... يذهب حينا في عمق البحر وحينا نحو الشاطئ... لكن البوصلة تبقى ثابتة... تشتد الأنواء البحرية والبوصلة لا تفقد وجهتها أبدا... عكا
وغير بعيدٍ امرأة مشرعة كالرمح على شاطئ غزة تسأل: أين فلسطين.. بل أين الضفة والقدس؟ ومن أين الطريق إلى حيفا أو عكا؟ فالطفل في الرحم قد اكتمل... سأطلقه ليلحق أقداره ... ليصنعها... هو أيضا يحمل بوصلة ويبحث عن عكا... ومن هناك إلى صفد أو أبعد... تقول المرأة للبحر: أحِنُّ إلى شربة ماء من بئر تحرسها شجرة صبّار... بئر تنتظر بصبرٍ أن تعود إليها فتاة تركتها يوما قبل أن ينْهدَ نهداها... ولا زالت تنتظر

(3)
قالت أقدار التكوين ورُقُم الفخّار الكنعاني: يولد في هذي اللحظة طفل قرب الشاطئ على جبل أو في خيمة... ما أن يطلق صرخته الأولى حتى يبقى مشغولاً بسؤال مِلْحاحٍ وشقيٍّ: أأنا فلسطينيّ؟ وماذا يعني ذلك؟
منذ أن انفجر البحّار في اليوم الثامن من تموز... وفلسطين تنجب أطفالا وزوارق... زيتونا وبنادق... عشرون حربا... ألف هجرة... مئة سجن... مليون زنزانة... ألف شهيد... وآلاف أخرى... وتزدحم جدران البيوت والشوارع بالصور... فيغفو وجه شهيد فوق الآخر... وتطول القائمة وفلسطين لا تتعب أبدا... تنجب أطفالا... ترضعهم ... تغسلهم بالزيت وتفركهم بالملح البحريّ..وما أن يكتمل البدر... حتى تطلقهم نحو الشمس وتنتظر... هي أسطورة خلق تتبع دورتها المنقوشة على رُقُمِ الطين الكنعاني الأول... يقتل "موتٌ" "بعلاً" فترتبك فصول الكون... فتنتفض "عناة" وتنهض فتعيد النبض إلى بعل...... فينهمر المطر ... فيكون ربيعٌ... ويكون صيفٌ ويكون أيلولٌ وتكون أوراقٌ بلون الوهج
تتسع الصحراء وتمتد... تتجاوز جثث رجال ماتوا في الشمس... فوق الرّمل اللّاهِب... الصحراء ما عادت تسأل: لماذا لم يدقوا جدران الخزان... بل تسأل: أين فلسطين... ولماذا باتت أصغر... الفكرة كانت أكبر...؟ هذا ما قال الشاعر... ولماذا بات الموت حياة... والحياة باتت تشبه موتا؟
أين الخطأ؟ يسأل شيخ كنعاني يتوقد ذاكرة ونقوشا... يحفظ أسطورة بعل وعناة... كيف ضاق الوطن كثيرا...؟ فرسائل بعل لعناة من أقصى الكون كانت حاسمة:
[
عند قدمي عناة انحنيا واركعا، اسجدا وبجلاها
وقولا للعذراء عناة، أعلِنا لسيدة الأبطال
رسالة بعل العليّ، وكلمة بعل الظافر:
"
أن أقيمي في الأرض وئاما،
وابذري في التراب المحبة،
واسكبي السلام في كبد الأرض،
وليهطل الحب مخترقا جوف الحقول...] (من الأسطورة الكنعانية).
فكيف انحسر البحر...!؟ كان الأجداد يجوبون الأزرق من أقصاه إلى أقصاه... لا يقربهم لص أو قرصان... كانوا أسطورة هذي الأرض وهذا البحر... أين نخيل الكنعانيين السامق يغازل قمر أريحا... وقدور الفخّار الأولى بالزيت تفيض... ما نعرفه أن الكنعاني لا ينسى مكان ولادته... كهف كان أو سفح جبل أو عند الساحل أو فوق رمال الصحراء... أين الوطن الأسطورة؟ والأسطورة ليست عبثا... فمنها الأسماء ومنها الوعي... هي حكاية سنبلة تشرب مطرا "بعليا"... ثم يراقصها المنجل في أيار فتنقسم إلى خبز ثم تعود وتفنى لتنبت حقل سنابل... وتروي الأسطورة أيضا حكاية ثوب امرأة كنعانية تحرسها أوراق العنب وعلى الصدر سنابل قمح... هلالٌ وصليبٌ... كانا حتى قبل الأديان... فأين الفكرة... أين الوطن الفكرة؟.
صمت الشيخ الكنعاني قليلا... ذهب بعيدا... ثم عاد يهمس أين الوطن الفكرة؟ فعكا لم تغادر شاطئها... لقد أطلقت البحار ليحمل فكرتها وها يعود إليها قلم يسبح عبر البحر... ومن قبل ومن قبل... كانت لعكا أحلام شاسعة... ألم يزرع فيها الشيخ الكنعاني ظاهر العمر الزيداني بذرة ثورة...تقول الرُّقم الكنعانية أن الظاهركان يحلم بوطن ممتد... يصعد شمالا ويمضي جنوبا... كانت عكا نقطة تكوين للفكرة... ومنها نادى الظاهر مريم الناصرية لتحمي الحلم "هيّا يا ابنة عمران جعلت اتّكالي عليك بعد الله إن أنت نصرتني فلآخر حياتي لا أنسى لك هذه الآية. ويكون زيت قنديلك من عبدك". ولم تخذله ابنة عمران فأوفى العهد... غير أن اللصوص اغتالوه... لكن الفكرة بقيت تنبض في عكا... تتحدى البحر وتحلم بشيخ أو بحار... ليحملها في قبضته كالجمرة.
فأين الوطن الفكرة... ؟ أين الأحلام الكبرى؟

(4)
من شفق الأفق البحريٍّ... من زبد الأمواج خرج ولدٌ غزيّ كان بحجم الطلقة... يحمل "بارودة"... كانت أطول منه قليلا...
قيل أن خاله أوصى أن يكتب على شاهدة قبره " لا يحمل بارودتي من بعدي إلا من يقسم أن لا تفارق يده حيّا... وأن يحفظ وجهة ماسورتها وشرف رصاصتها".
...
قيل أن أم الولد الغزيِّ حين رأت الولد يحمل بارودة خاله دمعت عيناها... قالت: يا طفلي... ثقيلة "بارودة" خالك...؟ لا تحملها قبل أن تتأكد من ساعدك.... لا.. لا... بل أولا من قلبك... فبارودة خالك غالية وعنيدة... لا تستسلم أبدا... فهل ستطيق عليها صبرا... إن كنت كذلك فاقسم... وإلا فوالله لن تحملها...!
راز الولد البارودة... تأملها... فسرت منها في الساعد نحو القلب نبضة تشبه برقا... نظر الولد في عيني أمه...قال: أقسم بعقال خالي الأسمر كالليل... بشالك الأبيض كالغيم... أن لا تترك هذي القبضة بارودة خالي... وأن أحفظ في كل الأنواء وجهة ماسورتها... وشرف رصاصتها كما كانت في يده... 
أطلقت الأم نظرة عزٍّ قالت: خذها يا ولدي... هذا قدرك مكتوب في الرُّقُم الأولى... ولا تنس فخالك لا يمزح أبدا... فالوعد هو الوعد... والقسم هو القسم... فاذهب... لا تفقد دربك... "فبارودة" خالك تعرف تيارات البحر كبحّار ماهر... وتعرف تضاريس الأرض كفلاح كنعانيٍّ لا ييأس... فلاح يزرع قمحا وشعيرا... زيتونا... رمانا عنبا... وينتظر الغيم يدفع غيما... والرعد يتبع برقا والمطر وراء المطر... يحصد قمحا... يعصر زيتونا يعصر عنبا وينتظر المطر التالي... ولا ييأس أبدا.
وقف الولد على الشاطئ... والماء المالح كالدمع يقطر من عينيه ويتلاشى في الرمل الحارق... هل كان ماء أم دمع... لا يدري! ما يعرفه من والده أن الملح ينقّي الجرح... وأن الدمع ينقّي القلب... والبارودة بالملح وبالدمع سيدة الكون ولا تخطئ
عند الحد الفاصل بين اليقظة والحلم... جمعت أقدار الكون على شاطئ بحرٍ في وطنٍ في درب التّبانة ولدا غزيّا مع يد بحّار تحمل قلما يشبه مجذافا أو محراثا أو مفتاحا أو بندقية... يدٌ أدمنت البحر وصراع الأمواج... ومع ذلك لم تترك في كل الأنواء الدفّة... والدفّة قلم كالرمح وضوحا... كالسيف... يحدد خط السير في البحر وفي البر كذلك... وخط السير يقود إلى وطن مسبيٍّ منذ ثلاثة أجيالٍ ويزيد... نحو حدودٍ يحفظها القلم تماما... كان يعلِّمها... وكرغيفِ الخبز يقدِّسها... فكيف يكون الخبز بلا أرضٍ!.
سأل الولد يد البحّار: من أنت؟
نظر البحّار أو يده، لا فرق، إلى الولد... ولد يحمل بارودة أطول منه! أعجبه ذاك كما أعجبه صفاء العينين وحسمهما...
قال البحّار: أنا الذاكرة وحقل الحنّون... ألا تعرفني؟ ألا تذكرني؟ أنا البحّار الذي أنقذه الموت ليحيا... أجوب الشاطئ منذ عقود وعقود... ترافقني فراشة تترك أثرا للآتين مع الليل أو عند صلاة الفجر... أقول سينمو الأثر... وسيمتد حتى يُحدِث موجا... فيغسل هذي الأرض وبالملح وزيت الزيتون يطهّرها... صمت قليلا وأضاف: وأيضا بالحبر الصادق كالطلقة يحميها الوطن الفكرة.
صمت الولد تأمل وجه البحّار... وقال: أيها البحّار العارف بالأنواء وقناديل البحر ينبؤني الحدس البحريّ أنك تشبه "صاحب قبر له رقم (230191)" هو صديقك... أليس كذلك...؟ سامق وعنيد كان، ويحمل قلما أيضا ولا يرسم إلا بالأسود والأبيض... كان يقول كي يبقى الحد الفاصل بين الليل الداجي ونهار يشرق كالصبح... اسمه ناجي... لم يستطع العودة أيضا... فغفا هناك... هناك بعيدا بين الصنوبر في لندن... هو أيضا يرفض أن ينسى... بل ومنذ عام الرّماد الأول يرفض حتى أن يكبر... هو طفل في السادسة وينسي أن يكبر... ينتظر ويحلم بقمر معلق فوق الجليل حتى يعود... يعود إلى "الشجرة"...
نظر البحّار بعيدا... غامت عيناه... ارتجف القلب... وهمس: نعم ... هو صاحبي... كما كان صاحبي أيضا صديق مات على سرير له رقم أيضا... (السرير رقم 12)
-
والآن خبّرني...!
-
أخبرك بماذا؟ 
-
عن يافا.

(5)
وقف الولد... حمل "بارودة" خاله... نظر في وجه البحّار مباشرة: أتسألني عن يافا؟ ... ماذا أخبرك! برتقالها لا زال يزهر حزنا وله طعم الحزن المرِّ... ورجال يافا يغذُّون السير تحت وهج الشمس بحثا عن ميناء في وطن... والصحراء كما تعرف شاسعة... لو تعرف كم دقّ رجال يافا جدران الخزان... لقد دقوه كثيرا! وغزة أيضا دقت جدران الخزّانات جميعا!... واليرموك كذلك... ونهر البارد! غير أن آلاف أبي الخيزران كالجراد انتشروا يقودون شاحنات تحمل أطفالا ونساء ورجالا كانوا يلقون بهم جثثا في الصحراء أو البحر لا فرق أو عند الحدود... ماذا أقول سوى أن العالم لا زال كما تعهده قبل أن تنفجر ككوكب دُريّ منذ أربعين صيفا ويزيد... "عالم ليس لنا"...! 
أيها البحّار... هناك سؤال يحيرني فقل لي: كيف لململت جسدك... وكيف ميّزت أشلاءك عن أشلاء لميس لتأخذها معك... كيف؟ أم هو "عشق" الخال لابنة أخته.. أن ينفجرا معا... ويرحلا معا!؟ 
قلتَ بأنك كنت تكتبُ لها كل عام كتابا وبالرّسم تزيِّنه... خالي رحل ولم أرحل معه... لم يرسم لي رسما... وكتابا لم يكتب... كانت أمنيتي أن يكتب لي .. لكن لم يفعل... ولكن ترك لي هذي "البارودة"... قالت أمي البارودة ستعلمك الرسم ولم أفهم.
قال البحّار: ليت الفراشة لم ترحل معي... ليتها الآن معك... ولكن هذا ما كان... وتسألني كيف ميزت الأشلاء؟ كان الأمر سهلا... لقد تبعت أثر أجنحة الفراشة... وهو أثر لا يخطئ أبدا... بالضبط كما "بارودة" خالك لا تخطئ وجهتها.
والآن – قال الولد الغزيُّ- ماذا تركت لنا أيها البحّار الراقد عند حدود الصبر وصبرا؟ اعذرنا فإنا نسأل بغباء كالعادة... 
نظر البحّار عميقا في البحر وقال: قلمٌ وبقايا جسدٌ منثور في بيروت... في وجه الجبناء ولصوص الأوطان وقراصنة الدّم... قلمٌ لم يصمت أو يرضخ... لم يجدوا معه حلاّ إلا التفجير... أتريدون أكثر من هذا... فماذا أملك غيرهما؟ هذا "ما تبقّى لكم" فهل هذا يكفي ... كي لا تتوه البوصلة... ولا تخون الدفة وجهتها!؟
نظر الولد إلى الأرض حياء... ثم إلى البحر... وشدّ على "البارودة" قبضته...

(6)
قبل أن يمضي الولد في رحلته نحو الأقدار المرسومة والبحّار كذلك... كما هو مكتوب في رُقُم الطين الكنعانية... التفت البحّار إلى الولد وقال: إمض أيها الولد... قد نلتقي بين حينٍ وحين... بين موتٍ وموت، بين حياةٍ وحياة... بين شمسٍ وقمر... بين بحرٍ وبرٍّ... بين وطنٍ وشبه وطن... بين بحرٍ وميناء... ولكن إياك أن تترك بارودة خالك... مهما كلّفك الأمر... فتلك "البارودة" مجذافك كي لا تغرق... وعندما يرهقك الرمل ستتكئ عليها... وعندما يغمرك الحزن ستغني لك... وعندما ترغب بالنوم ستفرد ضفائرها كالغيمة فتوسّدها... ستحميك من أهوال الأحلام ومن قطّاع الطرق وقطّاع الأوطان والليل ومن القراصنة... فلا تنس.
سأل الولد
أفي البحر قراصنة ولآلئ؟
ضحك البحّار: كما على البرِّ نخيلٌ ولصوصٌ وبنادق!

(7)
ركب الولد الغزيُّ سفينته وسافر في البحر... كانت وجهته عكا... هبت ريح عاصفة... فاحتضن الولد السارية... ولم تفارق عيناه البوصلة... وانتظر أن يأتيه النورس ليلاً أو فجراً... انتظر كي يحمله الموج وأعشاب البحر إلى عكا... 
قال الولد: لي في عكا بيتٌ... شجرة خرّوبٍ ونافذةٌ مشرعةٌ على بحرٍ أزليٍّ... سأقف على الشاطئ... سأقرأ الفاتحة وبعض الإنجيل على ضريح قلم انفجر ذات صيف في الثامن من تموز...فالقلم يقيم الآن هناك تحت شجرة خرّوب... سأضع باقة زهر برّيٍّ وزهرة رمّان... وبعض الحبر وبعض الأوراق البيضاء... فالقلم يشتاق لعناق الأوراق... والحبر الأزرق كالبحر
وبعد؟ قال سأصعد نحو الجليل... سأبحث عن بئر على سفح يطل على البحر، بئر تحرسه شجرة صبّار... يراقصه القمر مساء ويغسل وجهه فيه... هناك سأرتاح قليلا... قد أشعل نارا... ومع الصبح سأحمل شربة ماء لامرأة تنتظر على شاطئ غزة... هذا عهد مني... وبارودة خالي حازمة إذا ما ارتخت القبضة أو اهتز القلب
أخذ الليل وأعطى... لكن الشفق البحريّ لم يظهر بعد للولد الغزيِّ...
نظر الولد إلى الموج الساكن... قال: سأغني أغنية كي تأتي الريح وتحملني حيث الغيم... ليكون الوعد... وطير الرعد... وعكا.

(8)
أنتظر الولد على الشاطئ... في أفق البحر الغربي غيم بلون الرّماد... ريح تعوي... انقبض قلب الولد فشد البارودة... من عمق البحر يلوح شبح وحشي... شراع لا يحمل خيرا... وحش فولاذي القلب... شراع وبنادق... غير بعيد... تقدم قرصان وقراصنة... اقتربوا... واقتربوا... صرخ القرصان: سلم بارودتك أو الموت!
اهتز القلب... هاجمه الخوف... نظر الولد يمينا وشمالا... نحو البحر ... نحو الأرض... لا أحد... هو وحده... ابتعد الولد قليلا... شد إلى القلب البارودة... هدأ القلب... ثم أضاء... جنوبا فوق البحر وكطير بريّ تراءى وجه امرأة... راحت تنتظر...قال الوجه: الآن هي اللحظة... فقرّر يا ولدي... هل ستسلم بارودة خالك؟
صمت الولد... حدق في الأرض ... نظر إلى البحر... ثم إلى البارودة... كانت هادئة تنتظر...
نحو السماء أرسل عينيه وقال: أقسمت برأس خالي ومنديل أمي أن أحفظ شرف البارودة... فهي البوصلة وهي المجذاف... وهي الشرف فكيف أسلمها!
احتضن الولد الأرض... وشد القبضة... وقال باسم الله وباسم الأرض وباسم الوطن وبرأسك يا خالي وبشالك يا أمي... وعمّرها بالطلقة... 
ارتجف القرصان قليلا... فاجأه الموقف والحسم... اهتزت سيقان القراصنة الأصغر... قالوا ماذا نفعل فالولد عنيد لا يمزح...!؟ 
أمر القرصان الحشد... فتقدم والبعض تردد... في تلك اللحظة حيث الحسم يأخذ شكل الطلقة... وحين تكون المواجهة تعادل موتا... أطلقت البارودة أغنية... دوت طلقة... سقط القرصان... وساد الصمت... ما حادت عين الولد عن الحشد... عمّر ثانية... هدأ القلب تماما... انحسر الغيم الأسود... بدت الشمس تطل على البحر وعلى ولد يحتضن الأرض ويقاوم وحده...
قيل أن القدس في تلك اللحظة شاهدت البرق يضئ البحر... وأن النوارس في غزة هبطت قرب الشاطئ... وقيل أن امرأة في غزة لها ولد يحمل بارودة خاله ويجوب الأرض شمالا وجنوبا... قد نهضت والبسمة تغمر عينيها بهاء... قالت: هذا ولدي... وهذا البرق طير الوعد... لقد أوفى الولد الكنعاني الوعد واجتاز اللحظة... ومنذ الآن سيرسم أقدار التكوين... وحدود الأرض
إلى البحر عاد القراصنة وغابوا كضباع مهزومة... نهض الولد... ومعه نهضت بارودته... كانت دافئة كالصبح... كانت تبتسم... قبلها الولد وعانقها حد النشوة

(9)
مع الصبح حمل الولد البارودة ومع الشاطئ غرّب غربا... كانت وجهته صفد... في البحر الممتد اشتد الموج... وبعض السفن العابرة اقتربت منه... هابته... قال البحارة: في عيني هذا الولد ألقٌ سحريٌّ ويحمل أيضا بارودة... إنه يذكِّرنا... يذكِّرنا برجل كان... وما هانت ذمته يدعى أحمد طرباي... يعود إلى طئ... قبل قرون جاء... وإليه التجأ المظلوم ابن سِيفا هربا من ظلم الوالي... قيل بأن الوالي العثماني طلب التسليم... فأعلنها أحمد حربا... ليبقى الشرف... وأحمد هذا أعطى صفد المجد... والولد يقول أن وجهته صفد فما هذا التقويم؟ 
نادى بعض البحارة من بعدٍ: لا تمض... فصفدٌ ذابت في البحر كما الملح... ولهذا سنحاول أن نرسو على جبل في "الضفة" فذلك يكفينا... ألا تتبعنا؟ سنكفيك متاعب هذا السفر وهذا البحر... لكن عليك أن تترك عند الشاطئ بارودتك... لست بحاجتها... فماذا تقول؟
نظر الولد شمالا نحو الأفق... عاد وفي شكٍّ سأل البحارة: وأطفال الضفة والقدس... ألا يبحرون من باب العشق إلى صفد؟ نظر البحارة خجلا نحو الأرض... وعادوا نحو السفن الرّاسية على الرمل... كانت سفنا تحمل بقايا أعلام باهتة... فيما الصّاري مكسور والصدأ البحريُّ يغطي المرساة
قال أحد البحارة: اتركوه... فهذا الولد لن يعيش... ألم يحاول طرباي قبل أربعة ومات قبل أن يحقق فكرته... وبعده بقرنين نهض الشيخ الزيداني فقتلوه... كما قتلوا قبل عقود البحار غسان هو أيضا سيقتلوه.. فاتركوه!
قال بحار طاعن في السن: حتى لو قتلوه... فلن يغير هذا من الأقدار شيئا... فهو فكرة عابرة للزمان والمكان... والأفكار النبيلة لا تموت... الم تقولوا أن فيه شيئا من طرباي والشيخ الزيداني... رغم أنهما رحلا قبل قرون! فانظروا الآن... هذا الولد هو فكرتهم التي لم تمت... حتى وإن قتلوه فسيأتي غيره... لا يمكن قتل الفكرة... فقط يتم تأخيرها هذا كل ما في الأمر.
سار الولد على الشاطئ حائرا... وتساءل: لم الكل يحاذر هذي البارودة تحديدا؟ فهي لم تفقد وجهتها... ولم تطلق خطأ... شد القلب على "البارودة"... وقال: هو ذاك إذن... لأن ماسورتها لم تفقد وجهتها... لم تنس الماضي... وبالنار الساطعة وبالفكرة تخط طريق المستقبل...
نظر الولد إلى البحارة... كان حزينا... قال: لا بأس سأذهب إنشاء الله إلي صفد فيما بعد... ولكن لن أتبعكم... فدربي تختلف... ودرب التبانة تؤشر نحو الموج... وأنا اتبع قمري... وأدار البوصلة جنوبا وفي البال امرأة عند الشاطئ تنتظر... امرأة تحلم بشربة ماء من بئر، بئر تحرسه شجرة صبّار، فيه ماء يراقصه القمر مساء فيغسل وجهه ويمضي راحلا مع ليل الجليل...

(10)
عند الشاطئ عصرا امرأة من غزة تطلق في البحر مئة زجاجة في كل منها ورقة تطلب فيها شربة ماء... وفي السماء طيّرت ألف رسالة تطلب فيها أيضا شربة ماء... لكن لم يسعفها أحد لا بالماء ولا بالردِّ... كان الموت يحاصرها... انتظرت طويلا.. لكن لم يسعفها أحد... لم تر "الأفق وراء البوابة"، فقط كان يحاصرها الموت الفولاذي المتوحش... ويمارس رقصته السّادية في غزة... 
داهمها الحزن... فراحت تبحث عن حلٍّ من ذات الحال ... من تحت الأرض... حلّ يشبه أفقا... حلّ يشبه نفقا... راحت تحفر ليلا ونهارا... قالت: قد أصل البحر... وعلى الشاطئ أنتظر شربة ماء من بئر تحرسها شجرة صبّار... بئر يرقص فيها القمر مساء... نفسي في شربة ماء وعدني أن يحضرها ولد غزيٌّ يحمل بارودة... سأنتظر... إنشاء الله سيعود الولد ومعه شربة ماء من بئر على سفح الجليل.

(11)
سأل الناس: من هذا الولد؟ 
-
قال أنا من غزة... 
-
أأنت فلسطيني؟ 
-
هذا ما قالوه... وكيف لي أن أعرف...؟
شيخ كنعاني شقّ الجمع... كان بعمر الزيتون بهاء... قال: كي تعرف... أنظر في البحر كما عكا... فإن خفت فلست فلسطينيا...إغرس في الرمل قدميك وفي الأرض... فإن غصت فأنت كذلك... أتعرف ما معنى النفق الواصل من عمق الليل إلى عكا...؟ إن عرفت فأنت فلسطيني... 
نظر الولد في البحر الممتد... تأمل صورته ترقص مع خفق الموج...
قال: لا أخشى البحر... وجذري ممتد في الأرض... وبوصلتي تبحث عن عكا... عن صفد... فأنا طفل من غزة... وغزة تحلم بالبحر شمالا... وتبقى تحلم حتى عكا.
نظر الشيخ الكنعاني عميقا في الرُّقُم الكنعانية... قلّبَها... قال: مكتوب عندي في الرُّقُم أن سيأتي ولدٌ غزيٌّ... يتنكبُّ قوسا أو رمحا يطلق نارا أو ما يشبه ذلك... سيجوب البحر شمالا وجنوبا... وأحيانا يبحر في العمق... يطارد قرص الشمس... وفي الليل يلاحق قمرا... هذا الولد كنعاني المولد والنشأة والأحلام... ولدٌ يشبه بعلا... يحفظ شعرا... يبحث دوما عن نقش الأجداد ومواقدهم... ومكتوب عندي أيضا في الرُّقُمِ... أن البحر سيحرسه... ما دام هو يحرس روحه ولا يتبع سفنا هاربة نحو البرّ... مسح الشيخ العارف وجه الولد بعينيه... فلاحت في عمق العينين عنقاء تنفض عن جناحيها الرماد وتنطلق... فتنهد بما يشبه أمنية بعمر التكوين وأكثر

(12)
أمسك الولد الغزيُّ البوصلة... وعلى الكتف الثابت ثبّت بارودة خاله... ويمّم صوب البحر... غاصت في الرمل قليلا قدماه... وتابع سيره...
سأل البحّار الولد: إلى أين؟ 
قال: بوصلتي تشير إلى حيفا... ومنها إلى عكا... ومن هناك صعودا صعودا حتى صفد...
إذن انتظر الريح لتأتي ... فالأشرعة تحتاج الريح... والبحر عنيد...
قال الولد: سأنتظر البحر... والريح ستأتي يوما... وبوصلتي حاذقة... سأنتظر.
سأل الولد البحّارَ: هل عدت إلى حيفا يوما؟ قال البحّار: وكيف أعود والبوابة لا زالت تفتح من الجهة الأخرى!؟ كيف أعود والقوادون يقتتلون من يسرق أكثر من صدر الأم...!؟ كيف أعود وفي البحر قراصنة كما في البر لصوص...!؟ كيف أعود وغزة بعد العام الثامن تلمُّ بقاياها... بقايا أطفال شهداء وشهداء أحياء... كنت أعلّم فن الرسم... ومن غزة اختفت الألوان... ولم يبق سوى شقائق نعمان ورماد... بحر من الغرب ومن الشرق بحر ومن الشمال بحر ومن الجنوب كذلك؟ فكيف أعود بلا غزة!؟. عذرا فالذاكرة امتلأت بالحزن وبالدمع... 
ولكن... في غزة أصوات وأضواء تأتي من تحت الأرض... ودوالي تمد جذورا تمشي بهدوء نحو الماء الصعب... ألا يعني ذلك شيئا؟
سار البحّار على الرمل قليلا... وقبل أن يبحر في عرض البحر.... التفت... وبمكرٍغمز بعينيه... وقال: من يدري... من يدري!

(13)
في القدس كان الوقت صلاة الفجر... والصبح يتنفس... طفل نهض ليصلي... كان يبسمل باسم الله... هاجمه قطيع ضباع وحشية... أشعل فيه النار.... فاشتعل الطفل القدسيّ واحترق كالشمعة حيّا... فآنست السماء مع الفجر نارا قدسية... كما آنست في نفق في غزة أيضا نارا غزيَّة...
في تلك اللحظة ولدٌ يولد...
غسان البحّار يسأل: من هذا الطفل؟
يقول هو أيضا فلسطيني التكوين؟
وكيف ذلك؟
قال الناس رأينا في يده بوصلة تشير إلى عكا... ينام نهارا تحت الزيتون... وليلا يغسل روحه في البحر... ويقول: سأجد الطريق إلى صفد مهما طال الليل... مهما امتنع البحر... فالمدّ سيأتي... وبوصلتي لا تكذب، حتى في الأنواء وعتم الليل بوصلتي تحفظ وجهتها...
فكيف يتوه ولدٌ تعلم فن الرسم... وفن الموت وفن الحياة، وفن العناد... يقول هو من غزة... أحيانا ينسى فيقول هو من يافا، الناصرة، بيسان، اليرموك من عين الحلوة أو نهر البارد أو الوحدات.... أو لا يذكر... يفكر... ثم ينظر صوب الشرق... ثم يقول أنا من بغداد... دمشق، عمان... الجزائر تونس أو طنجة من أقصى بحر في الغرب... من مصر... أو من صنعاء... خافيتي قمر... صحراء ونخيل... أنهار... أهرام... لغة... شعر... زيتون لوز رمان وبِحَار... 
ولدٌ يحمل أحلاما شاسعة... أحلاما تشبه... تشبه ماذا؟ تشبه برقوقا في نيسان...! فماذا يكون هذا الولد وأنت العارف؟
دعني أسأل: هل في عينيه ألقٌ... وهل يحمل بوصلة؟ وهل يسكنه العشق للبحر وأصداف البحر ولؤلؤة بيضاء...؟ هل يحلم بالقدس... وماذا عن بئر في أعالي الجليل تحرسه شجرة صبّار... وهل يعرف طعم عنب الخليل... ماذا عن قمر أريحا؟ وهل يحمل بارودة أطول منه قليلا؟
هو هذا.
إذن هو ولدٌ كنعانيّ لا ينسى... ويعرف وجهته... لن تخدعه بروق الليل ... ولا وعود لا تحمله إلى عكا...
همس البحّار: لم يذهب جسدي هدرا... فالولد يمسك بالسارية... وعيناه على الشراع وينتظر الريح ولا ييأس... 

(14) 
في الشهر الخامس من عام القتل الخامس... نهض الولد الغزيُّ... كان الندى يغمر بارودة خاله... نظر إليها.. وتساءل:
-
لِمَ الدمع صباحا!؟
-
هو الحزن على سفن تبحر في بحر خاطئ... 
-
كيف؟
-
هل تذكر مقبرة الشهداء في اليرموك؟
-
نعم أذكرها... تنام على صدر دمشق... وفي الأعياد وقبل الفجر تمتلئ بأمّهات وباقات الآس ووردٍ بلديّ... كنت لا أميز بين أم فلسطينية وأخرى سورية... وكيف أميز في غبش الفجر بين وجوه من ذات الطينة واللون وذات الحزن... يعانقن شواهد شهداء تقول ذات القول: استشهد من أجل فلسطين.
-
فكيف لا أبكي ودمشق تنزف دمها برصاص يأتيها باسم فلسطين... فهل حارت أو ارتبكت بوصلة دمشق يوما!؟
-
لا أذكر ذلك أبدا... ما أعرفه أن دمشق ما خفضت يوما سيفا أو راية... فمن شاطئ غزة نلمحها ومن الكرمل أيضا... تضئ الأفق كوجه الشام وما خانت عهدا...
-
لهذا يغمرني الدمع... فكيف لي أن أفهم رصاصة تخطئ خط النار وخط السير باسم "الثورة" أو باسم "فلسطين" أو حتى "باسم الله"!... فيما عكا واضحة وحيفا والكرمل ويافا وصفدٌ أيضا... والسفن الراحلة لماذا تُغَيِّرُ وجهتها نحو الشام...!؟ ومنارة قدس الأقداس لا تخطئها العين لا في الليل ولا في الفجر..لا في المدّ ولا في الجزْر...!
صمت الولد الغزيّ... احتضن البارودة فاختلط الندى بالدمع بماء البحر... وفاض الحزن حتى غطّى وجه البحر الغزي الشاسع.

(15)
في عام الرماد السبعين... نهضت في بيت من طين في مخيم صبرا امرأة كالدهر... صاح الديك صيحته الأولى لم تنكر تلك المرأة رايتها... وصاح الديك صيحته الثانية فامتشقت عود دالية لم يورق بعد... فصاح الديك صيحته الثالثة... حملت صرة خبز من قمح بعليٍّ وما تيسر من حب... وقالت: سأصل إليهم في "عيتا الشعب" و"عَلْما"... سيعرفني ابنائي... لن ينكروني حتى لو صاح الديك ألف صحية قبل الفجر وبقي يصيح... فأنا لم أنكرهم يوما أبدا... 
ومضت جنوبا... مشت على الدروب المنسيّة بين الأشواق وبين الأشواك البريّة..كانت تمضي ناهضة في عينيها أحلامٌ موغلة في القِدَمِ... بين الأشجار وبين الأشواك سارت قمرين... ومن شاطئ صور هبت أزهار الليمون... فأنعشت القلب.
رفَّ القلب حنينا... اقترب القلب من القلب... فجاء الهمس:
- "
يمّا أنا هون"!
ابتسمت كالشمس... وضعت صرّتها... بحثت بين شجيرات العليق وثنايا الأرض... طار الفَراش ومن بين أغصان الشوك والعلّيق البريِّ بدا الوجه أليفا كأيقونة مريم.
- "
كيفَكو يمّا"؟
-
جائعون قليلا... لكننا بخير...
هذا خبز من قمحٍ بعليّ ... وفي الأرض تجدون الباقي... 
-
ديروا بالكو يمّأ... وعدتني أن تزرع هذا العود في عكا... فهل لا زلت تذكر وعدك؟
-
وكيف أنسى... وعدا أعطيته لأمي! سيكون ذلك حتى لو لاحقنا كل لصوص الأرض... وقراصنة البحر... فهذي الأشواك والشجيرات وعيونك تحمينا... 
ابتسمت... غمر الفرح الروح...أرسلت نحو جنوب الجنوب بعضا من شوق.. فلاحت صفد في الأفق المتلألئ همست: أقرئي مني عكا السلام... وغزة أيضا... 
استدارت نحو الأشواك وقالت:
-
يمّا انتبه كي لا تخطئ... هناك في الجنوب لي ولد يحمل بارودة خالك ويأبى إلا أن يجوب البحر... تذكر هو أخوك... لا تنس ذلك... لا تخطئ.
قالت ذلك واستدارت عائدة...لا تحمل في يدها شيئا... عادت مشبعة برائحة الأرض ورائحة الشوك البريّ ووعد سيحين حين تكتمل الأسطورة.

(16)
ليلا جلس الولد الغزيُّ على الشاطئ يعانق بارودة خاله... يحلم بالسفر إلى صفد... دفن قدميه في الرمل الدافئ... وراح يحدق في أبعاد البحر... أرسل روحه نحو النجوم... هل من شراع في هذا الليل...؟ سأنتظر مهما طال الليل... قال الولد: سأشعل نارا... اقترب الموج من الشاطئ... غمر أقدام الولد بالزَّبد البحري وبالأصداف... ذهب الموج وعاد... ومع الموج التالي... جاءت يد بحّار تتهادى ... كانت تحمل قلما يشبه مجذافا... يشبه محراثا.. أو سيفا... أو مفتاحا... أو بندقية...أو كل هذا مجتمعا
انحسر الموج رهيفا... قال الموج بعد قليل سأعود... تابع الولد الغزيُّ الموج العائد للبحر...فاستعد القلم... وخط على الرمل
-
هل لا يزال الأعمى أعمى والأطرش أطرش؟ وهل لا زلت أيها الولد الغزيّ تحلم بأن تكون ندّاً... وماذا هيأت لذلك؟ والوطن هل ما زال وطنا مكتملا كالبدر تماما... أعني هل ما زال قضية؟ أقصد هل ما يزال فكرة نبيلة... وهل ما زلتم في زمن الاشتباك الأول... أم غيَّرتم ذلك لاشتباك من نوع آخر؟
توقف القلم وعاد إلى الكفّ الملقاة على الرمل الرطب... ينظر نحو الولد وينتظر
صمت الولد... بدا في تلك اللحظة مرتبكا... أخيرا...حمل البارودة وتقدم ... ثم قرفص أمام الكف التي كانت تشبه قاضٍ يحمل سيف الحسم وتحديد الأقدار... قال الولد:
-
ماذا أقول أيها القلم النبيّ وأنت العارف... هي ربما طبيعة التكوين هكذا... هناك من ازداد عمىً ... وهناك من ازداد طرشاً... وأيضا هناك من يستعيد بصره ومن يستعيد سمعه كل يوم... بين حولٍ وآخر يأتي نبي بلا قبعة أو لحية ويعلّمنا الحق... أو لأقل يذكّرنا: أن الندّ هو من يستعيد الوطن الضائع... والوطن كما أعرف من أمي قضية تعادل أعمارا... هو موقف... أو لنقل هو خيار... هو ليس مجرد ذاكرة أو ريشة طاووس... الوطن قضية تورّث كاللغة حتى يستقيم اللسان... لهذا فهو لا يزال فكرة.. أحيانا تتراجع أو تغيب قليلا ... لكن الدم يعود فيوقظنا ويذكرنا بحقل التاريخ الشاسع... والتاريخ كما تعرف حقلٌ صعبٌ لا تلغيه الكلمات... لهذا ولسبب ما لا أفارق بارودة خالي... قالت أمي: لا تتركها... بل وقالت لي ذلك أيضا يد بحّار فلسطيني – تشبهك تماما- يد تمسك قلما يشبه مجذافا، كان ذلك بعد أن انفجر كوكب دريٌّ في بيروت... ومعه هوى قمر كفراشة... كان ذلك قبل سنين طويلة... قالت لي: أن أثر الفراشة تلك سيحدث موجا... وها أنذا أنتظر الموج ليحملني إلى يافا.. ومنها إلى حيفا شمالا... ومن هناك إلى عكا ثم إلى صفد... وفي الروح تبقى.