غسان كنفاني.. مُعلم الحرية وروح الثورة الباقية

حجم الخط

«في صفاء رؤيا الجماهير تكون الثورة جزءا لا ينفصم عن الخبز والماء وأكف الكدح ونبض القلب»، الكلمات السابقة للأديب الفلسطيني، غسان كنفاني، تمثل الرؤية الأكثر موضوعية في التعامل مع نموذج المثقف الثوري، المجسد باقتدار في شخص الشهيد المغتال، عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لأنه حسب قوله «إن الفكرة النبيلة لا تحتاج غالبًا إلى الفهم، بل تحتاج إلى الإحساس».

غسان محمد فايز كنفاني، الماركسي الفلسطيني، المولود في 9 أبريل 1936، اغتاله الموساد الاسرائيلي - قبل 43 عامًا، وهو بالكاد يبلع الـ36 من عمره، في 8 يوليو 1972، بالعاصمة الللبنانية بيروت، بتفخيخ سيارته بعبوة ناسفة تزن خمسة كيلو جرام ونصف، ما أدي إلى استشهاده مع ابنة أخته لميس نجم، 17 عاما، ولم يتعرف على جثمانه إلا من خلال خاتم في إصبعه بعد أن تحول صاحب مقولة «تسقُط الأجساد لا الفكرة» إلى أشلاء.

 

 

وكانت عملية اغتيال كنفاني، الرد الإسرائيلي، على اقتحام مقاتلي الجبهة الشعبية، في 31 مايو 1972، وكان من بينهم 3 يابانيين، مطار اللد، وقتلوا 40 إسرائيليًا وأصابوا قرابة الـ100، وتبنت الجبهة رسميًا العملية، فأصدرت رئيسة وزراء العدو الصهيوني، جولدا مائير أمرًا للموساد باغتيال صاحب «رجال في الشمس»، وهو القائل «إن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح، وإنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه».

 

 

ولد صاحب «برقوق نيسان» في عكا، ورحل مع عائلته إلى صيدا اللبنانية بعد النكبة 1948، وانضم إلى حركة القوميين العرب، وعمل في التدريس في الكويت عام 1955، إلى أن استقر في لبنان مرة أخرى، عمل في مجلة الحرية، وترأس تحرير جريدة المحرر، وأسس مجلة الهدف، الناطقة باسم الجبهة الشعبية، وتزوج من الدنماركية آني كنفاني، 1961، وأنجب فايز وليلي.

 

 

ويقول أحمد جابر، الكاتب والباحث الفلسطيني، إن مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، جورج حبش جنّد غسان إلى صفوف حركة القوميين العرب، عام 1953 في دمشق، حيث كان يعمل صاحب «أرض البرتقال الحزين» عامل مطبعة، وكان عمره وقتها 17 عاما، لافتا إلى أن أثر صاحب «العاشق» في الكفاح الفلسطيني لم يكن كلاسيكيًا أو عابرًا، مشيرا إلى أنه يعتبر من القلة القليلة من قادة الشعب الفلسطيني الذي طبع ضمير وإرادة وتفكير شعبه، وكان تأثيره ممتدًا على جيله والأجيال التي تلته ولحقت به بعد استشهاده.

 

 

ويرجع صاحب كتاب «اليهود الشرقيين في إسرائيل.. جدل الضحية والجلاد»، في تصريحات خاصة لـ«المصري اليوم»، تأثير فكر غسان الممتد حتى الآن، إلى التوتر الشديد الذي طبع حياته والتحولات الصاخبة التي عاشها الصبي ابن العائلة الميسورة في عكا، الذي تحول إلى لاجئ في دمشق، وبعدها بسرعة كبيرة تحول إلى عامل مطبعة ثم معلم رسم وقاص وصحفي، لينتهي به المطاف منظرًا سياسيًا وإيديولوجيًا لأهم فصيل ثوري في حينه، وهو بعد لم يتجاوز الخامسة والعشرين.

 

 

ويتابع صاحب «بيان من أجل المرأة.. ضد العنف والتمييز»، أن سيرة غسان جعلت منه أشبه بكائن أسطوري في وعي الشباب الفلسطيني وأحلامهم عن أنفسهم، إذ ليس فقط نقاده تساءلوا كيف فعل هذا كله وهو مريض بالسكر؟، بل رفاقه وتابعيه أيضا تساءلوا كيف فعلها؟، لافتا إلى أن هؤلاء علمهم غسان الدرس الذي لم يملكه أحد سواه، وكان استشهاده علامة فارقة طبعت شعبه بالصدمة والفخر والاقتداء، لأنه تجاوز الخطوط الفاصلة بين أن يكون معلمًا ودرسًا، فصارهما كلاهما في لحظة فارقة.

 

 

ويكمل صاحب «اليهود العرب والصهيونية قبل النكبة»، أن تأثير غسان على الكفاح الوطني ارتبط بأقانيم ثلاثة، أولها أنه كاتب مهم وشاب تُرجم أدبه إلى لغات العالم فصار عالميًا، وفي أعماله حمل قضية شعبه والناس الأكثر كدحًا وبؤسًا من هذا الشعب، وتحولت رواياته إلى أفلام كلاسيكية، وصار نجما ثقافيًا معروفًا، وثانيها عبر عمله السياسي والإيديولوجي داخل حزبه ومساهماته غير المسبوقة في تطوير فكر الجبهة الشعبية، وشرح سياساتها كناطق رسمي باسمها، أما ثالثها فهو عمله كصحفي صار مقصدًا لكل من يريد فهم القضية من مشارق الأرض ومغاربها، ويجمع ذلك كله ارتباطه المكين بشعبه في المخيمات، غير متنكر لواقعه الاجتماعي، ومأساة شعبه، مشددا على أنه ليس من الغريب أن يصير قدوة ومثلًا.

 

 

ويوضح صاحب «اللاجئون الفلسطنيون الشباب.. الحاجات.. الهوية.. المشاركة»، أن «أثر غسان فينا غسان كجيل لحق به عميقًا بسبب كتبه التي كانت زوادة شبابنا المبكر ومراهقتنا في المخيمات، وبسبب مكانته الرسولية إن صح القول، فلا يوجد فلسطيني لا يتمثل نفسه في شخصيات غسان، فنحن الصغار كنا شخصيات قصصه، كان يكتب عنا ومازلنا نحسه واحدًا من المنخرطين في النضال عبر إرثه العظيم، إضافة لذلك ورغم تكريسه الأدبي والسياسي قبل استشهاده، إلا أن استشهاده المروع وبتلك الطريقة الحاقدة شكل اعترافًا من العدو بمكانته وأهميته وضرورته، لأن العدو لا يريد أن يستخدم الفلسطينيون عقولهم بل أن يبالغوا في استخدام عضلاتهم، ولعلها تلك معضلة النضال الفلسطيني الآن.

 

 

بينما تقول زوجته، آني كنفاني، في سلسلة حوارات على موقع الجبهة، عن جريمة اغتياله، إنهم «قتلوه حين كان لا يزال ينمو، وكان خطره عليهم صحافيًا وناطقًا رسميًا وفنانًا وإنسانًا أكبر من أن يتحملوا وجوده»، مضيفة أنه «لقد أمل قتلة غسان نشر الاستسلام في صفوف اللاجئين الفلسطينيين، وأملوا شق حركة المقاومة الفلسطينية، لكنهم لم يحصدوا إلا النقيض، فلقد فهم الناس عظمة غسان، وأحبوه، وأظهروا حبهم برص صفوفهم بعضها إلى بعض».

 

 

ورثا محمود درويش، غسان، في كتاب «وداعًا أيتها الحرب، وداعًا أيها السلام»، «آه.. من يرثي بركانًا!. هذه لحظتكَ. فلا تجمع أشلاءكَ ولا تَعُدْ، لا تَعُدْ. لا تنتظرنا في المَهاجر. كان يجب أن نراك، أن نعرفك، أن نسير معك قبل اليوم. ولكن الموت لم ينضج فينا. نحن هنا، سنموت كثيرا، ولكني أستأذنك الآن في البكاء قليلاً، فهل تأذن لي بالبكاء؟».