المقاومة كمكون ضروري للتنمية في السياق الكولونيالي

حجم الخط

لقد أفضى المشروع الصهيوني الكولونيالي إلى اجتثاث منهجي لإمكانيات تطور فلسطين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وجغرافياً وسكانياً ،لا سيما أن هذا المشروع قام على مركبات متفاعلة تعبر عن أقصى درجات نفي الآخر فالجغرافيا يتم احتلالها، فيما يجري تزييف التاريخ واستئصال الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني، الذي بات منذ بدايات هذا المشروع الصهيوني عرضة للتفتيت والتجزئة والتطهير والإبادة العرقية.

إن أي احتمال لإحداث تنمية حقيقية (إنعتاقية) في سياق الاحتلال يخضع لإعاقة متعمدة وممنهجة من قبل بنى السلطة المهيمنة التي يفرضها المُضطِهد لإدامة نظام الهيمنة، وبالتالي فإن المقاومة الفعالة تصبح أداة لا غنى عنها لتفكيك العوائق الأساسية التي تحول دون تحقيق تنمية، بالإضافة لوظيفتها في التمكين والأنسنة.

وهناك فرق بين التنمية كمصطلح سياسي وطني يعتمد نموذجاً أصيلاً من الداخل ويهدف إلى تعزيز صمود الفلسطيني على أرضه كما اعتبارها "التنمية" مشروعاً حضارياً مجتمعياً ووطنياً يشمل مختلف جوانب وأبعاد حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبين التنمية كمصطلح معياري، يعمل على تبني وجهة نظر الاقتصاد كركيزة لعقيدة التنمية، فارضاً مسافة فارقة مع السياسة ببعدها الوطني، ومستنداً إلى أرضية ما يسمى "المهننة"، وهذا الأخير هو السائد في دول العالم الثالث والمحكوم بمنظور الليبرالية الجديدة المعتمدة على ركائز ثلاث: الحكومة المصغرة، تبني فلسفة اقتصاد السوق، تحرير التجارة، ولقد أكدت التحولات الجارية على مستوى الوطن العربي وفي القلب منه الضفة الغربية وقطاع غزة بأن هذا النموذج النيوليبرالي يعاني من أزمات هيكلية متعددة، فهذه التطورات دفعت دول المنطقة إلى خارج مسار التنمية المعتمدة على الذات، فالمجتمعات العربية اليوم ومجتمعنا الفلسطيني تعاني من تفشي ظاهرتي الفقر والبطالة بشكل غير مسبوق، كما تعاني من التفكك الاجتماعي وعدم الاستقرار السياسي والأمني بسبب الصراعات والحروب الطائفية والمذهبية، وفي حالتنا الفلسطينية استطاعت دولة الاحتلال الصهيوني تحويل غزة إلى معسكر اعتقال يعاني سكانه من هبوط حاد في مستويات المعيشة، وتآكل في موارد الرزق وتدهور البني الأساسية والتراجع الملحوظ بتوفير الخدمات الحيوية كالصحة والمياه والصرف الصحي ...الخ. وذلك بفعل الحصار الخانق الذي تفرضه دولة الاحتلال المهيمنة على الشعب الفلسطيني بغزة، كما أن هناك العديد من التحديات التنموية المتمثلة في محدودية سوق العمل ارتباطا بالأعداد الهائلة للقوى المؤهلة للانخراط به عدا عن التشوهات البنيوية في سوق العمل نفسه بفعل التبعية المقيتة لاقتصاد الاحتلال، وكذلك تحديات الأمن الغذائي وغيره من التحديات التنموية، مما يؤكد على أن المسار المغلوط للتنمية أفضى إلى مأزق تنموي تآكلت فيه الموارد المالية والإرادة الوطنية وتعرض المجتمع العربي لخلل اقتصادي واجتماعي بين سقوف الثروة المرتفعة للقلة وضياع الكثرة في ردهات الفقر والفاقة والحرمان، مما جعل هذه المجتمعات مضغة سهلة للضغوط وفرض شروط الهيمنة وقبول التبعية والهامشية، ونشوء فئات طفيلية، وانتشار الفساد والفقر والبطالة، لدرجة أصبح معها الوطن العربي في أحسن أحواله يمضي إلى التخلف بشكل نسبي، وفي أسوأها بشكل مطلق.

وقد تعاملت مقولات المانحين مع الأنا الجمعية الفلسطينية من مدخلين: إعادة تشكيل الواقع أو المكان والزمان، وإعادة موضعة الفرد الفلسطيني ضمن هذا الواقع، حيث يتشكل الواقع ضمن هذه المقولات من حيز جغرافي خرج من حالة صراع استعماري إلى مرحلة ما بعد الصراع وبناء الدولة "الوهم"، ويتميز هذا الحيز بحياة اجتماعية تعاني إشكاليات هي بمجملها إشكاليات فنية يمكن تجاوزها من خلال خبراء التنمية، ليتم بعد ذلك موضعة الفرد الفلسطيني ضمن هذا الواقع في سياق أن الفرد والجماعة بحاجة إلى تغيير مفاهيمهم حول أنفسهم، وتتم عملية التغيير بعد أن تتمكن هذه الجماعة من تقبل نفسها كجماعة مدنية تدخل في شبكة من العلاقات من خلال المنظمات غير الحكومية وتشابكاتها المعولمة، بحيث تخلق هوية معولمة للأفراد والجماعات.

لذا بات من الضروري التعاطي مع المقاومة كمكون ضروري للتنمية في السياق الاستعماري الكولونيالي، من خلال الوعي بأهمية وضرورة خلق وتبني منظور ونموذج تنموي مناوئ للمنظور القائم على مبادئ الليبرالية الجديدة، منظور يعزز الاعتماد على الذات ،منظور تنموي انعتاقي قادر على رفع منعة الشعب الفلسطيني وتعزيز قدرته على مواجهة التحديات الوطنية والتنموية المحدقة بمشروعنا التحرري الوطني والديمقراطي.