بين استلام السلطة والاحتفاظ بها

حجم الخط
كان عام 2011 عامَ الانتفاضات الشعبية العربية بامتياز، حيث أطاحت خلاله رأس أكثر من نظام عربي، وحققت الكثير من الإنجازات، المرئية وغير المرئية، فيما لم تُحسم نتائجها النهائية بعد، ارتباطاً باستمرار مفاعيلها وتداعياتها وارتداداتها، ذلك خلافاً لظنون المستعجلين على الوأد السريع لها أو القطف السريع والمستقر لثمارها. هؤلاء المستعجلون، ومعهم مَن تسرع في نفض اليد من هذه الانتفاضات، على اختلاف مشاربهم ونواياهم وأغراضهم، يجمعهم بالنتيجة العجز، (سيان لجهلٍ أو لمصلحة)، عن استيعاب الجديد النوعي للانتفاضات العربية، التي، رغم كل ما قيل وسيقال عنها، إيجاباً أو سلباً، قد أطلقت صيرورة تغييرٍ تاريخية، كان محتوماً مرور مسيرتها الواقعية، (كمسيرة أية ثورة أو انتفاضة شعبية)، بمحطات انتقالية، زادتها تعقيداً خصوصية عفوية انطلاقتها؛ وعجْزِ "المعارضات" عن قيادتها ببرامج بديلة؛ وتداخُلِ الداخلي بالخارجي من قوى الثورة المضادة لمسيرتها على نحو استثنائي، يعكس الأهمية الإستراتيجية الاستثنائية للمنطقة العربية في حسابات الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، للسيطرة السياسية والأمنية على العالم، بهدفِ مواصلة، وتشديد وتائر، نهب ثروات شعوبه، والحفاظ على، ومنْعِ اهتزاز، تفوق إسرائيل، (كحارس لهذا النهب ومشارك فيه)، على ما عداها من دول المنطقة وقواها، وهي المتصادمة، على طول الخط، مع أية تغييرات وطنية وديمقراطية في المنطقة العربية، بل، وفي غلافها الإقليمي أيضاً؛ ناهيك عن استنفار ملوك وأمراء ومشايخ دول الخليج العربي، وتجنيدهم للطائل من أموال النفط، (المنهوب جلَّهُ على أية حال)، في محاولةٍ لإجهاض هذه الانتفاضات، واحتواء نتائجها، ومنعِ امتداد لهيبها إلى دولهم وشعوبهم، التي يحكمونها، ويتحكمون بها، بمعادلة حكْمِ "الشيخ" "للقبيلة"، كمعادلة عتيقة تجاوزها العصر والتاريخ معاً. بهذا، وعليه، يمكن القول: إن كان عام 2011 عامَ انفجار الانتفاضات الشعبية العربية وما حققته خلاله من انجازات، فإن عام 2012 سيكون عام استمرار مفاعيلها وتداعياتها وارتداداتها، بوصفها صيرورة تغييرٍ واقعي معقد وشائك، يختبر أول مَن يختبر جدارة وجدية وانسجام وصدقية "معارضات" حصدت أكثرية المقاعد في انتخابات ما بعد أولى هذه الانتفاضات، وهي "المعارضات" التي عجزت عن إشعال شراراتها أو قيادتها، كما تقر هي نفسها، ولحقت بركبها بعد تردد، بل، واستعجلت قطْفَ ثمارها، وساومت عليها، في أكثر من محطةٍ من محطاتها الحاسمة، كما يؤكد كثيرون، وخاصة الحركات الشبابية الناهضة التي نالت، باعتراف الجميع، بمن فيهم هذه "المعارضات"، شرف تقدم الصفوف، وكسر حاجز الخوف، وقدحِ الشرارات الأولى لإشعال النيران في كامل سهل النظام الرسمي العربي بشعار سياسي ناظم، "الشعب يريد إسقاط النظام". أجل، ثمة أمام الفائزين بانتخابات ما بعد أولى الانتفاضات الشعبية العربية مهام كبيرة وتحديات جسيمة، بعد أن هبطوا من أبراج المعارضة وبذخها النظري، وصاروا، بمعزل عن اسمهم ولونهم الفكري والسياسي، وجهاً لوجه مع هضاب مسؤوليات السلطة الوعرة والمتشعبة بشكل عام، فما بالك وأنهم يتولون السلطة بفعلِ، وباسمِ، انتفاضات شعوبهم، وفي مجتمعات تعرضت، بشقيها السياسي والمدني، إلى عملية تجريف واسعة على يدِ أنظمة سياسية أطيح رأسها بينما بنيتها ما زالت قائمة، بهذه الصورة أو تلك، بل، وتسعى باستماتة وبمساندة قوى خارجية، لإعادة العجلة إلى الوراء. هذا ناهيك عن أن على هؤلاء الفائزين بالسلطة الحفاظ على ثقة شعوبٍ انتفضت، ومنحتهم ثقتها مع آمال وتوقعات ومطالب كبيرة، وبعد أن صارت مراقباً فعلياً، ومسائلاً يقظاً، بفعلِ ما أنجزته، بانتفاضاتها وتضحياتها، من تحرير للحقل السياسي من المصادرة والاحتكار، ومن إعادة الاعتبار له، بوصفه مجالاً للتنافس بين قوى ذات برامج سياسية وفكرية واجتماعية متنوعة. كل ذلك من دون نسيان أن على هؤلاء الفائزين إثبات جدارة استثنائية في إقناع جيل "الشباب"، (الكتلة الديموغرافية الأوسع في مجتمعاتهم)، خاصة وأن هذا الجيل، هو، وإن لم ينل من الحصاد الانتخابي ما يستحقه كمفجِّرٍ للانتفاضات الشعبية، إلا أنه لم يخرج كطاقات موضوعية فاعلة من مجتمعات أصبح التغيير فيها ضرورة لا تقبل التأجيل أو التزوير، بل، إن حركات هذا الجيل آخذة في التبلور في صيغ فكرية وسياسية متنوعة، يلتف الشعب حول ما ترفعه من مطالب، باسم تلبيتها وصل الفائزون بالانتخابات إلى مواقع السلطة، بعد أن ظلوا لعقود في مواقع المعارضة، عجزوا خلالها عن التصدي لمهمة تطوير هبات شعوبهم إلى انتفاضات تطيح أنظمة سياسية، أوغلت في قمعها واستبداديتها وفسادها وتبعيتها. وفي كل هذا ما يفرض على هؤلاء الفائزين بالسلطة بفعل انتفاضات شعوبهم، وباسم تلبية مطالبها، عدم الاغترار، وإدراك الحقائق التالية: 1: أن تسَلُّمَ مفاتيح السلطة، أية سلطة، (فما بالك بسلطة قادت إليها ثورة أو انتفاضة شعبية)، لا، يوفر، على أهميته، شرطاً تلقائياً وكافياً للاحتفاظ الداخلي بها، ذلك أنه باستثناء استخدامها أداة للقمع والإقصاء والإكراه والتفرد والقهر والاضطهاد، فإن الاحتفاظ الديمقراطي بالسلطة، هو أصعب بما لا يقاس من استلامها، على حدِّ تعبير مقولة شهيرة وذائعة، تحيل ببصيرة ثاقبة إلى الاستحقاقات والانجازات والتحديات المطلوب التصدي لها من قبلِ كل مَن يريد الاحتفاظ بسلطة تسلَّمها بعد، وباسم، ثورة أو انتفاضة شعبية. 2: أن هنالك في الواقع العربي ما هو خارجي من التحديات المطلوب التصدي لها، ويتمثل أساساً في إيجاد إجابة سياسية عملية ممن صار في موقع السلطة، وليس شعاراتية ممن كان في موقع المعارضة، لسؤال تحرير الاستقلال والسيادة الوطنية، فما بالك بالقومية، بعد عقود من تبعية النظام الرسمي العربي للدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، لا بوصفها "كافراً"، بل، بوصفها مسيطراً في السياسة وناهباً في الاقتصاد. وهذا تحدٍ كبير وإستراتيجي، لن يكتب للإنجاز على الصعيد الداخلي نجاحاً من دون التصدي له، الذي لا يمكن إحرازه بمجرد تغيير اسم الحاكم العربي وربطة عنقه، بل، بتغيير مضمون تعاطيه الفكري والسياسي. هنا، وفي ضوء تنامي الغزل السياسي، (بعد جفاء لعقود)، بين هؤلاء الفائزين بالسلطة وبين الدول الغربية، وأساساً الولايات المتحدة، تحضرني مقولة عميقة في استشرافها لمصير كل مَن ناهض السياسة الاستعمارية للولايات المتحدة وتراجع، تقول: "ما مِن أحد رفع "السلاح" في وجه الإمبريالية الأمريكية ونكَّسه إلا ودفنته به". قصارى القول: الانتفاضات الشعبية العربية أطلقت صيرورة تغيير معقدة وشائكة، استدعتها عقود من الاستبداد والفساد والتبعية، ويخطئ كل من يظن بإمكان وقفِ مسيرتها، وإن تعرجت، من دون اقتلاع العوامل الداخلية والخارجية لتفجرها وتجددها. تلك حقيقة على القادمين إلى السلطة بفعل هذه الانتفاضات وباسم تلبية مطالبها وأهدافها، قبل غيرهم، وأكثر من غيرهم، من المستعجلين في التعامل مع هذه الانتفاضات، إدراكها، والتصرف وفقها، إن هم أرادوا الاحتفاظ الديمقراطي بهذه السلطة، أي خارج استخدامها مرة أخرى، على طريقة من سبقهم من أنظمة استبدادية، أداة للقمع والإقصاء داخلياً، وسبيلاً للتبعية، الناسفة للاستقلال والسيادة الوطنيين، خارجياً.