النزعة الفاشية الاستعمارية الصهيونية

حجم الخط

النزعة الفاشية الاستعمارية الصهيونية

الغزو – الإلغاء – المجال الحيوي

«وكلم الرب موسى في عربات مؤاب على أردن أريحا قائلا: كلم بني إسرائيل وقل لهم أنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم، وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاته، تملكون الأرض وتسكنون فيها لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها وتقتسمون الأرض بالقرعة حسب عشائركم.... (الخ)»(التوراة- سفر العدد- الإصحاح33 (50-56).

هناك آراء مختلفة حول جوهر الاستعمار أكثرها تشدد على المحتوى الاقتصادي للاضطهاد، واضافة لذلك نرى أن جوهر الاستعمار يتشكل أيضا باعتباره حط من مكانة الآخر، وربما إبادته.

ماذا يمكن تسمية العالم الجديد إلا مجالا حيويا لأوربا القديمة وماذا تكون استراليا إلا مجالا حيويا لبريطانيا وكذلك هو الحال بالنسبة لفرنسا في الجزائر وايطاليا في ليبيا، وألمانيا في شرق أوربة، وهكذا هو بالنسبة لإسرائيل في جنوب لبنان وسيناء والجولان ثم استطرادا حال سوريا والعراق اليوم بالنسبة لإيران، واليمن بالنسبة للسعودية، وكما كان السودان بالنسبة لمصر أيام مملكة مصر والسودان!

الحركة الصهيونية هي ظاهرة استعمارية أيضا، قامت على الغزو والفتح  والاضطهاد كما أثبت تاريخها، وكل مفكريها المؤسسين وسياسييها اللاحقين وضعوا الاستعمار والغزو كأولوية لتحقيق أهدافهم وجنونهم في آن معا.

وإذا كان الغزو الصهيوني لفلسطين، احد مشتقات الغزو الأوربي الاستعماري لـ «القارات الثلاث» فانه أضاف للاستعمارية الكلاسيكية بعدا لاهوتيا جديدا يجعل من فلسطين الأرض التي وعد الله بها «الشعب اليهودي» فالصهيونية استعمار استيطاني خاص يقيم الغزو على أساس الدين  والسلالة وبشكل أوحد على أساس الامتياز العنصري. أليست تلك كلها عناصر الغزو الفاشي لأوربا، ألم تكن هي العلامة المتميزة للفاشية الإيطالية التوسعية.

وهكذا تتلخص في فكرة الاستيطان عناصر الفاشية جميعها، وحدة الأرض والعرق والتمييز العنصري والإبادة.

وإذا كانت العنصرية هي دين المستعمر الذي لا خلاص له منه، لم يكن بمقدور الصهيونية أن تكون خارج هذا الإطار وأن تجد حلا لمأزقها الاستعماري، سوى بالعنصرية وافتراض تأخر الشعب الآخر، وتأصل هذا التأخر في دمه وعنصره[1]

وهكذا وجدت خلاصها في الدين اليهودي، والأيديولوجيا اللاعقلانية الفاشية، في الثالث عشر من حزيران عام 1910[2] ألقى آرثر جيمس بلفور، محاضرة في مجلس العموم البريطاني حول «المشكلات التي ينبغي علينا أن نعالجها في مصر» قال فيها «قبل كل شيء أنظر إلى الحقائق: إن الأمم الغربية فور انبثاقها في التاريخ تظهر تباشير القدرة على حكم الذات لأنها تمثل مزايا خاصة بها»، وهكذا فالعنصرية تلخص العلاقة الأساسية التي تربط الاستعماري بالمستعمر وترمز إليها [3]، وتحليل الموقف العنصري يسلط الضوء على ثلاثة عناصر[4] :

1-    اكتشاف الفروقات بين المستعمر والمستعمر وإبرازها.

2-    تقويم الفروقات لصالح المستعمر.

3-    دفع الفروقات إلى حدود المطلق والتأكيد بنهائيتها.

هكذا يخطب بن غوريون عام 1956 في مؤتمر  ماباي[5] «إن رسالتنا التاريخية تتلخص في أن تكون شعبا مختارا وتقيم موديلا جديدا من المجتمع وفقا للقيم الخلاصية لأنبياء إسرائيل ونبوءتهم بيوم الحساب» ويكون [6] «اليهود هم أحد الشعوب المتميزة القليلة التي لعبت دورا فريدا في تاريخ البشرية».

ومن هذه الرؤية لم تكن كتابات هرتزل خارج السياق المبكر للأحداث، هو الذي يخلق مناخاً من التشدد متحدثاً عن «محاربة» العداء للسامية و «غزو الأرض» و «الاستيلاء على الجاليات اليهودية في الشتات» ويتنبأ باستيلاء تدريجي على الأراضي وطرد السكان في النهاية[7].

وتعتبر (الإلغائية) ركيزة أساسية لروح الفاشية المستعمرة، ففي الوقت الذي سعى فيه الاستعمار الكلاسيكي القديم إلى السيطرة على الشعوب واستعبادها لنهب ثرواتها وتوسيع حدود الإمبراطوريات فان الاستعمارية الصهيونية قامت على إلغاء الخصم وإبادته أو الاستيلاء على أرضه بالقوة وقد كان هتلر قد كتب في كتابه (كفاحي) «إن التسليم بحقنا في التوسع لن يكون عفو الخاطر وهنا يبرز حق كل فرد في الكفاح لتأمين ما يكفل له البقاء وما عجز اللين عن إحرازه يعود  إلى القوة أن تناله، ولو أن أجدادنا انجروا في الماضي مع العقلية المسالمة التي هي عقلية جيلنا لما كان لنا اليوم ثلث أراضي الوطن الألماني»[8] وأضاف «على الرايخ أن ينسج على منوال فرسان (التوتون) ويسلك السبيل الذي سلكوه ليتسنى للسيف الألماني أن يوفر الأرض للسكة الألمانية»[9].

وهكذا كانت ممارسة الحركة الصهيونية ففي حوار نشر بين المستوطنين عام 1891 «ليس علينا سوى أن نطرد العرب إلى الضفة الأخرى من نهر الأردن. كيف؟ إن (ثائرا) لا يطرح الأسئلة»[10].

هنا تتجسد خطوط الصهيونية الفعلية: ذاتية يهودية وعنصرية غريبة تتقاطعان على مقال (الثورة) من أجل تبرير الحيازة المطلقة على أرض شعب آخر، ويعود ذلك إلى طبيعة الغزوة التي تحمل منذ البداية شعار توطين (شعب)  بدلا عن شعب آخر، وأكثر من ذلك فكرة (الأرض بلا شعب لشعب بلا أرض) مما يقتضي محو الشعب الأصلي، وإبادته، لتكون الأرض كلها خالصة (للعرق) اليهودي، دون أن تشوبها شائبة، فتكتمل معادلة الأرض المختارة للشعب المختار.

منذ عام 1917 كتب بن غوريون عن فلسطين «على الصعيد التاريخي المعنوي، البلاد بلا سكان»[11] وقد كتب يوسف فايتس عام 1940 [12] «يجب أن يكون واضحا أنه لا مكان للشعبين معا في البلاد والحل الوحيد هو أرض (إسرائيل) على الأقل أرض إسرائيل الغربية بدون عرب، لا مكان هنا لحلول وسط ما من طريق أخرى سوى ترحيل العرب من هنا إلى الدول المجاورة وترحيلهم جميعا، يجب ألا تبقى أية قرية أو قبيلة، يجب ترحيلهم إلى العراق وسوريا وحتى إلى شرق الأردن».

وفي محاضرة ألقاها وايزمن في باريس عام 1914 أعلن «في هذه المرحلة الأولية صاغ الرواد الصهاينة كحركة متوقعة تماما على العوامل التالية: هناك بلاد اتضح أن اسمها فلسطين، بلاد بلا شعب، ومن ناحية أخرى هنالك الشعب اليهودي الذي لا بلاد له»[13]، وقبل ذلك بكثير كان إسرائيل زنغويل أحد مساعدي هرتزل زار عام 1897 فلسطين وقال في إحدى خطبه «علينا أن نستعد لطردهم ( العرب) من البلاد بقوة السلاح»[14]. وتضيف غولدا مائير في مقابلة مع الإذاعة العبرية في آب 1973 «إن كل شيء لم يحدث، لم يكن في فلسطين شعبا فلسطينيا يعتبر نفسه شعبا، وإننا طردناه كي نأخذ مكانه، إنهم لم يكونوا موجودين».

ومع اقتراب الصراع من ذروته نهاية الثلاثينيات تشكل إجماع قوي بين الأحزاب الصهيونية على طرد الشعب الفلسطيني إلى الدول العربية خاصة سوريا والعراق وقد تزعم الإجماع حزب ماباي الذي قاد الحركة الصهيونية في إسرائيل من 1933 إلى 1977 وكان المنوط به تنفيذ الطرد، واكتمل الإجماع بعد حصوله على تأييد الأحزاب العملية الصهيونية بدعم قادة حزب (الصهيونيين العموميين) وعلى رأسهم حاييم وايزمن، الذين هدفوا إلى «تحويل فلسطين إلى دولة يهودية تماما كما هي إنكلترا إنكليزية» كما طلبت منظمة ليحي (شتيرن) بطرد الفلسطينيين عبر بنودها التي صاغها أبراهام شتيرن مؤسسها ومنظرها، والذي خلفته قيادة ثلاثية بعد مصرعه أبرز أعضائها إسحاق شامير، وبانتهاء الثلاثينيات تشكل إجماع صهيوني بانضمام جابوتنسكي إلى الطرد عبر رسالة بعث بها عشية موته إلى أحد أعوانه في فلسطين[15] .

هذه الأفكار الالغائية لم يأكلها الزمن وليست قديمة وهي تشتد اليوم أكثر فأكثر بجنون الخوف الديمغرافي ودعوات الترحيل عبر التبادل السكاني أو الجدار أو التخلي عن المناطق المكتظة بالسكان العرب أو تهويد النقب والجليل.

وكانت فكرة الطرد عن طريق تبادل السكان جاءت أصلا من لجنة (بيل) اثر اندلاع ثورة 1936 وقد طالب بإحدى توصياته صراحة بـ «تبادل السكان بين الدولة اليهودية والدولة العربية»[16]، في وقت لم يكن هناك أصلا دولة يهودية. وقد أولى بن غوريون أهمية قصوى لهذه التوصية وأكد أن على الحركة الصهيونية التمسك بالتوصية كما تمسكت بوعد بلفور، بل كما تتمسك بالصهيونية نفسها[17].

واليوم من الممكن استرجاع محاضرة الوزير الإسرائيلي السابق زئيفي في الجامعة العبرية في القدس يوم 22/5/1980[18] حيث قال «هناك آراء تدعو إلى استغلال حالة الحرب من أجل ترحيل 700-800 ألف عربي.. ولم تتردد هذه الآراء فحسب وإنما أعدت أيضا الوسائل لتنفيذها».

وكان رحبعام زئيفي  قد أكد أن الترانسفير  ليس جديداً بل هو سمة لازمة للصهيونية[19]   حيث قال «صحيح أنني أؤيد الترانسفير لعرب الضفة وقطاع غزة إلى الدول العربية ولكنني لا أملك حق ابتكار هذه الفكرة، لأنني أخذتها من أساتذة الحركة الصهيونية وقادتها مثل دافيد بن غوريون الذي قال في جملة أمور أخرى « إن أي تشكيك من جانبنا في ضرورة ترحيل كهذا وأي شك عندنا في إمكانية تحقيقه وأي تردد من قبلنا في صوابها قد يجعلنا نخسر فرصة تاريخية »(مذكرات بن غوريون) كما أنني تعلمت هذا من بيرل كتيلسون وآرثور روبين ويوسف فايتس وموشيه شاريت وآخرين».

ونقاشات مؤتمر هرتسليا (مؤتمر ميزان المناعة والأمن القومي) بدوراته المتعددة لم تكن بعيدة عن هذه الطروحات وكانت كلها تصب في أنجح السبل للحفاظ على يهودية الدولة والتخلص من العرب وقد سلمت الوثيقة التي أعدها المؤتمر في دورته ما بين 19 و21 كانون أول عام 2000 في جو احتفالي إلى رئيس الدولة موشيه قصاب وقد علق الصحافي يئير شيلنغ[20]  بالقول «اليمين المتطرف ما كان في مقدرته أن يصوغ توصيات تعكس فكره البهيمي الجامح بأفضل مما صاغتها هذه الكراسة».

وعلى غرار هتلر لم تكن فكرة المجال الحيوي بعيدة عن أفكار الآباء المؤسسين للصهيونية  ومؤسسي الكيان الصهيوني وقادته لاحقاً بمختلف تلاوينهم، وإذا كان اليمين الصهيوني ممثلا بشارون مهندس الاجتياح الإسرائيلي لبنان عام 1982، قد سعى لإقامة مجال حيوي شمال الكيان الصهيوني، فقد أيد الاشتراكيون الصهاينة دائما في الواقع الخطة الجهنمية حيال لبنان، والتي صيغت في المذكرة التي قدمتها المنظمة الصهيونية العالمية في شباط 1919 إلى مؤتمر الصلح، وبموجبها ينبغي أن تمر الحدود الشمالية للدولة اليهودية بمحاذاة الليطاني، وقد حاول الصهاينة تعليل ادعاءاتهم بـ«الحقوق التاريخية» و «العهد القديم» أما في الواقع فان الأسباب الاقتصادية والايدلوجية تأتي بهدف الاستفادة والسيطرة على مياه الليطاني وتسديد ضربة قوية لاقتصاد جنوب لبنان مما يجعله تابعا لإسرائيل وتاليا ضم الجنوب أو اقامة دولة دمية هناك[21].

في السياق نفسه دافع بن غوريون في أيار مايو 1947 عن إنشاء دولة مسيحية في لبنان يكون الليطاني حدها الجنوبي وفي 1954 تبادل ديان وساسون رسائل تضمن مشاريع دولة دمية طائفية في لبنان تكون تابعة لإسرائيل وفي العام نفسه درست الحكومة الإسرائيلية إمكانية التدخل المسلح في لبنان لتأسيس دولة مارونية تحت رعاية تل أبيب بل أن بن غوريون حاول عبثاً عام 1956 وعشية العدوان الثلاثي على مصر إثارة اهتمام فرنسا باقتراحه القائل بتغيير بنية لبنان[22] وهذا ما تؤكده الوثيقة السرية للأركان الإسرائيلية والخطى الاستراتيجية لجيش إسرائيل عامي 56-57 والتي تحدثت عن الرغبة في تشكيل بضعة كيانات دولانية طائفية كراكوزية للدروز والشيعة  والموارنة والعلويين والكرد والأقباط تابعة للدولة الإمبريالية وإسرائيل عن طريق تجزئة الدول العربية[23]، ولا نبالغ اذا ذكرنا أن إنشاء إمارة شرق الأردن أساساً جاء بهدف توفير مثل هذا المجال الحيوي للدولة الصهيونية القادمة، وهكذا جاء تأسيس دولة جنوب لبنان لاحقا، طبعا كان التوسع وتدمير الخصم في المركز من هذه الخطط حيث يقول دايان «إنني أعتقد صادقا ومخلصا وبلا تردد أن علينا أن نشن على البلاد العربية حرباً وقائية وبذلك نحقق هدفين أولهما القضاء على القوة العربية وثانيهما توسيع أرضنا»[24].

وقد أوضح موشيه شاريت رئيس وزراء إسرائيل عام 1954 في مذكراته تفاصيل تمزيق لبنان وإقامة الدويلة المارونية في منطقة الجبل حيث يذكر أن بن غوريون اقترح استغلال المسألة الطائفية في الساحة اللبنانية لتفجير لبنان وتقسيمه، وقد اعترض شاريت على ذلك بحجة عدم واقعيته.

ويذكر شاريت أنه استلم رسالة من بن غوريون يرد فيها على تحفظاته بشأن إثارة الطوائف المسيحية اللبنانية لإقامة الدولة المسيحية وهي رسالة مؤرخة في 27/2/1954 «يكاد يستحيل قيام هذه الدولة في الأحوال العادية بسبب افتقاد المسيحيين إلى المبادرة والشجاعة اللازمة، ولكن الأمور تأخذ طابعا آخر في حالات الفوضى والثورة والحرب الأهلية حيث يتحول حتى الضعيف إلى بطل وربما حان الوقت الآن لإقامة دولة مسيحية إلى جوارنا»[25].

وقد أفصح شاريت في رسالة أخرى مؤرخة في 16/5/1954 «كان الشيء الوحيد الذي ينقصنا للتنفيذ طبقا لرأي دايان (وزير الدفاع والخارجية فيما بعد) هو العثور على ضابط لبناني برتبة رائد وإقناعه بلعب دور المنقذ للسكان الموارنة، سواء بكسب تعاطفه مع الفكرة أو بشرائه بالمال وأكد داين أن الأمور حينئذ ستسير على أحسن ما يرام، وبعد أن نضم الأراضي اللبنانية الواقعة جنوبي الليطاني نهائيا إلى إسرائيل» وهو الأمر الذي تحقق بالفعل بعد ذلك وان لفترة مؤقتة عندما عثرت إسرائيل على سعد حداد الرائد اللبناني المنشق والذي أعلن انفصال جنوب لبنان وأنشأت له إسرائيل جيشا خاصا في الحزام الحدودي بعمق 15 كلم والذي انهار مع هزيمة إسرائيل وطردها من جنوب لبنان.

إن خطة إسرائيل والحركة الصهيونية لتفتيت العالم العربي وجعله مجالا حيوياً لها صار جزءا من كتابة التاريخ، فمنذ 1982 ولتحقيق أهدافها حددت إسرائيل لنفسها (دائرة مجالها الحيوي) والتي سعت مصالحها الأمنية عبرها لتتجاوز ليس دول المواجهة العربية فحسب بل العالم العربي برمته، بل لتمتد لتشمل تركيا وباكستان وإيران شمالا وشرقا، وإثيوبيا وزيمبابوي جنوبا وغربا حتى المحيط الأطلسي، وهذا يشرحه ويترجمه ما حصلت عليه إسرائيل من أسلحة يصل مداها حتى جنوب الاتحاد الروسي وربما يفسر أيضاً تهديدها بضرب مفاعلي كاهوتا الباكستاني وبو شهر الإيراني ومن قبل ضرب مفاعل تموز العراقي[26].

تلك الخطة كانت نسخة منقحة عن مخططات أصلية تطورت بعد إنشاء دولة إسرائيل استهدفت تقسيم المنطقة العربية وتفتيتها عرقيا ودينيا وطائفيا وصولا إلى دويلات ضعيفة تكون إسرائيل حاضنتها الإمبريالية، وأبرز هذه المخططات أفكار جابوتنسكي في الثلاثينيات حول الكومنولث اليهودي ومشروع بن غوريون لتقسيم لبنان عام 1954 واستراتيجية الثمانينيات لمستشار الأمن القومي لدى بيغن الدبلوماسي الإسرائيلي عوريد بنيون[27].

تنبع مفاهيم جابوتنسكي من مبدأ التعصب القومي وما يعنيه من سياسة السيطرة على النطاقين الداخلي والخارجي وما تفرضه من تصور الدولة القائدة في حركة كلية شاملة أساسها المفهوم الاستعماري للوجود السياسي. بمعنى آخر إن الإطار النظامي لدولة متميزة ذات صفات قيادية (إسرائيل بالطبع) يرى أن من حقها أن تسيطر وتوجه وأن تستوعب أكثر من مجتمع سياسي واحد في فلكها. وهو فكر مطابق لما عرفته النازية الهتلرية أيام الحرب الثانية وتحايل على المفهوم العنصري، بحيث يظهر كنوع من التوفيق بين الدولة اليهودية في مفاهيمها التقليدية والدولة النازية في أبعادها الاقتصادية والعسكرية.

وتنبع الرؤية الأيدلوجية لجابوتنسكي من الأفكار المتطرفة التي حملتها (الثورة) المعروفة في التاريخ اليهودي القديم بـ (ثورة باركوخبا) والتي انطلقت ضد الرومان وانتهت بتحطيم المعبد الثاني عام 70 قبل الميلاد، وحولها جابوتنسكي إلى مجموعة من المبادئ صارت في مركز الإدراك الإسرائيلي الحالي وأبرزها حق إسرائيل بالهيمنة على منطقة الشرق الأوسط وأن القوانين التي تسودها يجب أن تنبع من المفاهيم والتقاليد الدينية اليهودية الأصيلة بما تضمنته من تناقضات أو مخالفات للعالم المعاصر بمعنى أن العامل الذي يعتبر من المحاور الأساسية للتعامل السياسي للدولة العبرية.

وقد رفض جابوتنسكي فكرة تقسيم فلسطين بين العرب وإسرائيل بل طالب أيضاً بضم شرق الأردن إلى إسرائيل[28].

وقد عبر عن آرائه بوضوح أمام اللجنة التي بعثت بها بريطانيا في 11 شباط 1937 فقد جاءت شهادته على النحو التالي «إننا نعني بفلسطين حين نذكرها جميع المساحة التي تقع على ضفتي نهر الأردن.. هذه البلاد كلها سيعاد إنشاؤها وطنا قويا (أم قومياً) لليهود» وفي رده على تساؤل السير هاموند رئيس اللجنة قال «إن تعريفنا نحن معشر الإصلاحيين لهذه الصهيونية قد أخذناه من خطاب هربرت صموئيل والذي قال فيه بعد سنتين من وعد بلفور: في الوقت المناسب يجب أن تصبح فلسطين كلها كمنولثا عبريا ذات أكثرية يهودية»[29].

مناحيم بيغن زعيم الليكود تلقف هذه المبدأ وأعاد تطويعه تدريجيا كما تفاعل مع مفاهيم شارون ومن خلفه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وتحددت على النحو التالي:

1-      إن الوطن العربي ليس إلا تكوينا مصطنعا خلقته الإمبريالية العالمية، والأمة العربية لغو لا وجود حقيقي له وان تاريخ هذه المنطقة هو قصة الاعتداءات على الأقليات المسلمة وغير المسلمة فقط، وان أحد مسالك تفجير المنطقة يأتي عبر التوترات الدينية والطائفية العرقية خصوصا بين السنة والشيعة والعرب والأكراد والمسلمين والأقباط، وان منطقة الشرق الأوسط هي أرض الأقليات الدينية والعرقية وليست أرضا للأمة العربية التي هي وهم خلقه الإدراك الخاطئ من الجانب الأوربي.

2-      هذا الواقع يسهل على إسرائيل مشكلة التسرب داخل منطقة الشرق الأوسط بجعل محور سياستها توطيد علاقتها بهذه الأقليات، أما بالنسبة للعلاقات الإسرائيلية الإثيوبية فهي تتميز بارتباطات قديمة منذ عصر يهوذا وعلاقته بملوك الحبشة والمستمرة حتى اليوم وكذلك تركيا التي توجد فيها أقلية يهودية مستترة بعباءة الإسلام (يهود الدونمة) المسيطرون على وسائل المال والإعلام هناك حيث على إسرائيل أن تعيد صوغ سياساتها مع هذه الدول.

3-      هناك قناعة إسرائيلية بأن الوطن العربي على استعداد لأن يتقبل الوجود الإسرائيلي في المنطقة.

4-      لابد من استخدام القوة العسكرية لتحقيق الأهداف السياسية والاستراتيجية العليا لإسرائيل[30].

والحديث عن كمنويلث عبري يمكن أن يفهم كنوع من الغزو النفسي للأقليات في الوطن العربي، ومحاولة لتحطيم الروابط القوية لكيان الأمة العرقية.

وقد صرح شارون في اجتماع كبير لتكتل الليكود عام 1988 «إن الضفة الشرقية هي جزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل وحقوقنا فيها كاملة لا يمكن أن نتنازل عنها، وإذا لم يستطع جيلنا الحالي أن يحقق ذلك فان على الأجيال القادمة ألا تنسى ذلك» وهو تصريح تكرر عدة مرات بعد ذلك مثيرا أزمة دبلوماسية مع الأردن، كما لا يخفى مغزى مشروع بيريز (مارشال للشرق الأوسط) أو السوق العربية –الإسرائيلية المشتركة.

وإذا كان شمعون بيريز تحدث عن مشروع مارشال فان آبا ايبان تحدث عن الولايات المتحدة العربية الصغرى«إن أمل إسرائيل أن تقيم الولايات المتحدة العربية الصغرى بالنسبة للعالم العربي على غرار علاقات الولايات المتحدة مع دول أمريكا اللاتينية من ناحية التعامل الاقتصادي»[31].

أما بن غوريون فقد عبر عن اللحظة التي يحلم فيها بتنفيذ هذه المخططات حيث علق على خرق إسرائيل هدنة 1949 بالقول «عندما تجيء لحظة التنفيذ سنسوي حساباتنا مع الفراعنة الذين طردونا من مصر والبابليين الذين أسرونا والآشوريين الذين انضموا للرومان في تدمير الهيكل»

نجد فكرة المجال الحيوي متكررة بشدة لدى الحركات الفاشية كما في ألمانيا وايطاليا والكيان الصهيوني واليابان، التي حاولت جعل الصين مجالا حيويا لها فحركة rss(راشريا سواياما سيغان سانغ) الهندوكية الفاشية في الهند تتبنى هذه الفكرة حيث أن فرع هذه الحركة قام أوائل السبعينيات في دلهي بتوزيع خمسة ملايين بطاقة بريدية تظهر الهند وباكستان وأفغانستان ونيبال وسيريلانكا وبنغلادش تحت العلم الهندوسي الزعفراني[32].

تتبلور إذن فكرة التوسع باعتبارها ركيزة أساسية للفاشية باعتبارها حركة ذات سمة استعمارية. لقد آمن تيودور روزفلت في كتابه (اكتساب الغرب ) أنه «لأجل خير العالم فان الشعب الناطق بالإنكليزية بكل فروعه يجب أن يسيطر على أكبر قدر ممكن من سطح العالم»[33] والسيطرة تأخذ معناها ليس فقط لأجل (خير العالم) وإنما انطلاقا من انحطاط الآخر ووجوب استعماره وإلغائه، فيصرح ونستون تشرشل في تبريره للغزو الصهيوني «أنا لا أوافق على أن الكلب في المذود يملك الحق النهائي في المذود حتى لو كان يضطجع هناك منذ زمن طويل، أنا لا أعترف على سبيل المثال أن هناك خطأ قد حدث بحق الهنود الحمر في أمريكا أو الناس السود في أستراليا، أنا لا أعترف بأن هناك خطأ قد حدث بحق تلك الشعوب بناء على الحقيقة بأن عرقا أقوى، عرقا من درجة أعلى قد استولى على الأرض»[34].

وكما سعى المستعمرون البيض للتوسع غربا عبر إزاحة استراتيجية للسكان الأصليين، في العالم الجديد كذلك بقيت الدولة الصهيونية بدون حدود رسمية، مقتدين بهتلر الذي افترض أن حدود العرق الأوربي هي حيث تقتضي الحاجة وهكذا تؤكد غولدا مائير بعد حرب 1967 وفي رفضها للانسحاب بأن حدود الرابع من حزيران 1967 غير آمنة ولا يمكن الدفاع عنها، غير أن الجنرال بيليد يرد عليها قائلاً «إن الحكومة الإسرائيلية توحي للرأي العام أن ثمة خوفا من الإبادة وتكون صورة كاذبة عن الظروف التي سببت الحرب وذلك لتبرير توسعها في أراض عربية جديدة» ثم يضيف « إن احتلال أراض جديدة هو وصفة سحرية وحل لكل معضلات أمتنا»[35]. وتؤكد مائير «أن الحدود تقع حيث يستوطن اليهود ويقيمون ولا تقع على خريطة يحدها خط ما»[36].

ومرة أخرى يبدو ألا سبيل إلى التشابه بين أي شيء وشيء آخر كالتشابه الذي يتحقق بين النازية والصهيونية في إطار فاشي واحد.



[1] خالد القشطيني. الجذور التاريخية للعنصرية الصهيونية. ط1(بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981 ص27

 

[2] ادوارد سعيد. الاستشراق. ترجمة كمال أبو ديب. ط4(بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية. 1995) ص64

 

[3] ألبير ميمي. صورة المستعمر والمستعمر. ترجمة: جيروم شاهين (بيروت: دار الحقيقة، 1980) ص96

 

[4] نفسه. ص97

 

[5] دادياني. الصهيونية على حقيقتها. ترجمة الياس شاهين (موسكو: دار التقدم، 1989) ص175.

 

[6] نفسه. ص176.

[7] نفسه. ص54.

[8] أدولف هتلر،كفاحي، ترجمة لويس الحاج،ط2(بيروت: بيسان، 1995) ص71.

[9] نفسه. ص73.

[10] ايلان هاليفي. المسألة اليهودية: القبيلة –الشريعة – المكان، ترجمة فؤاد جديد، ط1(بيروت: مكتب الخدمات الطباعية، 1986) ص 220.

[11] دادياني. سبق ذكره. ص154.

[12] محمود محارب. الصهيونية-الترانسفير- الأبارتهايد، حلقة 1-12/5/2005/عرب 48 www.arabs48.com.

[13] هاليفي. سبق ذكره. ص222.

[14] محمود محارب. سبق ذكره. حلقة 2. 16/12/2005.

[15] المصدر نفسه.

[16] نفسه.

[17] نفسه

[18] نفسه

[19] هآرتس. 17/8/1988.

[20] هآرتس. 23/3/2001.

[21] دادياني. سبق ذكره. ص292.

[22] نفسه. ص293.

[23] Karanjia R.Kh. the Dagger of Israel.Bombay, 1957,p.35

 

[24] نيويورك تايمز 26 نيسان 1956.

[25] حسام سويلم. من جابوتنسكي إلى عوريد بنيون، استراتيجيا 110،(بيروت: شباط 1992) ص54

[26] حسام سويلم. الاستراتيجية الخفية لإسرائيل والصهيونية العالمية. تفتيت الوطن العربي. استراتيجيا عدد108 (بيروت أيلول) ص43.

 

[27] حسام سويلم. من جابوتنسكي إلى... سبق ذكره.  ص50

[28] نفسه. ص51.

[29] نفسه.

[30] نفسه. ص53.

[31] نفسه. ص54.

[32] ستشينا مازر سومدار. المرأة والتعبئة اليمينية في الهند. الثقافة العالمية72(الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سبتمبر 1995) ص52.

[33] نورمان.ج. فنكلشتين. صعود وأفول فلسطين: رواية شخصية لسنوات الانتفاضة. ترجمة أيمن حنا حداد (دمشق: كنعان للدراسات والنشر، 1996) ص 261

 

[34] نفسه. ص263.

[35] روجيه ديلورم. إني أتهم، ت نخلة كلاس، (دمشق، دار جرمق للطباعة والنشر آب 1980) ص112.

[36] هآرتس. 19أيلول 1971.