بين حداثة السياسة وتحديث المجتمع

حجم الخط
ليس جزافاً، بل تعبيراً عن خبرة الحياة، قيل: "قُلْ لي مَن هو صديقك أعرفك". وبالمقارنة، (وإن باحتراس أعلى)، يمكن القول: "قلْ لي مَن هو حليفك السياسي أعرف نتائج سياستك". مقارنةٌ تستدعيها مطالبة "المجلس الوطني السوري" المُعارض حلف الناتو بالتدخل العسكري لحسمِ معركة السلطة مع النظام السوري، ذلك على الرغم من الحصاد الكارثي، وطنياً وقومياً وديمقراطياً، الذي أفضى إليه مثل هذا التدخل في كلٍ من العراق وليبيا، عندما طالبت به، (بدعمٍ من أنظمة عربية، وخليجية بخاصة)، أطراف عراقية، ثم ليبية، متنافرة، توافقت على إطاحة النظام القائم وتسلُّم السلطة، ما حوَّلها بالنتيجة، بمعزل عن النوايا، إلى غطاء داخلي، استعملته سياسة "الفوضى الخلاقة" أداة لتدمير بلديهما، دولة وكياناً ودوراً. ثمة دلالات تقبع خلف ألا تمنع النتائج الكارثية للتجربتين العراقية والليبية "المجلس الوطني السوري" من السعي، باستماتة، إلى تكرار ذات التجربة، بتشجيع من ملوك وأمراء ومشايخ وسلاطين الخليج العربي. ولعل بين أهم، بل، وأعمق، هذه الدلالات، إنما يكمن في تشابه بعض "المعارضات" العربية التقليدية مع أنظمتها الحاكمة في ثقافة "السلطة بأي ثمن"، حتى لو كان تدمير الوطن والدولة وتقتيل الشعب، بحسبان أن لا فرق بين بلوغ هذه النتيجة بواسطة الخيار الأمني والعسكري للأنظمة في مواجهة انتفاضات شعوبها، أو بواسطة خيار استدعاء التدخل العسكري لحلف الناتو، باسم هذه الانتفاضات، من قبل بعض المعارضات العربية، ذلك حتى لا نقول إن التجربة ونتائجها العملية قد برهنت، (بمعزل عن النوايا والذرائع)، على أن الخيار الثاني أكثر خطورة وكارثية، لا وطنياً وقومياً وحسب، بل وديمقراطياً أيضاً، اللهم إلى إذا صدق أحد، خلافاً لحقائق الواقع، أن نظام الحكم القائم في العراق، (بعد احتلاله وتدميره)، هو نظام ديمقراطي، وليس نظاماً كاريكاتورياً فاشلاً، تجوز تسميته بأي مسمى إلا مسمى الديمقراطي، بعد أن أفضى إلى كل ما يعانيه العراق من تقتيل داخلي، دمر، وما زال يدمر، نسيجه الوطني، بما لا حدَّ له من الصراعات السياسية المذهبية والطائفية والجهوية والإثنية والقبلية، ناهيك عن ما قاد إليه من تبعية سياسية ونهب اقتصادي لمقدرات هذا القطر العربي وثرواته، وفي ظني، (وآمل أن أكون مخطئاً)، أن ليبيا على ذات الطريق تسير. بالكشف عن هذا التشابه الثقافي السياسي القائم بين "معارضات" عربية تقليدية والأنظمة الاستبدادية الحاكمة في بلدانها، لا يعود مستغرباً أو مفاجئاً مسعى "المجلس الوطني السوري" المعارض، لتكرار ذات التجربة الكارثية في كلٍ من العراق وليبيا، لكن المفاجئ والمُستغرب، (دلالة ومغزىً)، إنما يكمن في ألا يحول ذلك دون انضمام بعضِ الشخصيات السياسية ذات التوجهات الوطنية الديمقراطية، (على عكس أكثريتها)، إلى صفوف هذا المجلس، بل، وكانت المفاجأة الأكبر للكثيرين، (وأنا منهم)، في ألا يحول ذلك دون تولي الأكاديمي السوري البارز، برهان غليون، رئاسة هذا المجلس، وهو "المفكر الحداثي"، الذي ساهم، (بما كتب)، على غرار ما فعل مفكر بوزن المرحوم إدوارد سعيد، في نقدِ المنطلقات الأساسية لنظرية "المركزية الأوروبية"، ونقضِ تفسيراتها الاستشراقية العنصرية "فوق التاريخية"، التي تعج بها مطالعات، يدعي أصحابها من المستشرقين علميتها، فيما هي ليست أكثر من غطاء أيديولوجي للاستعمار الغربي، بطوريه: المباشر وغير المباشر، (التبعية)، بل، ووافق غليون، (بما كتب أيضاً)، على ما قدمه مفكِّر بوزن المرحوم هشام شرابي، من نقد ونقضٍ للأنظمة السياسية العربية، التي تستمد شرعيتها من معادلة عتيقة، تقوم على وراثة نسل الحاكم للحكم، كما لدى ملوك وأمراء ومشايخ وسلاطين الخليج العربي، ما قاده إلى نحتِ مصطلح "الأبوية الجديدة"، (newpatriarchism)، لتوصيف هذه الأنظمة السياسية العائلية، التي تنصب نفسها اليوم قاضيا للانتفاضات الشعبية العربية، المنادية بالتغيير الديمقراطي، فيما من تجربة هذه الأنظمة الوراثية، وتقليداً بائساً لها، استمدت أنظمة سياسية عربية أخرى، ("اتهمت" نفسها، و"أتهمها" غيرها، بالجمهورية والديمقراطية)، تنادي شعوبها اليوم بإسقاطها، نظام توريث الحكم للنسل باستفتاءات شعبية مزيفة، ليتساوى بذلك حكام الأنظمة السياسية العربية، بشقيها الوراثي والتوريثي، في حكم شعوبهم وأوطانهم، بذات طريقة حكْمِ الأب و"شيخ" القبيلة، الأول لأفراد عائلته، والثاني لأفراد قبيلته. وأكثر، فقد نَبَّهَت كتابات "المفكرين الحداثيين" العرب، (ومنهم غليون)، إلى أن أنظمة وراثة الحكم، هي مَن جعل، (قبل، وأكثر من، أنظمة التوريث)، الحاكم العربي، مجرد ناطور لمصالح الاحتكارات الرأسمالية الغربية المعولمة، يبتزل الريع من عائدات الاقتصاد الوطني لحسابه الشخصي والعائلي والزبائني، ( بتعبير المفكر العربي المصري اللامع سمير أمين)، محَوِّلاً بذلك الوطن إلى مجرد إقطاعية له، يحصل منها على فتات، قياساً بما تمتصه احتكارات النهب الغربي من ثروات الوطن وموارده، بعد أن حوَّل السلطة إلى مصدر للثروة، وآلية للتبعية، وإلى مرتعٍ للفساد والإفساد والثراء الفاحش، وإلى أداةٍ للقمع والإفقار والبطالة والحط من الكرامة، وإلى سبيلٍ لإعادة تشكيل بنى الدولة، وتدجين جيوشها وتهميشها لمصلحة تقوية أجهزة الأمن الداخلي، ودمجِ الجهاز البيروقراطي الحكومي عضويا بها، مع ما ترتب على كل ذلك مِن إطلاقٍ ليد الحكام العرب، (الوارث منهم للسلطة، قبل، وأكثر من، المُوَرَّثِ لها)، في خرق المحرمات الوطنية والقومية. بامتداد تشابه المعارضات العربية التقليدية مع أنظمتها الاستبدادية الحاكمة في ثقافة السلطة بأي ثمن، إلى أطراف المعارضة الوطنية الديمقراطية، بل، وإلى "الحداثية" منها أيضاً، يكون المرء أمام أسئلة كبيرة، بل، ووجهاً لوجه مع دلالات مرعبة، تشي بثقل المصاعب والعقبات الذاتية الكبيرة التي تعترض سبيل التجسيد الفعلي، وليس "الشعارتي"، للمفاهيم الديمقراطية الحديثة، لا في واقع الثقافة السياسية لأنظمة الاستبداد الحاكمة بالوراثة أو التوريث فقط، بل، وفي واقع ثقافة الكثير من "المعارضات" العربية أيضاً. يحيل ما تقدَّم إلى سؤال علاقة العاملين، الموضوعي والذاتي، وجدليه تفاعلهما في عملية تغيير المجتمع، أي مجتمع، والمجتمع العربي ليس استثناء، وهو السؤال الذي يحيل بدوره، شئنا ذلك أم أبينا، إلى حقيقة أن: ليس هنالك إمكانية لممارسةٍ سياسية حداثيةٍ متسقة مستقرة ومتنامية، دون توافر تحديث نوعي متصاعد لأساسها المجتمعي الاقتصادي، (socio-economic)، والعكس صحيح، بسبب ما بين الأمرين من تأثيرات متبادلة، تحيل إلى، وتجيب عن، سؤال: لماذا أنجبت ثورة أوروبا الصناعية، بتغييراتها المجتمعية، حداثةً سياسية، فعَّلت تقدمها، حدَّ التمكن من الاستعمار المباشر، ثم غير المباشر، (التبعية)، لبلدانٍ تأخرت ثوراتها الصناعية، (الأقطار العربية مثلاً)، بينما تمكنت بلدان أخرى، بثوراتها السياسية وتغييراتها المجتمعية، من فكِّ التبعية لمستعمِريها، وتحقيق ثورة صناعية، ( الصين والهند والبرازيل مثلاً).