المشروع الصهيوني الاستعماري إلى ايـن؟

حجم الخط
سؤال المشروع الصهيوني الى اين...يكتسي أهمية كبيرة والإجابة عليه تكمن في الوعي السياسي والتاريخي للوجود العربي من جهة والوجود الصهيوني من جهة أخرى....إذ ليس بالإمكان الإجابة على هذا السؤال دون امتلاك ناصية الوعي والعلم والقدرة على التحليل ودون إسقاط المشاعر والرغبات...وعليه فالسؤال هو سؤال من نوع استراتيجي تاريخي وليس سؤالاً سياسياً راهناً يستدعي موقفاً سياسياً...بقدر ما يستدعي رؤية سياسية أو مشروع عربي في سياق رؤية استراتيجية. في ضوء ذلك فإننا نعتقد أن ما يقرر مستقبل المشروع الصهيوني وضمناً "اسرئيل" ليس رغباته أو مشاعرنا..إن ما يقرر مستقبل المشروع..هو رؤية المشروع وتقييمه من كل جوانبه, من فكرته ونشأته وكيف تجسد على الأرض..ودوائع بقائه...وراهنيته ومكوناته الدينية والاجتماعية والاقتصادية ومرجعياته السياسية والثقافية...وليس فقط رؤية القوة المادية العسكرية لديه.. وعليه لا بد من دراسة تاريخية وعلمية لهذا المشروع تتناول كل هذه المفردات والوقائع والأحداث والعلاقات بين الكيان وروافعه...وصولاً الى استخلاصات علمية ذات طبيعة استراتيجية وليس استخلاصات ذات طبيعة سياسية راهنة بمعنى إصدار موقف سياسي ما... هل نملك مثل هذه الدراسات التاريخية والموضوعية للمشروع الصهيوني والكيان الاسرائيلي على الارض..بدون شك إن المكتبة العربية فيها من الدراسات الموضوعية والعلمية لظاهرة الكيان ما يمكننا من الحكم على مستقبل المشروع الصهيوني وصيرورة تهالكه..بيد أن هذه الراسات لم تزل غير كافية لتحليل ظاهرة الكيان الاسرائيلي الذي يمثل التجسيد الحي والواقعي لمشروع صهيوني أكبر من مساحة الكيان بالمعنى الاستراتيجي والجغرافي.. ولعل فيما نملكه من وقائع ودراسات حول الكيان الصهيوني يمكننا من القول أن هذا المشروع بعد أكثر من من قرن وعقدين من الزمن..وبعد أكثر من ستون عاماً ويزيد على تشكل الكيان الصهيوني على ارض فلسطين...يمكننا من القول أن المشروع الصهيوني يعيش "أزمة وجودية" تضرب كل مفاصل وأركان كيانه على أرض فلسطين...وتضرب فكرته التي تنطوي على البعد الاستعماري والإمبريالي...فثمة أزمات تتوالد داخل الكيان وعلاقاته الداخلية من سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية..وخارج الكيان في علاقاته مع المحيط...دولاً وشعوباً... وإذا جاز لنا أن نعطي جواباُ حول مستقبل المشروع الصهيوني..فحريَ بنا أن نحدد ماهية المشروع وأهدافه ودوائعه...وما إذا كان قد حقق هذه الأهداف والغايات...ومن ثم الحكم على مستقبل المشروع... ومن الضروري بداية أن نحدد ماهية المشروع: أولاً: إن هذا المشروع هو نتاج فكر ومسعى استعماري غربي يستهدف المنطقة وفي القلب منها فلسطين العربية...وهو مشروع استراتيجي قائم على الرغبة الاستعمارية في السيطرة على الأمة العربية والتحكم في مقدراتها من جهة..وتفتيتها من جهة أخرى لتسهيل عملية السيطرة والتحكم...وهو مشروع يعود الى ما قبل مؤتمر بازل الصهيوني عام 1897م...غير أن مؤتمر بازل قد صمم المشروع سياسياً وجغرافياً بما يحقق الأهداف الاستعمارية وفق التالي: - العمل على تنظيم وتجييش اليهود في دول العالم...وربطهم بالحركة الصهيونية العالمية. - العمل بكل الوسائل على تشجيع الهجرة اليهودية الى أرض فلسطين العربية بعد غض النظر عن خيارات أوغندا وقبرص والأرجنتين. - تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية...وتوليد أداتها التنفيذية باسم "الوكالة اليهودية" التي كلفت بشراء الأراضي الفلسطينية من جهة وجمع الأموال من الجاليات اليهودية من جهة أخرى للنفقات على الاستيطان. - السعي لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين..والعمل على استحصال الشرعية الدولية لإقامة هذا الكيان عبر الحركة السياسية والدبلوماسية مع مختلف القوات العظمى. - العمل بكل الوسائل للاستيطان في فلسطين وإقامة المستعمرات اليهودية. تلك كانت أهداف المشروع الصهيوني..غير أنه لم يكن مشروعاً استعمارياً مقفلاً بحدود أو بعبارات سياسية مكتوبة وقطعية أو بوثائق ملزمة لكل عهد من عهود الحركة الصهيونية...إنما كان مشروعاً منفتحاً على التطورات والاحتمالات والمآلات كونه مشروعاً يتجاوز فلسطين وشعب فلسطين الى الأمة العربية وجغرافيتها...ولننظر كيف أن اسرائيل لا تملك حتى اليوم دستوراً مكتوباً ولا حدود واضحة..إنما تركت كل ذلك مرهون لمعطيات الواقع وتبدل موازين القوى التي تسمح لها بالتوسع والتأقلم مع حركة الواقع....وعليه فإن المشروع الصهيوني هو مشروع استعماري بامتياز ممتد ومتواصل..ومتحركاً في أهدافه ومراميه...وينطوي على قدر هائل من البراغماتية التي تتحين الفرص التاريخية للتمدد وتحقيق الأهداف البعيدة..عبر التحرك والسيناريوهات التي تسمح بها معطيات الواقع. واليوم بعد كثر من ستون عاماً على تأسيس الكيان الاسرائيلي كثمرة للمشروع الصهيوني الاستعماري وبعد ما يزيد عن قرن وعقدين من الزمن على ظهور الحركة الصهونية السياسية...ما الذي تحقق من هذا المشروع والذي لم يتحقق..؟ وهل توقف مسار المشروع الصهيوني الاستعماري عند حدود معينة. مما لاشك فيه أن المشروع الصهيوني قد حقق أهدافاً كبرى في الوطن العربي...وإحدث هزات بنيوية في طبيعة تطور ومسار المنطقة العربية...كما استوطن أرض فلسطين وأجلى أغلب سكانها عنها واغتصب أراضي عربية..وألحق هزائم عسكرية متتالية على القوات العسكرية العربية ولم يزل يهدد دول المنطقة ويعمل على جرها لحروب وصراعات توقف أية محاولات للتطور والتنمية الاقتصادية والسياسية والبشرية...بل تحدث انقساماً تاريخياً عربياً في كل محطات الصراع. ويمكن القول أن الحلقة المركزية في المشروع الصهيوني...ونقطة الانطلاق نحو الأهداف البعيدة المدى قد تحققت في احتلال فلسطين..غير أننا يمكن أن نلمس أن هناك أهدافاً ومرامي للمشروع الصهيوني لم تتحقق ولم يزل الاستعمار الحديث "الإمبريالية العالمية" تسعى لتحقيقها...وأن عدم قدرتها على تحقيقها بعد قرن من الزمن..يضع علامات استفهام كبرى على مستقبل هذا الكيان والمشروع. من غير المنطقي القول أن المشروع الصهيوني قد توقف مساره..فالأصل أن هذا الاسم الحركي للمشروع الاستعماري, وفي ضوء التحولات العالمية الاقتصادية والسياسية..تحول هذا المشروع ليصبح مشروعاً امبريالياً يكتسي ذات الملامح الاستعمارية والصهوينة لكنه يختلف عنه في الآليات والاساليب ومبقياً على الاهداف الاستراتيجية ....وعليه فالمشروع لم يزل قائماً في عصرنا الحديث ومستمراً بأشكال مختلفة...ولم يزل الكيان الصهوني يمثل مخلب قط..وأداة هذا المشروع المباشرة. وفي سياق استمرارية هذا المشروع لا بد من رؤية مختلف الأزمات التي يواجهها والتحديات التي تنتصب أمامه في واقع المنطقة العربية..وتتجسد هذه الأزمات أكثر في بنية "الكيان الصهيوني" الذي يشكل الأداة الوظيفية للمشروع الإمبريالي.. ومن هنا يمكن لنا أن نرصد بعضاً من هذه الأزمات التي تؤثر على الأزمة الوجودية التي يعاني منها الكيان الصهيوني: 1- أزمة استمرارية الصراع العربي – الإسرائيلي, والصراع الفلسطيني الاسرائيلي: على الرغم من الانتصارات التي حققتها "اسرائيل" على الجيوش العربية..واحتلال أراضي عربية إلا أنها لم تحرز حتى الآن انتصاراً استراتيجياً يوقف المقاومة..ويوفر لـ "اسرائيل" الأمن الاستراتيجي وذلك بالرغم من امتلاكها السلاح النووي. إن الصراع مع "اسرائيل" يتجدد مع كل انتصار اسرائيلي..بل يعمق الأزمة الأمنية الاسرائيلية, فالشعب الاسرائيلي لم يصل في أي مرحلة من مراحل حياة الكيان الى أي مساحة آمنة..وظل الفزع والخوف والقلق..والشعور بعدم الاستقرار هاجساُ يلف كل المجتمع "الاسرائيلي" بما فيه قياداتهم السياسية. وبعيد حرب 67 كتب البرفسور اليهودي "يشعياهو ليبوفيش" وهو كاتب مناهض لـ"اسرائيل" فقال (ستبدأ نهاية اسرائيل اذا لم تستيقظ) وبالأمس القريب قال باراك (إن وضع اسرائيل والمنطقة في وضع إنذار استراتيجي) ارتباطاً بإرهاصات الحراك الشعبي العربي.. إن المجتمع "الاسرائيلي" يعيش حالة من التقوقع والانغلاق والحصار من الجار العربي رغم كل محاولات التسوية وفرض الحلول..وقد ورد في متن تقييم مؤتمر هرتزليا لعام 2012 التالي ( إن من شأن الانقلاب على الذات والانكفاء السلبي أن يعرّض مستقبل المشروع الصهيوني الديمقراطي للخطر وإن مقولة "شعب يسكن لوحده" يمكن أن تكون جذابة لاسرائيل إلا أنها لا تشكل استراتيجية قابلة للحياة) لعل هذه العبارات تعكس حالة القلق الاستراتيجي التي تؤشر على عدم توازن المجتمع "الاسرائيلي" ..وحتى اليوم لم يتوقف الجدل الاسرائيلي من النخب السياسية والفكرية والثقافية الذي يعالج الهواجس والقلق من مستقبل الصراع العربي – الاسرائيلي...أي اننا أمام مجتمع مسكون بالخوف..يعيش هاجس نهاية الكيان وتبدل الظروف. وهنا تتجلى وتتوالد جراء هذا القلق الأزمة الثانية: 2- أزمــــة الهويــــة: لعل من أخطر الأزمات التي تواجه الكيان الاسرائيلي..ما اصطلح على تسميته بأزمة الهوية..وهي الأزمة التي تؤشر على حجم التناقضات الداخلية في المجتمع الاستيطاني "الاسرائيلي" من نخب سياسية وثقافية ودينية..فاسرائيل حتى اللحظة لم تستطع أن تحسم خياراتها حول تحديد مفهوم الهوية وعلاقتها بالدين...أو علاقتها بالديمقرطية أو الثفافة اليهودية...فثمة حقيقة لا يمكن تجاهلها وهي أن الكيان الاسرائيلي لا يشكل شعباً واحداً أو شعباً متجانساً هوياتياً وثقافياً وسياسياً...إنما نحن أمام تجمعات استيطانية تحاول أن تصهرها دولة الكيان في هوية واحدة هي الهوية اليهودية..دون أن يتحدد مفهوم هذه اليهودية حتى اللحظة..فالكيان يتعايش فيه اليوم يهود الصابرا وهم الذين ولدوا في فلسطين...وينظرون الى اليهود القادمين من الخارج بازدراء واحتقار...وهناك يهود الفلاشا القادمين من إفريقيا..ويهود الإشكناز القادمين من أوروبا الغربية..والسفارديم القادمين من أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي والدول العربية..وهناك يهود السوفيت الذين يسمون الأغبار...وكل تجمع من هذه الطوائف يملك ثقافته الخاصة ونمط وتقاليد حياة مختلفة عن الآخر...بل يتحدثون بلغات مختلفة عبرية متنوعة وغير عبرية..ويعيشون في غيتوات مختلفة. وإذا ما تجاوزنا هذا التمايز الإثني والعرقي في المجمتع الاستيطاني الصهيوني..فإننا سوف نلحظ الصراع القائم بين العلمانيين والحريديم المتزمتين دينياً..والمتدينين القوميين..فالحريديم يزداد نفوذهم في المجتمع الاستيطاني..ويزداد خطرهم على تماسك التجمعات الاستيطانية بفعل معتقداتهم الدينية المتطرفة والعنصرية لا سيما تجاه النساء...فهم يعتقدون ويمارسون بأن النساء لا يجب أن تسير الى جانب الرجال..ولا يجب أن تكون في مقدمة الركاب في الباصات ولا يجب أن تسير النساء على ذات الأرصفة مع الرجال...إلخ من الهرطقات الدينية المتزمتة وتشير الارقام الى أن نسبتهم في حالة ازدياد حيث وصلت نسبتهم الى حوالي 8% من المجتمع الاستيطاني...وهم لا يؤمنون بالعمل ولا الانخراط بالجيش..وتشير الأرقام الى 60% من هذه الجماعات الدينية لا تعمل وتشكل حالة عطالة على الكيان. في حين أن العلمانيون أرادوا أن يشكلوا دولة صهيونية لا تكون الشريعة اليهودية هي مصدر الأحكام فيها على عكس المتدينون الذين يؤمنون على أن اسرائيل يجب أن تكون دولة دينية تحكمها القوانين الشرعية اليهودية التوراتية. واليوم يستمر الصراع على من هم اليهود...فالمتدينون يقولون بأن اليهود هم المعتنقون باليهودية والملتزمون بشعائرها وتعاليمها الدينية..في حين أن العلمانيون يقولون بأن اليهود هم الذين ينتمون الى الشعب اليهودي...!!! وعليه فنحن أمام هوية مركبة ومشوهه للمجتمع الاستيطاني..وأمام فشل حقيقي في محاولة الكيان أن يجمع بين يهودية الدولة من جهة, وطبيعة النظام السياسي الديمقراطي من جهة ثانية.. وبالكاد اليوم أن تجد في النخب السياسية أو الدينية من يستطيع أن يضع حدوداً لتعريف من هو اليهودي وبالتالي مفهوم "دولة اسرائيل" كمفهوم علماني سياسي أو اسرائيل كمفهوم يهودي ميتافيزيقي. هذا التناقض في المفاهيم والتعريف بالكيان هو الذي يشكل جزءاً من الأزمة الوجودية المترابطة مع الأزمات الأخرى...أي أن اسرائيل تتفكك من داخلها إذا ما أحسن استثمار هذه الأزمات عبر المواجهه العربية. أما على صعيد محاكمة مسار الصهيونية ومدى نجاحها في سعيها وأهدافها المعلنة..فإننا سوف نلمس أن هناك أكثر من صهيونية وأكثر من هدف. فالصهيونية العلمية...وهي الحركة التي عملت على احتلال أرض فلسطين ومارست السياسة العملية والدبلوماسية البراغماتية ونجحت فيما سعت إليه غير أنه اليوم يتراجع نفوذها في المجمتع الاستيطاني...في حين أن الصهيونية الثقافية التي ترى بأن اسرائيل يجب أن تكون هي مركز اليهود والعالم أجمع...المركز الروحي والثقافي..وهذه صهيونية متخيلة وتعيش أحلام وتعاليم توراتية. أما الصهيونية الدينية فهي التي تريد أن تطبق الشريعة اليهودية..وليس بالإمكان القول أنها قد وصلت الى أهدافها في المجتمع الاستيطاني على الرغم من زياد نفوذها. والصهيونية الاشتراكية التي حمل لوائها حزب العمل "الاسرائيلي" تاريخياً..فقد مضى الى التشقق والتشرذم والفشل وتراجع دوره في المجتمع الصهيوني..وفشلت خططه وبرامجه الاقتصادية المختلفة. 3- أزمة غياب الدستور وجدل لا ينتهي: لعله من نافل القول أن الكيان الصهيوني "اسرائيل" يعتبر من الدول القليلة التي لا تملك دستوراً مكتوباً يحدد تعريف وماهية "اسرائيل" التي اعترف بها العالم عام 1948 وينظم آليات عمل السلطات فيها والحياة السياسية والعلاقة مع المؤسسات الدولية وهوية الدولة...وعلى مدار نشوء وحياة الكيان..عجزت القيادات السياسية والحزبية عن وضع دستور مكتوب يمثل جزءاً من هوية الدولة, ولطالما جرت محاولات عديدة لوضع دشتور جديد يتجاوز القانون الانتقالي الذي وضع عام 1948 والذي سمي بالدستور الصغير..إلا أن كل هذه المحاولات فشلت لأسباب عديدة تكمن في طبيعة الخلافات السياسية والرؤى لطبيعة أهداف ومدايات المشروع الصهيوني بين القيادات والمعارضات السياسية العلمانية والدينية والقومية..ولعل أهم الأسباب تعود إلى: أولاًً: أن رجال الدين والقوى الدينية لم تزل تعارض وضع دستور "دولة اسرائيل" يكتسب طابعاً علمانياً وديمقراطياً يتماشى مع الأنظمة السياسية الغربية, ويتناقض مع رؤية هؤلاء المتدينين الذين يرون أن "اسرائيل" هي تجسيد لدولة الآباء, وهي دولة يهودية خالصة..تعتمد على التقاليد والأسس السماوية اليهودية. من هنا نشأ الخلاف بين القوى العلمانية والليبرالية المرتبطة بالغرب الإمبريالي, وبين القوى اليهودية التي ترتبط باليهودية الدينية وبارض الميعاد..الأمر الذي يجعل دولة الكيان محط خلافات ذات طبيعة استراتيجية ووجودية وسياسية. ثانياً: هناك من القوى الدينية والعلمانية والسياسية التي تعتقد أن "اسرائيل" لم تنجز مشروعها الصهيوني على الأرض أو مشروعها في تجميع يهود العالم على ارض فلسطين, مما يحتم عدم إلزام المهاجرين اليهود القادمين الى ارض الميعاد بدستور لم يساهموا في وضعه..ولم يشاركوا في صياغة مبادئه ومواده. ثالثاً: ومن جهة أخرى هناك من يعترض على وضع دستور لإتاحة الفرصة لكسب الوقت ومساحة أكبر من الحرية في مواجهة المستجدات السياسية والإقليمية والدولية التي يمكن أن تكون في لحظة مناسبة لخدمة الكيان..أي رفض أي دستور يشكل عائقاً أمام حرية الحركة الصهيونية والكيان الصهيوني, وعليه فإن غياب الدستور هو محاولة للتحلل من أي قيود والتزامات محلية وإقليمية ودولية, الأمر الذي يبرهن أن "اسرائيل" هي وجود طارئ, ووجود عصاباتي..لا يملك منهجاً أو دستوراً أو تاريخاً..أو هوية تؤهله للاندماج في المجتمع الدولي...إنما تعتمد على قوانين بديلة للدستور مستحدثة ومرتبطة بالأحداث الراهنة أو المستجدة.. من هنا نعتقد أن هذا الجدل في المجتمع الاستيطاني يفتح المجال لحرب ثقافية وهوياتية بين جمهور المتدينين وجهود العلمانيين...تعكس التناقض بين أدبيات ونظريات يهودية وصهيونية قديمة وجديدة..كما تعكس حجم القلق والهواجس من زوال "اسرائيل" 4- أزمة الهجرة اليهودية المعاكسة: إن احد أهم روافع المشروع الصهيوني والاستراتيجية العملية التي صممت في مؤتمر بازل عام 1897 لتوفير أركان وشروط الدولة اليهودية تمثلت في العمل على تنظيم وتجييش اليهود في العالم..وتشجيعهم على الهجرة الى "أرض الأجداد" حتى يتوفر شرط "وجود الشعب" بعد أن يتوفر شرط "وجود الأرض" وعلى مدار سنوات بناء الكيان دأبت الحكومات الاسرائيلية على تشجيع ووضع آليات واستراتيجيات لحث اليهود على الهجرة الى دولة الكيان..وتوفير كل مستلزمات الاستيطان والاستيلاء على الآراضي الفلسطينة وتمويل كافة عمليات الهجرة من مختلف دول العالم. اليوم بعد أكثر من ستون عاماً على إنشاء الكيان يمكن القول أن الكيان قد فشل في تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي والوجودي..حيث لم يستطع الكيان أن يجلب اليهود الى الجنة الموعودة..أو أرض الأجداد أو الى ارض الميعاد أو الخ..فلا السياسية ولا الاعتبار الديني ولا الاعتبار التاريخي كما يزعمون..قد دفع اليهود في العالم الى الهجرة الى فلسطين "الملاذ الآمن" ..فلم يهاجر الى أرض فلسطين من اليهود على مدار قرن كامل من الزمن أكثر من 37% من اليهود في العالم..حيث يبلغ عدد اليهود في العالم قرابة 13 مليون يهودي موزعين في مختلف انحاء العالم..في حين من استطاعت اسرائيل جذبهم الى جنتها الموعودة لا يزيد عن ثلاثة ملايين ونصف منذ إنشائها...وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية عملت منذ قرن من الزمن على تهجير اليهود الى فلسطين فإن معدل الهجرة السنوية منذ عام 1879 حتى اليوم لا يتجاوز خمسون الف يهودي بالمتوسط في العام الواحد..وهو رقم يثبت فشل الحركة الصهيونية في جلب اليهود الى ارض فلسطين لصناعة الشعب اليهودي على أرض فلسطين.. غير أننا في السنوات الأخيرة ووفقاً للإحصاءات الاسرائيلية فأن الهجرة الى "اسرائيل" باتت تتراجع بشكل ملحوظ لأسباب أمنية واقتصادية تعاني منها دولة الكيان..ولأسباب تتعلق بالدول مصدر الهجرات حيث أصبحت اكثر أمناً وأكثر رفاه من دولة الكيان... وفي السنوات الأخيرة لم تبلغ أكثر من عشرين ألف في العام..وتشير الإحصاءات الى أن الأمر يتعدى نضوب أو تراجع الهجرة..الى ما هو أخطر من ذلك حيث الهجرة المعاكسة..فقد هاجر من أصل 3.5 مليون قدموا الى "اسرائيل" 20% من هؤلاء هجرة معاكسة الى دول أوروبية وغربية وأمريكية..حيث تشير الأرقام إلى أن مجموع الهجرة المعاكسة قد بلغ 750 الف مهاجر يعيشون خارج "اسرائيل" ويمثلوا حوالي 13% من الكيان..وتشير الاستطلاعات الى أن حوالي 60% من المجتمع الاستيطاني يرغبون في الهجرة خارج اسرائيل..بل أن هناك خطر يتمثل في رغبة ثلثي السكان الاسرائيليون في الحصول على جوازات وجنسيات لدول أخرى.. ومن هنا فالمعادلة – الأزمة القائمة تتمثل في أن "يهود الخارج لا يأتون ويهود الداخل يرحلون.." مع تدني في معدلات الزيادة الطبيعية للسكان التي لا تتجاوز 1.4%.. في ضوء هذه الصورة الموجزة عن أرقام الهجرة..والهجرة المعاكسة..والقلق الاسرائيلي الناتج عن الخطر الديمغرافي..يصبح السؤال الوجودي منتصباً أمام كل النخب السياسية والفكرية في اسرائيل "الى أين هذا المشروع" 5- الخطــر الديمغرافــي: إن أكثر ما يقلق الكيان الاسرائيلي اليوم هو ما يسمونه الساسة الاسرائيليون "خطر القنبلة الديمغرافية" وخطر "الرحم الفلسطيني"..وقد توقفت مؤتمرات هرتزليا أمام هذا الخطر الزاحف على الكيان أكثر من مرة..وقبل أن يرقد شارون في غيبوبة أبدية..كان يخشى على اسرائيل من غيبوبة وجودية..حين قرع جرس الإنذار الديمغرافي معلناً "أن على اسرائيل أن تتغلب على الخطر الديمغرافي عبر أن تصبح الهجرة اليهودية الى اسرائيل هي الغاية المركزية لدولة اسرائيل" وذلك في محاولة يائسة لزيادة اليهود في فلسطين بما لا يجعلهم في المستقبل القريب أقلية أمام أغلبية فلسطينية...فقد أشارت مبكراً مراكز إحصائية اسرائيلية بأن عام 2020 سيصبح فيه الفلسطينيون أغلبية بنسبة 58% من مجموع السكان..واليهود 42%..حيث أن الفلسطينيون في مناطق الـ48 سيبلغ عددهم حوالي 3 مليون نسمة..وفي الضفة والقطاع سيبلغ عددهم 5.8 مليون نسمة بما هو مجموعه 8.8 مليون نسمة في حين أن اليهود سيكون عددهم قرابة 6.4 مليون نسمة...أي أن المحصلة أن الفلسطينيون في عام 2020 لن يكونوا أقلية في دولة الكيان مما يهدد فكرة الدولة اليهودية وفكرة أرض الأجداد..ويقول آرنون سافير وهو باحث اسرائيلي ديمغرافي "إن دولتنا ستنتهي خلال 17 سنة إذا لم تعالج مشكلة الديمغرافيا" ليس ممكناً إحصاء التصريحات الرسمية والبحثية والصحافية التي تعكس هذا الخطر الناشئ على دولة الكيان..فثمة قلق وفزع ينتاب كل مكونات المجتمع الاستيطاني من المجهول والأغلبية الفلسطينية الزاحفة..من هنا حاولت المؤسسات الصهيونية واليهودية..ومراكز الأبحاث أن تقف أمام هذا الخطر وإيجاد الحلول..فلم يكن أمامها إلا اعتبار الهجرة غاية مركزية في هذه المرحلة..وإعلان أن اسرائيل دولة يهودية خالصة..لأجل ترحيل فلسطينيوا الـ48 الى الخارج أو الضفة والقطاع..ومنع اي لاجئ فلسطيني بالعودة الى أرض فلسطين وفق قرار حق العودة )رقم 194 (.. أي أن تتحول اسرائيل الى دولة يهودية من لون واحد وعنصرية وجيتو خاص متحررة من الوجود الفلسطيني الذي يمثل خطراً مستقبلاً على اسرائيل.. ولما لم تستطع "اسرائيل" أن تجعل من الهجرة اليوم عامل مكافئ لزيادة الفلسطينيين من جهة ولم تستطع أن تحصل على الشرعية الدولية والاعتراف الفلسطيني "بدولة يهودية" فإن الخطر الديمغرافي سيبقى أهم عامل وجودي على مستقبل دولة الكيان. 5- كيان يعيش على المساعدات الخارجية إن من أهم رافع استمرارية الكيان الصهيوني.. هي المساعدات الخارجية التي يتلقاها الكيان منذ نشأته وحتى اليوم..وهي تلعب الدور المحوري مع تدفقات رؤوس الأموال في إطالة عمر الكيان..والمساعدات الغربية لإسرائيل هي من الفرادة بمكان..لا تحصل عليه أي دولة من دول العالم..بل لا مثيل لها من حيث حجمها واستمراريتها وسخائها وتنوعها الى الحد الذي يجعل الاقتصاد الاسرائيلي يعتمد عليها بدرجة عالية. وليس ممكناً حصر المساعدات الغربية للكيان بطريقة حسابية فقط...فالأمر يتعدى ذلك الى الاحتضان والتبني الكامل لإسرائيل...وهي أكثر احتضاناً ورعاية ودلالاً من أي ولاية أمريكية...وهي الولاية الأهم في الشرق الأوسط التي تحظى بكل الرعاية والمساعدات من الولايات المتحدة الأمريكية ولعل التأكيد المستمر من الرؤساء الأمريكيين على حفظ الأمن الاسرائيلي, والعلاقة الاستراتيجية بين الكيان وأمريكا..والتماهي السياسي والعدواني بينها, يبين الأهمية الاستراتيجية لوجود الكيان كقاعدة متقدمة في الوطن العربي, وبما يؤكد على أن الكيان هو نبتة المشروع الاستعماري. لقد كتب الاقتصادي الأمريكي توماس ستوفر الاستاذ في جامعة هارفر تحت عنوان "تكلفة الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني على دافع الضرائب الأمريكي " إن هذه التكلفة قد ناهزت الثلاثة تريليونات من الدولارات وهي تكاليف حقيقية لتبني أمريكا اسرائيل منذ قيامها, وإن هذه التكاليف تساوي أربعة أضعاف تكلفة الحرب في فيتنام, وتمثل 30% من المساعدات الأمريكية بشكل عام وبما يعني أن كل اسرائيلي يحصل من هذه المساعدة على 500$ من دافع الضرائب الأمريكي". واسرائيل اليوم تحصل بشكل سنوي على ثلاثة بلايين دولار على شكل مساعدات متنوعة بما يؤشر على أن التحالف الدفاعي والاستراتيجي بين الكيان وامريكا ليس تحالفاً سياسياً...إنما هو اندماج بنيوي بين الطرفين يتجاوز التحالف السياسي الى جعل اسرائيل كيان قابل ومستمر في الحياة...ومتفوق في المنطقة. وما يفسر ذلك أيضاً حجم المساعدات العسكرية واللوجستية التي تحصل عليها "اسرائيل" دعم أمريكا لمشروع صناعة وتطوير الطائرة المقاتلة ليفي وصاروخ آرو بما يعادل 2.5% بليون دولار كي تبقى اسرائيل متفوقة استراتيجياً في المنطقة. ولا يتوقف بطبيعة الحال الأمر عند المساعدات الأمريكية..إنما المساعدات الغربية بشكل عام تمثل الترياق الذي تعيش عليه اسرائيل..فثمة اعتماد اسرائيلي مبكر على المساعدات الغربية في الخمسينات والستينات..وهي مساعدات مادية وعسكرية وسياسية..ولطالما مارست "اسرائيل" سياسة الابتزاز والضغط على تلك الدول للحصول على المعونات..ولعل المعونات والمساعدات الألمانية تمثل هذا اللون من الابتزاز والتلاقي بين الغرب واسرائيل..فقد بلغ حجم المعونة الألمانية منذ نشأة الكيان وحتى اليوم أكثر من 6 بليون دولار...حيث صرح وزير الخارجية أمام المؤتمر اليهودي في 8/5/1970 أن ألمانيا دفعت لإسرائيل تعويضات تصل الى 6 بليون دولار وأنها سوف تستمر في دفع التعويضات لمدة 34 سنة وحتى تصل في 2030 الى 80 بليون دولار. ومما لا شك فيه أن هناك مساعدات فرنسية وبريطانية وغربية لا تقل في حجمها وتنوعها عن المساعدات الأمريكية والألمانية. وإذا تجاوزنا المساعدات المالية والمادية..فإننا سنكون أمام حملة غريبة متواصلة لنصرة "اسرائيل" في مراحل الأزمات الاقتصادية والعسكرية والسياسية عبر الدعم اللوجستي والجسور الجوية التي تحمل مختلف أنواع الأسلحة والعتاد كما حصل في عام 67 و 73 وحرب لبنان2006...إلخ فضلاً عن الدعم السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية واستخدام الفيتو عشرات المرات لوقف القرارات الداعمة للحق الفلسطيني..أو دعم القرارات لدعم الباطل الاسرائيلي. إن مفردات الدعم لاسرائيل لا يمكن حصرها بالمعطيات الرسمية والموثقة...فثمة دعم متواصل غير معلن مادي وعسكري واستخباراتي ومساعدات غير منظورة..وتغطية إعلامية شاملة لكل السياسات الاسرائيلية في المنطقة العربية وفي الشأن الفلسطيني. في ضوء المعطيات السابقة..وجل الأزمات الوجودية التي تعاني منها "اسرائيل"...يبقى السؤال مطروحاً على المفكرين والمثقفين والسياسيين..وعلى المواطن العربي..ما هو مستقبل "اسرائيل"؟؟ إن الجواب على هذا السؤال..لا ينطلق من أن "اسرائيل" تعيش أزمات وجودية فحسب..إنما أيضاً ينطلق من رؤية العامل الذاتي للحالة العربية..فكل المعطيات تشير الى أن الحالة العربية مريضة..وتعاني من أمراض جمة وفي حالة غيبوبة سياسية..وفقدان للذاكرة التاريخية..غير أنها غيبوبة ليست أبدية وليست مستديمة..فثمة جزء من الجسم العربي المريض لم يزل يذكّر الأجيال بأن ثمة إمكانية للنهوض والوعي التاريخي, وثمة إمكانية لهزيمة المشروع الاستعماري. إن ما يطيل عمر الكيان الصهيوني بالإضافة الى مسكنات الغرب, هو استمرار الحالة المرضية للأمة العربية..بل أن كل التسويات السياسية التي أقدم عليها بعض زعماء الأنظمة العربية...والجانب الفلسطيني مع الكيان الاسرائيلي هي أكسير الحياة للكيان الصهيوني..وهي التي أخرجته مرحلياً من تداعي أزماته الوجودية...حيث لا حرب مع الكيان..ولا مقاومة ..ولا ممانعة..بل تسويات معه, وانفتاح سياسي واقتصادي علني وسري...وضخ الغاز الى شرايين اقتصاده...وإقامة علاقات دبلوماسية معه...وفتح أسواق ومشاريع تجارية واقتصادية مشتركة وحصار لمن يقاوم أو يواجه الكيان. وعليه فإن مستقبل "اسرائيل" يرسمه الواقع العربي...إما النهوض وزوال المشروع الصهيوني وإما السبات..وبقاء المشروع الصهيوني يعيش أزماته الوجودية دون أن يموت..حتى يستيقظ الضمير العربي. إن الساسة الاسرائيليون بعد مضي أكثر من ستون عاماً لا زالوا يبحثون عن شعب!!! ولا زالوا يبحثون عن أركان دولة..يبحثون عن دستور..ويبحثون عن هوية..وعن تاريخ..وعن شرعية..ما زالوا يبحثون عن شرعية فلسطينية لهم بالرغم من أن كيانهم يلقى اعتراف العالم أجمع..لماذا ؟؟ ما زالوا يبحثون عن مخارج لدولة محاصرة وغيتو عنصري..أنهم في قلب العاصفة..النهوض العربي وحده القادر على تعميق الأزمات الوجودية..وتذويب الكيان في أزماته وعنصريته. _______________________ ابو علي حسن عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين