تونس: مشاهدات الحاضر واستقراء المستقبل. الجزء الثاني

حجم الخط
خلال مشاهداتي ومعايشتي التي ذكرتها في الجزء الأول من هذا المقال، ومتابعة لما يجري في الساحة التونسية بعد عام من سقوط نظام بن علي، ذاك النظام الذي كان احد توابع الغرب ونظامه الرأسمالي، وحاضن ممثلية اسرائيلية كانت عنوان تأكيد على دوره المنحاز لمصالح اعداء الأمة والشعب التونسي، والذي شكل نموذجاً للدكتاتورية والقمع البوليسي، عاث بطشاً بكل من عاداه وعارض سياساته من قوى واحزاب واطر يسارية وعلمانية واسلامية في سبيل تثبيت نفسه، وفي سياق تموضع هذا النظام خلق شريحة واسعة من الرأسماليين الطفليين بنو ثروتهم من دماء ابناء تونس وخيراتها. في اليوم التالي لهروب بن علي كنت كتبت مقالاً بعنوان " تونس.. تغيير ام تدوير " اشرت خلاله الى ان هروب بن وعلي وتسلم اقطاب نظامه ( المبزع والغنوشي وغيرهم ) لا يعني سقوط النظام، ولا يجب ان تتوقف الثورة عند ذلك، اذ لا زال امامها شوط طويل لتنظيف كل اقطاب وتوابع النظام، واساساً تغيير بنيته الاقتصادية وتابعيته السياسية وصولاً الى احداث تغيير جوهري في نظامه الاقتصادي وسياساته الخارجية والداخلية واشاعة الديمقراطية وبما يؤسس لتحقيق مصالح الطبقات والفئات التي قادت الثورة ومن اجلها انطلقت وبذلت كل التضحيات. استمرت حينها التحركات الشعبية، فسقطت حكومتا الغنوشي الأولى والثانية، وجرت تغيرات عديدة تموضعت في خضمها الاحزاب القديمة التي عايشت او تعاشيت مع النظام السابق، وبرزت احزاب وتكتلات جديدة ولدتها الثورة، فيما شهدت العملية الانتخابية التي انتهت في اكتوبر الماضي اصطفافات عبرت عن مصالح بدت في ظاهرها متناقضة فيما هي منسجمة في الجوهر، وتعززت هذه الاصطفافات في تقاسم ترويكا السلطة الرئاسة، الحكومة، والبرلمان بين الحاصلين على اكبر الاصوات. ولكن الأبرز في تلك الاصطفافات هو الحاصل بين حركة النهضة وبقايا النظام السابق وما خلفه من غيلان اقتصادية ومالية لم تكنسها الثورة. هذا التحالف بين المال والدين السياسي بات مشهداً مألوفاً في الوطن العربي، بل ومسنوداً بتفاهمات مع الغرب وامريكا التي انتهجت سياسة ترويض الاسلاميين بدل استعدائهم بعد ادراكها بان الانظمة القديمة لم تعد قادرة على الامساك بزمام الحكم والحفاظ على مصالحها فباتت تتخلى عنها واحدا تلو الآخر، وتنفذ الى الانظمة الوليدة من بوابة دعم الديمقراطية والتغيير والثورة !!. ولعل مجريات الاحداث منذ انتخابات اكتوبر، بدأت تكشف معها سياسات وممارسات تعبر عن نهج وعقلية الاقصاء ورفض الآخر موقفاً وسلوكاً وحتى وجوداً، في مشهد لا يختلف جوهراً ولا شكلاً عن ما كان في عهد النظام السابق. فعلي الصعيد السياسي ابقى النظام الجديد على علاقاته وارتباطاته مع الغرب وأمريكا، وسعى الى تسويق الاسلام السياسي وصورة الاخونجي الحاكم بما يجعله مقبولاً بل وطرفاً في العلاقة والتحالف مع الغرب، وتجلت تلك الصورة بوضوح خلال مشاركة اقطاب النظام في مؤتمر دافوس الاقتصادي في شباط الماضي، وتقديم انفسهم باعتبارهم اسلام معتدل على استعداد لتقديم كل ما يلزم للبقاء في كنف الأنظمة الدائرة في فلك الغرب وسياساته، باستثناء " الا يجلسوا على طاولة عليها خمر " !! وفي دافوس ايضاً فقد كان منح وسائل الاعلام الاسرائيلية مقابلات واحاديث حصرية مغز واشارة واضحة بان ابواب التطبيع لم ولن تغلق، وان " النهضة " جادة في موقفها الرافض لتضمين الدستور التونسي قيد الصياغة بنداً يجرم التطبيع مع الكيان الصهيوني خلافاً لموقف ومطالب الشارع التونسي وقواه الوطنية، ويرتبط هذا عملياً ببقاء النجمة السداسية بألوان العلم الاسرائيلي على كنيس يهودي وسط العاصمة تونس حتى يومنا هذا. أما عربياً فقد حسم النظام موقفه بالتحالف مع قطر والتماهي مع سياستها ومسعاها لتبؤ موقع مركزي في العالم العربي تحقق من خلاله مصالح امريكا والغرب المعادية لمصالح الشعب العربي، وفي هذا السياق فقد كان النظام التونسي سباقاً بقرار طرد السفير السوري من اراضيه ومن ثم استضافة مؤتمر " اصدقاء سوريا". وفي السياسة والممارسات الداخلية فان القمع باشكاله وتعبيراته المختلفة بات مشهداً يومياً تتسع ساحاته باستمرار لتطال العمال والطلبة والنساء ووسائل الاعلام والصحفيين وكافة القوى والنقابات المعارضة لسياسات وتوجهات النظام وحركة النهضة تحديداً، وذلك في تكريس لنهج الاقصاء ورفض الآخر وفرض سساساته ومسلكياته على الآخرين حتى وان كان هؤلاء الآخرين هم من كانوا شركاء الثورة وكنس النظام، بل حتى حلفاء الأمس القريب. فالاضراب ضد اي اجراء او قرار كان في عهد النظام السابق ممنوعاً، فأصبح اليوم " حراماً "، والاعتصام والتظاهر كان جريمة يطال فاعلها العقاب، فأصبح اليوم " فاحشة " يستحق فاعلها اقامة الحد عليه، والدم الذي كان يسال برصاص البنادق لازال يسال بالعصي والسكين والخناجر، والاعلام الذي كان حكراً على ازلام النظام ومروجاً لسياساته لازال ممنوعاً من الخروج عن ذات الدور وكل من يخالف ذلك زنديقاً ومرتدا. وفي السياسة الاقتصادية فيبدو ان لا شيء يتغير، فهي ذات الارتباطات والتبعية للنظام الاقتصادي العالمي، وذات الاختلالات في علاقات قوى الانتاج داخلياً، مطالب الشغيلة لم تتحقق، الاجور وظروف العمل على حالها، والمهميشين والفقراء لا زالوا كذلك، لا خطط وبرامج تنموية. كل هذا يعزز الابقاء على الاعتماد على المعونات الخارجية، ولكنها الآن قطرية حصراً بثمن سياسي أوضح. ربما في هذه القراءة بعض السوداوية، ولكنه ملامح الواقع الذي بدأ يترسم، ومعه تتفتح آفاق تجديد الحراك واستكمال مطالب ومهام الثورة للوصل الى تونس الخضراء حرة.