أزمة منتصف العمر عند اليهود

حجم الخط
لم أستبعد يوما أن يكون في المؤسسة الحاكمة الأميركية من يتمنى لو أن المؤسسة تحررت بعض الشيء من نفوذ الجماعة المتطرفة المسيطرة على جماعات الضغط الصهيونية، وبخاصة في منظمة "إيباك". أعرف أن واشنطن مستفيدة من وجود تنظيمات صهيونية قوية في الولايات المتحدة، تماما كما أنها مستفيدة من وجود إسرائيل قوية في الشرق الأوسط، ولكن يبدو أن هناك من يسعى لخلق نوع من التوازن بين الفائدة العائدة على واشنطن من وجود هذا التنظيم القوى للجالية اليهودية، وهي على كل حال فائدة متناقصة، وبين الأضرار المترتبة على سوء استخدام المنظمات الصهيونية لقوتها ونفوذها، وهذه أضرار متزايدة. إن صحّ ما بدا لي، فأغلب الظن أنه ما كان يمكن أن يفكر تيار في المؤسسة الحاكمة في إعادة النظر في العلاقة مع القيادات الصهيونية الأميركية إذا لم تكن بعض قيادات الحكم في أميركا شعرت بأن خلافات حقيقية داخل التنظيمات اليهودية بدأت تؤثر في وحدة العمل الصهيوني، وأن بعض هذه الخلافات يدور حول حق قيادة يهودية أميركية بعينها فرض إرادتها على الشعب اليهودي في أميركا، والانصياع كاملا لقرارت تصدر في إسرائيل بعضها يمسّ أمن يهود أميركا ومستقبلهم، من دون الرجوع إليهم. *** دفع تعدد الخلافات داخل المجتمع اليهودي الأميركي في السنوات الأخيرة بقطاع مهم من قادة اليهود إلى إنشاء جماعة ضغط يهودية جديدة تحمل شعار "نؤيد إسرائيل ونؤيد السلام"، بمعنى أن دعم يهود أميركا إسرائيل يجب أن يرتبط بدعم عملية السلام. كان منطقيا أن يظهر بين يهود أميركا تيار منشق عن التيار الغالب الذي هيمن طويلا وفرض على اليهود دعم إسرائيل غير المشروط. افترضوا أن اليهودي الأميركي مصاب بالعمى والصمم، فهو لا يرى أو يسمع كل ما يتعلق بأخطاء وممارسات غير أخلاقية تمارسها السلطات الإسرائيلية. كما دأب قادة هذا التيار، الغالب والمهيمن، على اتهام اليهودي المتشكك أو المنشق أو الناقد بأنه إما أن يكون مصابا بمرض كره الذات، أو الشك فيها، وإما خائن لأمته اليهودية أو عميل للعرب، أو أنه شديد الحساسية إلى حدّ القلق على مشاعر المواطنين الأميركيين من غير اليهود، وهم جيرانه في السكن وزملائه في العمل، الذين يتأففون من تجاوزات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية وسياساتها الخارجية. في هذا السياق، نشأت جماعة "جي ستريت" لتعرض على إسرائيل، وربما للمرة الأولى، التأييد بمقابل. تقول لإسرائيل "نحبكم ولكن بشروطنا.. نحبكم إذا تصرفتم حسب ما نراه نحن مناسبا ومفيدا للشعبين اليهودي الإسرائيلي واليهودي الأميركي". يتناقض هذا العرض مع العرض الذي تمرست منظمة "إيباك" على تقديمه لحكومة إسرائيل، وهو "ندعمكم بدون شروط، ونضع أميركا تحت أقدامكم". *** نشأ تنظيم "جي ستريت" منذ ما يقارب أربع سنوات، وعقد ثلاثة مؤتمرات، كان آخرها المؤتمر الذي عقده في الأسبوع الأخير من مارس في واشنطن في المكان نفسه الذي عقدت فيه "إيباك" مؤتمرها السنوي الأخير. ولكن شتان ما بين المؤتمرين. إذ بينما حضر مؤتمر "إيباك" الذي عقد قبل مؤتمر "جي ستريت" بأيام قليلة أكثر من 13 ألف مشارك، كانت القاعة التي قامت بتأجيرها قيادة "جي ستريت" تتسع لعدد لا يزيد عن 2500 مشارك. وبينما حضر مؤتمر "إيباك" رئيس الجمهورية شمعون بيريز ورئيس الوزراء بنيامين نتيناهو لم يحضر من إسرائيل لمؤتمر "جي ستريت" سوى نائب سفير إسرائيل في واشنطن الذي تعمد الإساءة لأعضاء المؤتمر والسخرية منهم. وبينما حضر من المسؤولين الأميركيين في افتتاح أعمال مؤتمر "إيباك" الرئيس باراك أوباما حضر عن الدولة في مؤتمر "جي ستريت" أحد مستشاري الأمن القومي في مكتب نائب رئيس الجمهورية جو بايدين، وحضرت كبيرة مستشاري البيت الأبيض فاليري جاريت. ومع ذلك كان لا بد للمراقبين مقارنة ممثلي الحكومة الأميركية في المؤتمر الثالث لجماعة "جي سريت" بممثليها في مؤتمرها الثاني الذي عقد عام 2011، حين كلف الرئيس أوباما دنيس روس تمثيل الحكومة في المؤتمر ويومها أدى كعادته دورا لئيما متعمدا إلقاء اللوم في فشل عملية السلام على العرب، وكرر مقولاته الصهيونية الخبيثة ومنها أن القضية الفلسطينية لا تعتبر لب الأزمة في الشرق الأوسط، وإنما دكتاتورية الحكام العرب واستبدادهم. *** تابعت تطور جماعة "جي ستريت" وكتابات قادتها ومنهم هنري سيغمان الذي يكتب لـ"الشروق". أستطيع من خلال هذه المتابعة القول بأن "جي ستريت" قررت مؤخرا الانتقال من موقع البناء وترتيب البيت الداخلي إلى موقع الهجوم وطرح الأفكار بشجاعة وجرأة. أستطيع أيضا المجازفة برأي قد لا يحوز على دعم كبير، وهو أن قطاعا مهما في الإدارة الأميركية ربما يكون قد قرر تقديم الدعم المناسب لهذه المنظمة لتحقق من وراء هذا الدعم أهدافا تناسب رؤى أوباما وبعض معاونيه وتيار معتدل في الإدارة الأميركية. يحكي آلان وولف، أحد كبار المفكرين اليهود الذين انشقوا عن الغالبية المقتنعة أو المجبرة على الاعتقاد بأن إسرائيل دائما على حق، أن رجل دين يهوديا أسس في شيكاغو عام 1973 منظمة أطلق عليها اسم "بيريرا" (Breira) تدعو لقيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، وأن هذا الحبر اليهودي واسمه هيرشيل جند في حركته شابا أميركيا أسمر اللون يحمل اسم باراك حسين أوباما. يعتقد وولف أن أوباما بدا في ذلك الحين متفهما هذه النهضة الليبرالية في الحركة اليهودية، وكان هو نفسه معروفا في الأوساط اليهودية في شيكاغو بأنه "في قلبه صهيوني بميول ليبرالية"، بمعنى أنه كان يعتقد أن سلاما دائما في الشرق الأوسط سيتطلب دعما من جانب يهود أميركا والعالم للدولة الفلسطينية المستقلة. إن صحّ ما يقوله آلان وولف، الأستاذ في كلية بوسطن، فسيكون ممكنا القول بأن أوباما لا شك يشعر الآن بخيبة الأمل لأن الثورة الليبرالية التي انتظر نشوبها داخل الحركة الصهيونية الأميركية لم تنشب، ولعل هذه الخيبة هي التي تفسر ما يُقال عن أن أوباما يعترف أحيانا للمقربين بأن بنيامين نتنياهو، المتحالف مع الكونغرس الأميركي أحبط آماله في تحقيق السلام الذي كان يحلم به منذ أيام صباه في شيكاغو وأيام شبابه في "هارفارد". *** شهدنا مؤخرا، وسنشهد قريبا جدا، عددا من الكتب والأفلام التسجيلية والمقالات، تكشف عن مدى الانشقاق الحادث داخل الجماعة الصهيونية ـ الأمريكية، وهو ما يعبر عنه آلان وولف في كتابه بعنوان "الشر السياسي" Evil Political بعبارة "قطرة انشقاق تتحول إلى نهر متدفق". أذكر مثلا من أسماء المنشقين البارزين إسم Robbins Bruce، الأستاذ في جامعة "كولومبيا"، الذي صوّر فيلما تسجيليا عن قادة اليهود الأميركيين الذين غيّروا موقفهم من إسرائيل مؤخرا، ويظهر في الفيلم من ينادي بضرورة أن يتبنى اليهودي الأميركي استراتيجية يعترف بمقتضاها بأخطاء إسرائيل لتكون مساعدته لها صادقة وقائمة على أسس قوية. من هؤلاء المفكرين يبرز إسم Gorenberg Gershom صاحب كتاب "تفكيك إسرائيل" وهو كاتب إسرائيلي من أصل أميركي، وبيتر بينارت، الأستاذ في العلوم السياسية في جامعة المدينة في نيويورك مؤلف كتاب "أزمة الصهيونية"، وهو الكتاب الذي أحدث ضجة كبيرة في الأوساط الأميركية، حيث أن بينارت شخصية معروفة في دوائر المثقفين الأميركيين بحكم عمله لمدة طويلة كرئيس تحرير مجلة "نيوريبابليك" المتعاطفة دوما مع إسرائيل. *** الجدير بالذكر والدافع للتقدير أن منظمة "جي ستريت" طلبت طرح قضيتها كجماعة ضغط أميركية جديدة على الكنيست الإسرائيلي. وبالفعل سافر وفد برئاسة بن آمي الرئيس الحالي للمنظمة، وتشكلت لجنة للاستماع إلى العرض رأسها النائب داني دانون الذي أعلن في نهاية الجلسة أن الكنيست سيعد مشروع قرار يعلن أن "جي ستريت منظمة مؤيدة للفلسطينين، ويطلب منها تطهير نفسها أولا من العناصر المناهضة للصهيونية ويدعو حكومة إسرائيل الى الامتناع عن التعاون معها". وبالفعل لم تتأخر استجابة نتنياهو لبيان دانون إذ رفض استقبال وفد المنظمة. وقد صرح بن آمي عقب خروجه من إسرائيل قائلاً "ما سمعناه في الكنيست جزء من اتجاه أعم وأشمل يكشف عن حقيقة أن إسرائيل تنقلب على نفسها وروحها. فهي تعيد الآن تعريف من هو اليهودي، ومن هو المواطن، ومن هو الصديق". غابرييل بيتربيرغ كاتب يساري معروف لقراء مجلة اليسار الجديد المشهورة منذ نشأتها في العام 1960، وهو أستاذ للتاريخ في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس كتب ينتقد نظرية "الشعب المقهور الذي تعلم كيف يحمي نفسه بإقامة دولة خاصة به". يقول إن هذه النظرة الرومانسية سوف تظل عائقا أمام القبول بإسرائيل، فإسرائيل نشأت "بعقلية وتراث الاستعمار الاستيطاني الأبيض"، ومشروعها لا يختلف عن المشروع البريطاني لاستيطان أستراليا وإبادة شعوبها الأصلية. المفيد في كتابات بيتربيرغ أنها تستند إلى تقاليد في الكتابة عن الصهيونية تعود إلى مفكرين كبار مثل بنجامين ولازار والفليسوفة الكبيرة حنة أرندت. وعلى المنوال نفسه يصدر في تموز المقبل كتاب جوديث باتلر، الأستاذة في جامعة "كاليفورنيا بيبركلي" بعنوان "الطرق المتباعدة"، تقول فيه إن الصهيونية لا تتساوى مع اليهودية بل تقف بالتضاد مع جميع القضايا الرئيسية التي انشغلت بها عبر القرون التقاليد اليهودية، وتضيف إن "العلاقة مع غير اليهود مشاعر حيوية في منظومة الأخلاق اليهودية، بمعنى أنه من غير الحكمة أن يكون الإنسان يهوديا من دون وجود بشر آخرين من غير اليهود". والمعروف أن الفيلسوفة حنة آرندت كانت تقول "إن اليهود يفعلون ما كان يفعله النازيون، يختارون عدم العيش مع بشر بينهم، وهذا ليس من حقهم. لا يجب أن يختاروا مع من يعيشون ومع من لا يعيشون. وهذا للأسف هو لب العقيدة الصهيونية، لذلك ولدت إسرائيل دولة "لاليبرالية"، ولا يمكن أن تكون ليبرالية في يوم من الأيام طالما تمسكت بالصهيونية. *** واحد من هؤلاء الكتاب كتب عبارة جذبت انتباهي إلى مغزاها العميق. كتب يقول إن إسرائيل وبعض قادة اليهود يمرون الآن بأزمة أشبه ما تكون بأزمة منتصف العمر الذي يتعرض لها معظم الرجال في مرحلة معينة من الحياة. يقول علماء النفس عن هذه الأزمة إن الرجل في مرحلة معينة يشعر بحاجة ماسة إلى تصحيح مسيرة حياته لتعويض ما فاته، أو التوقف قليلا لتقويم الإنجازات والإخفاقات وحصر الإيجابيات والسلبيات، وإن بعض الرجال ينتهي به الأمر في نهاية هذه الأزمة إلى إعلان الثورة على النفس والمعتقد ونمط الحياة واختيار حياة جديدة، وإن بعضا آخر منهم ينتهي به الأمر إلى الانعزال والاكتئاب وربما الجنون. "الشروق" المصرية