"إخوان" مصر ونظام الاستبداد والتبعية

حجم الخط
نكث "صقور" قيادة حركة "الإخوان" المصرية وعوداً معلنة بأن الحركة لن ترشِّح لمقاعد الانتخابات البرلمانية أكثر من 30%، وبأنها لن ترشِّح أياً من قادتها لانتخابات الرئاسة، وبأنها لن تسعى للسيطرة على لجنة صياغة الدستور الجديد، وبأنها ستنتهج سياسة المشاركة والتوافق الوطني سبيلاً وحيداً لمعالجة قضايا الوطن والشعب المصيرية الملقاة على عاتق سلطة ما بعد الثورة، وبأنها لن تقدِمَ على أيِّ شكلٍ من أشكال المغالبة مع المجتمع المصري بشقيه السياسي والمدني اللذيْن فتحت لهما ثورة 25 يناير باباً واسعاً للانطلاق والازدهار بعد ثلاثة عقود ويزيد من عمليات التجريف والتصحر تسبب بها، وقادها، نظام الاستبداد والتبعية والفساد والتفرد والإقصاء. يكشف سلوك "صقور" قيادة "الإخوان" هنا عن نهج "سلطوي" "ميكافيلي" مفرط ومتأصل، يحيل إلى استعمال السياسي للديني وترجيحه عليه، وإلى تغليب العملي على المبدئي حدَّ إلغائه، وإلى سطو الحزبي على الوطني إلى درجة المساواة بينهما، مبرهنين بذلك على مشروعية ما أثاره فوز حزبهم، (الحرية والعدالة)، بأكثرية مقاعد أول انتخابات برلمانية لسلطة ما بعد الثورة من مخاوف تحيل إلى الشك في تخلُّص قيادة "الإخوان"، (فعلاً وكلياً)، مما اختزنته ثقافتها السياسية من نزوع إلى السيطرة والاستئثار والإقصاء، وإلى استرجاع ما في تاريخها من ممارسات فئوية قادتها إلى صدامات سياسية، كان أخطرها عليها وعلى مصر،( وفقاً حتى لمراجعات بعض رموزها)، الصدام مع قيادة الثورة الوليدة بقيادة عبد الناصر في أواسط خمسينيات القرن الماضي، وإلى اليقين بأن ثمة داخلها اتجاهات تفكير متباينة وبالذات تجاه الموضوعة الديمقراطية بشقيها السياسي والمجتمعي، وإلى الشك في إمكان أن تحذوا حذو قيادات أحزاب "الإسلام السياسي" في ماليزيا وتركيا وتونس، وإلى الخشية من مغزى إبرامها لتفاهمات سياسية مع جهات إقليمية ودولية، في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، حول مضامين سياستها الخارجية المستقبلية، وإلى الخشية من دلالات ما توالد في حضنها من حركات متطرفة. بهذا السلوك الاستحواذي الإقصائي لـ"صقور" قيادة حركة "الإخوان" المصرية، الذي عارضته بقية ألوان الطيف الفكري والسياسي والمجتمعي المصري، بل، وعارضه تيار "حمائمي" عريض داخل الحركة نفسها، تغدو بالاستخدام أشبه، وإلى الاختزال أقرب، وعود "الإخوان" بقيادة مصر نحو تحولها الديمقراطي المنشود، (سياسياً ومجتمعياً)، ذلك لأن الديمقراطية ليست معطىً منجزاً ونهائياً غير قابل للتحوير والتحول، (إيجاباً وسلباً)، ولا نموذجا مثالياً قبْلِياً يُستدعى للتطبيق، ولا تصورات "قبل" و"فوق" تاريخية"، بل هي، (الديمقراطية)، مقولة تاريخية أنتجتها، وتعكس، ممارسة اجتماعية بشرية مديدة، بل، وتبقى تطبيقاتها العملية نسبية ومتفاوتة ومفتوحة على الواسع من الآفاق والمستويات والاحتمالات، ليس ارتباطاً بتفاوت مستوى التطور الاقتصادي الاجتماعي للمجتمع البشري ومكوناته المختلفة فحسب، بل أيضاً، وأساساً، ارتباطاً بقدْرِ انطلاق هذه التطبيقات من "مبتدأ" الديمقراطية، أي من الإقرار بالمساواة بين البشر، وليس فقط من "خبرها"، أي من فصل السلطات والتداول السلمي للسلطة وإجراء الانتخابات والإقرار بنتائجها، وهو ما لم يعد ممكناً أيضاً في العصر الحديث دون الإقرار الممارس بالمساواة بين أفراد الدول بوصفهم مواطنين أحراراً متساوين، بمعزل عن دينهم وطائفتهم ومذهبهم وجنسهم ولونهم وعرقهم ومعتقدهم و...الخ بحسبان أن ارتباطهم ببعضهم، وجوداً ومصيراً، بفعل ما يجمعهم، ويميزهم عن غيرهم، من سمات روحية وفكرية وطرائق حياة وإنتاج اقتصادي وثقافي، لا ينفي الاختلاف فيما بينهم، ذلك أن الوحدة الحقة هي وحدة من التطابق والاختلاف. وأكثر، فإن "صقور" قيادة حركة "الإخوان" المصرية بهذا السلوك الاستحواذي الإقصائي قد حولوا المخاوف من صعودهم إلى معارضة سياسية عازلة لهم ولقراراتهم عن بقية ألوان الطيف الفكري والسياسي والمجتمعي المصري، بل، وعن التيار "الحمائمي" داخلهم، بما يجعل من الصعب، (كيلا نقول من المستحيل)، أن يشكلوا ضمانة لوحدة الطاقات الوطنية المصرية وتماسكها التي دونها يغدو بالتمني أشبه كل حديث عن إمكان الوفاء بتلبية الآمال العظيمة المعقودة، والأعباء الثقيلة الملقاة، على سلطة ما بعد الثورة، بل، ويغدو هراء ما وراءه هراء كل حديث عن إمكان الحيلولة دون سقوط هؤلاء "الصقور" في خطيئة اللجوء إلى دعم القوى الخارجية، بحسبان أن السقوط فيها لا يقع بالنية والقصد فقط، بل، ويقع أيضاً بالنتيجة، وكتحصيل حاصل لغياب الوحدة الداخلية وتماسكها، بمعزل عن حُسْنِ النوايا، التي كثيراً ما تقود، (إذا افترضناها)، إلى "بلاط جهنم" التبعية، إذ كما أن النار لا تستطيع ممارسة خاصية الحرق لديها إلا على القابل للاحتراق من الأشياء، فإن الدول الاستعمارية لا تستطيع ممارسة خاصية السيطرة لديها إلا على القابل للاختراق من المجتمعات بسبب غياب الوحدة الداخلية لديها. على أية حال، لم يأتِ السلوك الاستحواذي الإقصائي لـ"صقور" قيادة "الإخوان" المصرية مناقضاً وناسفاً لوعودهم فحسب، بكل ما ينطوي عليه ذلك من ضرب للمصداقية والثقة، بل، وجاء قصير النظر بامتياز، ذلك لأنه نفى خيار قدرتهم على الجمع بين مصلحة الحركة ومصلحة مصر، وآي ذلك أن يتهمهم علناً حتى تيار "حمائمي" داخلهم بمحاولة التكويش" والسيطرة والتفرد والإقصاء، بل، وتشبيه سلوكهم بسلوك قادة حزب نظام الرئيس المخلوع، حسني مبارك، الذي خلق مسببات ثورة شعبية قامت لاقتلاعه، وليس لإعادة إنتاجه، ما اضطر رموز "صقور" "الإخوان" ومرشدها العام إلى إصدار بيانات، وإطلاق تصريحات، رسمية تبرر خطواتهم بالقول: إنها خطوات مفروضة بمستجدات ناشئة، وكأنهم يقولون بأنها خطوات اضطرارية، لكن، وبحسبان كل ما أشرنا إليه أعلاه، ألا يغدو مشروعاً القول: بل إنها خطوات فئوية، وربما "انتحارية"، في مرحلة مصرية مفصلية عاصفة وحاسمة، وإنها أشبه ما يكون بخطوة طيارٍ أقلع بطائرته دون دراية بظروف موقع الهبوط، وبما يمكن أن يكون له من تضاريس وعرة من شأن الارتطام بها أن يودي بطائرته وبحياته، بل، وبحياة كل أو بعض مَن معه من الركاب أيضاً. بلى، أظن، وليس كل الظن إثما، أن السلوك الاستحواذي الإقصائي لـ"صقور" قيادة "الإخوان" المصرية القاضي باللجوء إلى المغالبة والتفرد والسيطرة لا ينطوي على مخاطر إعادة إنتاج نظام الاستبداد الداخلي فحسب، بل وعلى إعادة إنتاج نظام التبعية للخارج أيضاً، فبين الاستبداد والتبعية ثمة علاقة يكثفها، ويعبر عنها، بما قلَّ ودل مأثور القول: "الطغاة يعبدون الطريق للغزاة".