نبوءات 5 يونيو

حجم الخط

قرب الهزيمة العسكرية في «يونيو» (1967) حذرت أعمال مسرحية عديدة من مخاطر محدقة توشك أن تداهم بطلها.

كانت الستينات ذروة مجد المسرح المصري، ورغم انتساب أهم مؤلفيه ومخرجيه لثورة «يوليو»، إلا أنه مارس درجة عالية من نقد المرحلة محذراً مما تخبئه الأيام.

طلب المؤلف المسرحي «ألفريد فرج» الأمان من الحاكم حتى يجهر أمامه بما يراه منذراً. كانت تلك إشارة إلى خلل فادح في بنية الحكم، وأنه قد ينهار من داخله ما لم يتسع مجاله حتى يمكن سد الثغرات.

وحذر مؤلف مسرحي آخر «سعد الدين وهبة» من أننا لسنا على «سكة السلامة»، وأن هناك من يضع «العسل في أذن الحاكم».

كانت تلك إشارة أخرى إلى الرسالة ذاتها.

وانطوت مسرحية «الفتى مهران» ل«عبد الرحمن الشرقاوي» على دعوة صريحة للحاكم بألاّ يرسل جيشه إلى «السند» بينما العدو رابض على حدوده الشرقية قاصداً «اليمن».

هكذا توالت الرسائل بلغة المسرح أن هناك شيئاً ما، خطأ يكاد يقوض تجربة ثورة «يوليو»، وأن حدثاً جللاً قد يداهمنا تسقط به أحلامنا.

كان ذلك من داخل الانتساب إلى «يوليو» وتوجهاتها لا من خارجها وموقع الخلاف معها كما أشار الناقد المسرحي الدكتور «حسن عطية».

وقد تطرقت مسرحية «السلطان الحائر» ل«توفيق الحكيم» (1960) إلى سؤال القوة والقانون إلى أيهما يجري الاحتكام؟.

السؤال بتوقيته بدا نذيراً مبكراً لخلل في بنية النظام ووصف السلطان بالحيرة اعتقاداً في نبله، ففي الحيرة نبل بقدر ما تنطوي على خطر.

بعد ست سنوات ناقشت مسرحية أخرى ل«الحكيم» تراكم القلق من تجاوزات «يوليو». رغم التحريض على مسرحية «بنك القلق» رفض «عبدالناصر» مصادرتها، ف«إذا كان من حق توفيق الحكيم أن ينقد النظام الملكي فمن حقه أن ينقد النظام الجمهوري».

إذا ما دققنا في تواريخ نبوءات الأدب بأن هناك شيئاً ما خطيراً سوف يقع، فإن أغلبها نشرت عام (1966) قبل الهزيمة العسكرية بنحو عام واحد.

في ذلك العام المنذر نشر «نجيب محفوظ» «ثرثرة فوق النيل».

«ما معنى هذه الرحلة؟».«المهم الرحلة لا المعنى!».

معانٍ نقدية مقاربة تضمنتها رواية «ميرامار»، التي نشرت في عام الوجع.

المثير أن الروايتين درستا في «منظمة الشباب الاشتراكي» وجرت حوارات مفتوحة حولهما في سنوات ما بعد «يونيو».

رغم ما هو معروف عن أديب العربية الأكبر من انتقادات وتحفظات على تجربة «يوليو» فإنه لم يكن معادياً لها.

قرب نهاية حياته الطويلة كتب حلماً مؤخراً من ضمن «أحلام فترة النقاهة» آخر أعماله الروائية، وقد كانت فريدة من نوعها، تخطر له في منامه، يحفظها ويمليها وهو لا يكاد يستطيع أن يحرك يده، أو يرى جيداً ما حوله: «وجدتني مع الرئيس عبد الناصر في حديقة صغيرة وهو يقول: لعلك تتساءل لماذا قلت مقابلاتنا، فأجبته بالإيجاب.

فقال: كلما شاورتك في أمر جاءت مشورتك بالاختلاف كلياً وجزئياً، فخفت أن تتأثر صداقتي لك بهذا الموقف. فقلت: أما أنا فلن تتأثر صداقتي لك مهما اختلفنا».

في الحياة لم يكونا صديقين، ولا «عبد الناصر» استشاره في أمر، غير أنه بلحظة مكاشفة أخيرة اعتبره صديقاً لا يؤثر على محبته اختلاف رأي.

بحس الأديب الكبير، الذي يلتقط الدراما من التفاصيل الصغيرة ويبني عليها رؤيته لمسارات الحوادث وانقلاباتها، لامس «محفوظ» بعض مواطن الخلل الجوهرية في التجربة الناصرية بدرجة عالية من الصدق، رغم اختلاف المواقع والتوجهات.

رغم أصوات «الكورس» التي علت تنذر وتحذر وفق قواعد التراجيديا ذهب بطلها إلى قدره الذي لا فكاك منه.

كان ذلك تعبيراً عن حجم التناقض بين مشروع متسع تؤيده جماهير عريضة في مصر والعالم العربي، وتضع فيه أحلامها وبين نظام ضيق أفضت أوجه خلله أن تجري هزيمة «يونيو» (1967) بهذا الحجم المروع، كأنه البطل الملحمي «آخيل» قوته في مشروعه وضعفه في نظامه حتى نالت منه السهام المصوبة إليه.

«عبد الناصر» توصل إلى الاستنتاج نفسه، بكلماته وحروفه، قبل الهزيمة العسكرية بأسابيع، بنص كلماته يوم (30) أبريل (1967) كما تضمنتها «مجموعة أوراق محمد حسنين هيكل»: «إن الأزمة لم تعد أزمة أشخاص إنما هي أزمة نظام».«إن المستقبل يقتضي صيغة جديدة تماماً، وأن الحزب الواحد في هذه الظروف وهذا العصر أصبح لعبة خطرة».

بنص كلامه، الذي دونه «هيكل» على ورق واحتفظ به في مجموعة أوراقه: «إن النظام على النحو القائم الآن يترك مصير البلد لرجل واحد، وهذه مخاطرة بالمستقبل».

«إن هذا الوضع يمكن أن يدفع بالجماهير إلى السلبية، وبالتالي تترك أهم القرارات للبيروقراطيين أو التكنوقراطيين».

«إنه لابد أن تتسع عملية إعادة التنظيم لقوى معارضة، تكون لها صحفها لكي تستطيع أن تعرض أفكارها على الناس، ولكي تكون رقيبًا على تصرفات الدولة».

باليقين كانت هناك مؤامرات على ثورة «يوليو» لإجهاض مشروعها وإنهاء أدوارها القيادية في محيطها العربي وقارتها الإفريقية وعالمها الثالث، غير أنها ما كانت لتمر لولا الثغرات الداخلية في بنية «النظام المقفول الذي يعلق مستقبل البلد على مجهول» بتعبير «عبد الناصر».