دعوة للتوقف عن جلد الذات

حجم الخط

في صبيحة الخامس من يونيو/ حزيران 1967، قامت «إسرائيل» بهجوم جوي مباغت على المطارات المصرية. وبعدها بسويعات التحقت الجبهتان: السورية والأردنية بالحرب، وفاء لالتزامهما بموجب معاهدتي الدفاع المشترك، اللتين وقعهما البلدان مع مصر، وفي غضون خمسة أيام، تمكن جيش الاحتلال «الإسرائيلي»، من احتلال سيناء بالكامل، ومرتفعات الجولان السورية، وقطاع غزة والضفة الغربية ومدينة القدس. وكانت نكسة للجيوش العربية، أخطر ما فيها هو ما ترتب على تلك النكسة، من هزيمة واستسلام في النفس العربية، ومن تغير تدريجي في النظرة لطبيعة الصراع مع العدو، حيث تحول منذ السبعينيات من القرن الماضي من صراع وجود إلى صراع حدود.

وكانت فرصة سانحة لدعاة التفريط والاستسلام، لغرس روح الهزيمة واعتبار ما جرى، نقطة البداية والنهاية، في صراعنا مع العدو، وكأننا الأمة الوحيدة في التاريخ، التي خسرت حربها في مواجهتها مع عدو يفوقها، بأرقام فلكية في الاستعداد والسلاح. وكان من تأثير ذلك، أن مارس العرب، قيادات وشعوباً، عملية جلد ذات غير مسبوقة، استمرت بوتائر متصاعدة حتى يومنا هذا.

لا تعفي قراءتنا هذه القيادات العربية، التي تصدت لمسؤولية مواجهة العدو من المسؤولية، فهذه القيادات وعدت أمتنا بالنصر، في أية مواجهة محتملة أو محتّمة، مع الدويلة الغاصبة، ولكنها لم تهيئ للمواجهة مستلزماتها. وتمكن العدو وبشكل صاعق، من احتلال أراضٍ عربية، ضاعفت من مساحة الأراضي التي أقام عليها كيانه عدة مرات.

لكن تداعيات الأحداث، كشفت عن النفوس الضعيفة في النخب الثقافية العربية، التي ضخمت بشكل مروع، من الهزيمة، واتخذت منها شمّاعة لتبرير الخضوع والاستسلام، أمام العدو، بدلاً من شحذ روح المقاومة والثأر في نفوس العرب، والفلسطينيين منهم بشكل خاص.

لقد كشفت النكسة عن معدن أصيل للشعب العربي، الذي خرج بالملايين في القاهرة، وعدد آخر من المدن المصرية، مطالباً بالثأر ورافضاً الاستسلام. كما كشفت عن خواء بعض النخب السياسية والفكرية، ورغباتها المكبوتة، في تحقيق انتقال سياسي، يعتمد نهج التفريط بديلاً عن بناء القوة العسكرية، والتصدي الباسل لنتائج النكسة. وقد وجدت تلك الدعوات من يتلقفها ويدفع بها، أحياناً بسبب من أحقاد دفينة، وتحت ذريعة أن الصراع مع العدو قد استنفد طاقة دول المواجهة، وحجب عنها فرص التنمية والبناء. فكانت خرافة السلام. وتناسى أصحاب هذه الفرية، أن السلام من غير أمن هو خضوع وتسليم لإرادة المعتدي.

وفي زحمة اللهاث المتسارع للصلح مع العدو، غابت حقائق كثيرة، كان ينبغي أن تؤخذ بالحسبان. أولاها أن الحقوق لا تنتزع، من غير قوة تتكفل بإنجازها. وأن الجيوش العربية، التي خاضت الحرب، لم يتوفر لها التدريب الكافي والسلاح القادر على صد ومواجهة العدوان. وأن الحرب كرّ وفرّ، وأن عدم وجود استراتيجية عملية لمواجهة العدو ليس الفصل الأخير في المواجهة، بل هو محطة ضمن محطات صراع طويل ومرير، كسبنا فيه جولات وخسرنا أخرى.

لقد خاضت أوروبا حربين عالميتين، أحرقتا الأخضر واليابس، ولم تتمكنا من الأوروبيين، وتجعلاهم يعيشون أسرى لنتائج الحرب، ولم تهن عزائمهم في بناء بلدانهم، بهمة واقتدار.

والفارق كبير، بين ما جرى في حرب النكسة، وبين ما جرى في الحربين العالميتين. ففي حرب النكسة لم تُدمر مدن، ولم تجرِ مواجهة عسكرية مباشرة بين الجيوش العربية والعدو، تمتحن فيها عزيمة وصبر وشجاعة الرجال. بينما هي في الحربين العالميتين دمرت مدناً بأكملها، وتسببت في مصرع عشرات الملايين، وأمثالهم من الجرحى، عدا عشرات الملايين من المهجرين.

ولو أخذنا الدروس من سيرة الأوروبيين، ومقاومتهم للنازية في الحرب العالمية الثانية، لتعلمنا الكثير. سقطت دول أوروبية عديدة تحت قبضة الاحتلال النازي، من بينها فرنسا التي وصفها الجنرال الراحل شارل ديجول بالعظيمة، ورفض الجيش الفرنسي الاستسلام، وقاتل في المنافي، حتى عادت الحرية والاستقلال للبلاد. وبالمثل خسرت روسيا تحت قيادة ستالين أكثر من ثلثي أراضيها وقاومت الاحتلال ولم تستسلم وانتصرت روسيا، وباتت إحدى قوتين رئيسيتين في عالم ما بعد الحرب، حتى نهاية الحرب الباردة بسقوط حائط برلين في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم.

المعادل الآخر، لمواجهة الاحتلال، هو التسليم بشروط المحتل. وقد تم ذلك بنسب متفاوتة، بين البلدان العربية. وقعت مصر «كامب ديفيد»، والأردن «وادي عربة»، وقيادة منظمة التحرير «اتفاق أوسلو»، وتحققت «للإسرائيليين»، نجاحات باهرة، لم يكونوا يحلمون بها في ظل الممانعة العربية. لكن السلام، لم يتحقق حتى يومنا هذا للعرب، لأنهم توهموا أن السلام يمكن أن يتحقق من غير القوة وتوفير مستلزمات الأمن القومي لبلدانهم.

لن يكون هناك سلام حقيقي، وخلاص من نتائج النكسة وتداعياتها، إلا بالتوقف عن جلد الذات، وبناء القوة العربية، بناءً متيناً وراسخاً، وإعادة الاعتبار لمبادئ الأمن القومي العربي، وتحقيق الموازنة الدقيقة التي تتكفل بردع العدوان، موازنة التوفيق بين الكرامة والأمن والسلام، والدفاع عن حقوق الأمة، وجميعها أمور بمقدور الأمة تحقيقها، متى ما امتلكنا الوعي والقدرة والإرادة.

في صبيحة الخامس من يونيو/ حزيران 1967، قامت «إسرائيل» بهجوم جوي مباغت على المطارات المصرية. وبعدها بسويعات التحقت الجبهتان: السورية والأردنية بالحرب، وفاء لالتزامهما بموجب معاهدتي الدفاع المشترك، اللتين وقعهما البلدان مع مصر، وفي غضون خمسة أيام، تمكن جيش الاحتلال «الإسرائيلي»، من احتلال سيناء بالكامل، ومرتفعات الجولان السورية، وقطاع غزة والضفة الغربية ومدينة القدس. وكانت نكسة للجيوش العربية، أخطر ما فيها هو ما ترتب على تلك النكسة، من هزيمة واستسلام في النفس العربية، ومن تغير تدريجي في النظرة لطبيعة الصراع مع العدو، حيث تحول منذ السبعينيات من القرن الماضي من صراع وجود إلى صراع حدود.

وكانت فرصة سانحة لدعاة التفريط والاستسلام، لغرس روح الهزيمة واعتبار ما جرى، نقطة البداية والنهاية، في صراعنا مع العدو، وكأننا الأمة الوحيدة في التاريخ، التي خسرت حربها في مواجهتها مع عدو يفوقها، بأرقام فلكية في الاستعداد والسلاح. وكان من تأثير ذلك، أن مارس العرب، قيادات وشعوباً، عملية جلد ذات غير مسبوقة، استمرت بوتائر متصاعدة حتى يومنا هذا.

لا تعفي قراءتنا هذه القيادات العربية، التي تصدت لمسؤولية مواجهة العدو من المسؤولية، فهذه القيادات وعدت أمتنا بالنصر، في أية مواجهة محتملة أو محتّمة، مع الدويلة الغاصبة، ولكنها لم تهيئ للمواجهة مستلزماتها. وتمكن العدو وبشكل صاعق، من احتلال أراضٍ عربية، ضاعفت من مساحة الأراضي التي أقام عليها كيانه عدة مرات.

لكن تداعيات الأحداث، كشفت عن النفوس الضعيفة في النخب الثقافية العربية، التي ضخمت بشكل مروع، من الهزيمة، واتخذت منها شمّاعة لتبرير الخضوع والاستسلام، أمام العدو، بدلاً من شحذ روح المقاومة والثأر في نفوس العرب، والفلسطينيين منهم بشكل خاص.

لقد كشفت النكسة عن معدن أصيل للشعب العربي، الذي خرج بالملايين في القاهرة، وعدد آخر من المدن المصرية، مطالباً بالثأر ورافضاً الاستسلام. كما كشفت عن خواء بعض النخب السياسية والفكرية، ورغباتها المكبوتة، في تحقيق انتقال سياسي، يعتمد نهج التفريط بديلاً عن بناء القوة العسكرية، والتصدي الباسل لنتائج النكسة. وقد وجدت تلك الدعوات من يتلقفها ويدفع بها، أحياناً بسبب من أحقاد دفينة، وتحت ذريعة أن الصراع مع العدو قد استنفد طاقة دول المواجهة، وحجب عنها فرص التنمية والبناء. فكانت خرافة السلام. وتناسى أصحاب هذه الفرية، أن السلام من غير أمن هو خضوع وتسليم لإرادة المعتدي.

وفي زحمة اللهاث المتسارع للصلح مع العدو، غابت حقائق كثيرة، كان ينبغي أن تؤخذ بالحسبان. أولاها أن الحقوق لا تنتزع، من غير قوة تتكفل بإنجازها. وأن الجيوش العربية، التي خاضت الحرب، لم يتوفر لها التدريب الكافي والسلاح القادر على صد ومواجهة العدوان. وأن الحرب كرّ وفرّ، وأن عدم وجود استراتيجية عملية لمواجهة العدو ليس الفصل الأخير في المواجهة، بل هو محطة ضمن محطات صراع طويل ومرير، كسبنا فيه جولات وخسرنا أخرى.

لقد خاضت أوروبا حربين عالميتين، أحرقتا الأخضر واليابس، ولم تتمكنا من الأوروبيين، وتجعلاهم يعيشون أسرى لنتائج الحرب، ولم تهن عزائمهم في بناء بلدانهم، بهمة واقتدار.

والفارق كبير، بين ما جرى في حرب النكسة، وبين ما جرى في الحربين العالميتين. ففي حرب النكسة لم تُدمر مدن، ولم تجرِ مواجهة عسكرية مباشرة بين الجيوش العربية والعدو، تمتحن فيها عزيمة وصبر وشجاعة الرجال. بينما هي في الحربين العالميتين دمرت مدناً بأكملها، وتسببت في مصرع عشرات الملايين، وأمثالهم من الجرحى، عدا عشرات الملايين من المهجرين.

ولو أخذنا الدروس من سيرة الأوروبيين، ومقاومتهم للنازية في الحرب العالمية الثانية، لتعلمنا الكثير. سقطت دول أوروبية عديدة تحت قبضة الاحتلال النازي، من بينها فرنسا التي وصفها الجنرال الراحل شارل ديجول بالعظيمة، ورفض الجيش الفرنسي الاستسلام، وقاتل في المنافي، حتى عادت الحرية والاستقلال للبلاد. وبالمثل خسرت روسيا تحت قيادة ستالين أكثر من ثلثي أراضيها وقاومت الاحتلال ولم تستسلم وانتصرت روسيا، وباتت إحدى قوتين رئيسيتين في عالم ما بعد الحرب، حتى نهاية الحرب الباردة بسقوط حائط برلين في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم.

المعادل الآخر، لمواجهة الاحتلال، هو التسليم بشروط المحتل. وقد تم ذلك بنسب متفاوتة، بين البلدان العربية. وقعت مصر «كامب ديفيد»، والأردن «وادي عربة»، وقيادة منظمة التحرير «اتفاق أوسلو»، وتحققت «للإسرائيليين»، نجاحات باهرة، لم يكونوا يحلمون بها في ظل الممانعة العربية. لكن السلام، لم يتحقق حتى يومنا هذا للعرب، لأنهم توهموا أن السلام يمكن أن يتحقق من غير القوة وتوفير مستلزمات الأمن القومي لبلدانهم.

لن يكون هناك سلام حقيقي، وخلاص من نتائج النكسة وتداعياتها، إلا بالتوقف عن جلد الذات، وبناء القوة العربية، بناءً متيناً وراسخاً، وإعادة الاعتبار لمبادئ الأمن القومي العربي، وتحقيق الموازنة الدقيقة التي تتكفل بردع العدوان، موازنة التوفيق بين الكرامة والأمن والسلام، والدفاع عن حقوق الأمة، وجميعها أمور بمقدور الأمة تحقيقها، متى ما امتلكنا الوعي والقدرة والإرادة.