أنت من الآن غيرك!

حجم الخط

قبل 11 عاماً، عام 2007، وقع اقتتال محدود، وكان يمكن السيطرة عليه، بين حركتيْ «فتح» و«حماس». وكي لا يجهلَّن أحد على أحد، لم يكن صراع الحركتيْن آنذاك سياسياً، حيث توافقت جميع الفصائل، بما فيها «فتح» و«حماس» على اعتبار «وثيقة الأسرى» وثيقة ل«الاتفاق الوطني».

وهي الوثيقة التي وفرت طوق النجاة بالمعنييْن السياسي والديمقراطي. لكن، رغم ذلك، انزلقت قيادتا الحركتيْن إلى قعر هاوية حسم تنازعهما على «السلطة» بوسائل عسكرية، متجاهلتيْن حقائق أن فلسطين ما زالت محتلة، وأن شعبها ما زال في مرحلة تحرر وطني لم تُنجز مهامها بعد، وأن «السلطة الفلسطينية» سلطة بلا سلطة.

هنا برّأت قيادة حركة «فتح» نفسها تماماً، وحمَّلت «حماس» كامل المسؤولية عما حدث. أما قيادة حركة «حماس» فبرّرت سيطرتها، بالقوة، على قطاع بالقول: «لقد كنا أمام خطوة اضطرارية»، حسبما أعلن رئيس المكتب السياسي للحركة، آنذاك خالد مشعل؛ ما يعني اعترافاً ضمنياً بأن الخطوة تمت بقرار، وليس بفعل خروج الأمور عن السيطرة ميدانياً.

في حينه تساءل كثر: «أهي خطوة اضطرارية أم انتحارية»؟ ومذّاك دخلت الحركتان في مسلسل «شيطنة» كل منهما للأخرى، جنباً إلى جنب مع محاولة كل منهما استقطاب بقية أطراف الحركة الوطنية لجانبها، وكأن على الجميع أن يصطف إما إلى جانب «فتح» أو إلى جانب «حماس». بل، وكأن على الجميع أن يوافق على خطايا إباحة إراقة الدم الفلسطيني بأيدٍ فلسطينية، وتغليب المصالح الفئوية على المصلحة الوطنية العليا، واستمرار إحلال «سلطة» بلا سلطة، ومثقلة بالتزامات «أوسلو» الأمنية والاقتصادية الجائرة، محل منظمة التحرير الفلسطينية؛ الإطار الوطني الجامع.

آنذاك لخص شاعر فلسطين الراحل، درويش، هذه الخطايا بعبارة واحدة: «أنت منذ الآن غيرك»... «كم كذبنا عندما قلنا نحن استثناء».

لقد قبض درويش، هنا، بطريقته الإبداعية، على خلل بنيوي، عِماده الفصل بين الوطني والديمقراطي، بالمعنييْن السياسي والاجتماعي، في تجربة النضال الفلسطيني المعاصر، كتجربة عظيمة قدم خلالها شعب فلسطين تضحيات غالية وجسيمة، وصنع بطولات قلّ نظيرها، وتحمّل معاناة لا حصر لها في محطات: العمل الفدائي، وانتفاضة 87 الشعبية الكبرى، وانتفاضة 2000 المسلحة.

لكن يبدو أن قيادتيْ «فتح» و«حماس»، من فرط نزوعهما نحو التفرد والإقصاء، لم تتعلّما لا من دروس صراعات وانقسامات ال11 عاماً الأخيرة، ولا من دروس صراعات وانقسامات الحركة الوطنية الفلسطينية التي تلت ثورة 36 الكبرى، وصمود بيروت الأسطوري عام 82. بل، ولم تتعلما، أيضاً، من دروس تجارب حركات التحرر الوطني والاجتماعي الأخرى، التي شكّل غياب شرط الديمقراطية أهم الأسباب الداخلية لانهيارها بعد انتصارها.

هنا يكمن سر أن تتجاوز «سلطتا» «فتح» و«حماس» حدود كل معقول ومقبول، بالمعنييْن الوطني والديمقراطي، حيث قمعت أجهزة أمن «سلطة» «فتح» مظاهرة حاشدة نظمها في مدينة رام الله، عشية عيد الفطر؛ حراكُ «بناء الوحدة الوطنية ورفْع العقوبات عن غزة»، بينما قمعت أجهزة أمن «سلطة» «حماس»، يوم الاثنين الماضي، وبالطريقة ذاتها، اعتصاماً حاشداً، رفع المطالب الوطنية والديمقراطية ذاتها، نظمه حراك «الأسرى والأسرى المحررين» في مدينة غزة.

وبما يذكّر بقول درويش: «كم كذبنا عندما قلنا نحن استثناء»، فقد اتهمت «سلطتا» «فتح» و«حماس» القائمين على هاتين الفعاليتيْن الوطنيتيْن الوحدويتيْن بالعمل لمصلحة «أجندات جهات خارجية»، وكأنهم ليسوا فصائل ومجموعات شبابية وشخصيات وممثلي قطاعات وطنية ديمقراطية، ضاقوا ذرعاً بخيار «أوسلو» الكارثة، وخيار الانقسام المدمر، على ما بين الخياريْن من تداخل وترابط.

وفي هذا الاتهام مفارقة لا تدانيها إلا مفارقة أن يبارك ويُمجّد الناطقون باسم حركة «فتح» الحراك الشعبي في القطاع، بينما يبارك ويُمجد الناطقون باسم حركة «حماس» نظيره في الضفة. لكن المبشّر، هنا، هو أنه لا القمع في الضفة، ولا القمع في قطاع غزة، حصد مبتغاه، بل العكس، فقد أكد منظمو هذا الحراك الشعبي استمراره في الضفة والقطاع؛ بل ودعوا إلى أوسع مشاركة شعبية في المظاهرات التي تم الإعلان عنها، وتحديد وتعميم مواعيد انطلاقها.