"تقدير موقف" معضلة الحرب على غزة

حجم الخط

قد يقول قائل أن ما جرى مؤخراً من مناوشات في قطاع  غزة  وعلى "حدوده" هو مجرد استمرار لذات المسلسل الذي كان سائداً طوال السنوات الماضية من فعل ورد فعل، ومن ثم الوصول إلى تهدئة وبعد انتهاءها الذهاب إلى الحرب، ومن ثم العودة إلى مربع التهدئة، وتكرار ذات العبارات التي تدل على عدم رغبة أي من الأطراف اندلاع مثل هذه الحرب.

وإذا كانت التطورات الساخنة على "الحدود" الآن تهدد بالانزلاق إلى هذه الحرب، إلا أن الطرف الآخر لديه حسابات خاصة به تجعله يتردد عن أخذ القرار بالذهاب إلى هذه المغامرة، وذلك لأن هذه الحرب المفترضة تشكّل له مأزقاً كبيراً ومطلقاً لن يغامر بخوضها، فما الذي يجعل "إسرائيل" تحجم عن تنفيذ تهديداتها باجتياح قطاع غزة والقضاء على المقاومة؟ ولماذا هذه المرة لا تستطيع أن تشن حرباً سواء كانت محدودة على غرار حرب 2012 أو حرباً مدمرة على شاكلة حرب 2014؟

ثمة معضلة تواجه دولة الكيان تمنعها من اتخاذ قرار بالحرب وهذه المعضلة تتشكّل من ثلاثة نواحي:

أولاً/ المعضلة السياسية:

تواجه " إسرائيل" مشكلة في تحديد الأهداف السياسية لهذه الحرب، فخلال الحروب السابقة أكدت أنها تهدف إلى القضاء على المقاومة وإسقاط حكومة حماس، وتارةً القضاء على القوة الصاروخية للمقاومة، وتارةً أخرى تدمير الأنفاق. وكل هذه الأهداف لم يتحقق منها أي شيء، بل على العكس تفاقمت هذه المشكلة وشكّلت تحدياً سياسياً وعسكرياً وأمنياً لـ"إسرائيل"، وغدت عاجزة تماماً أمام المقاومة.

وقد شّكلت حرب 2014 تحدياً بارزاً "لإسرائيل" تلك الحرب التي استمرت أكثر من خمسين يوماً، وكادت دولة الاحتلال أن تتورط فيها، حيث كشفت هذه الحرب عن صمود المقاومة وتطور قدراتها وتكتيكاتها العسكرية والتفاف الشعب ال فلسطين ي في كافة أماكن تواجده لاسيما الجمهور الغزواي حول المقاومة. كما كشفت هذه الحرب عدم تحقيق أي من أهدافها السياسية، وكان من المفترض أن تدفع "إسرائيل" ثمناً سياسياً لولا تواطؤ العديد من بعض الأطراف معها فما كان مطروحاً على الطاولة نفسها آنذاك فك الحصار وإنجاز الميناء والمطار، وقد ماطلت الدولة العبرية مدعومة بالصمت والتواطؤ من قبل بعض الأطراف أربع سنوات إلى أن جاءت مسيرات العودة وأحيت هذه المطالبات ووضعت مسألة فك الحصار على الطاولة من جديد، وبالتالي فإن أية حرب ستشنها " إسرائيل" فهي في نهاية المطاف ستضطر أن تدفع ثمناً سياسياً هذه المرة والتسليم بشروط المقاومة، ولهذا تحاول تجنب الحرب وتتخذها خياراً أخيراً.

وتحاول حكومة " نتنياهو" تركيز ضغوطاتها السياسية وحتى العسكرية نحو  إيران  بوصفها العدو الأول "لإسرائيل" في المنطقة، وما القرار الذي اتخذه " ترامب" من انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع ايران إحدى أهم الإنجازات التي تدفع باتجاه ضرب ايران أو تضييق الخناق عليها في ظل تعزز نفوذها في المنطقة لاسيما في  سوريا  و اليمن ، وبالتالي فإن إمكانية شن حرب على غزة سيعيد الأنظار نحو القضية الفلسطينية ويوفر فرصة ذهبية لإيران للإفلات من فخ العقوبات وزيادة نفوذها في المنطقة، وفي الوقت الذي ستحرج هذه الحرب حلفاء "إسرائيل" من العرب خاصة الدول الخليجية التي باتت تتقاطع تماماً مع الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة. وهذا ما يخشاه " نتنياهو" هو وحكومته اليمينية المتشددة التي تدفع باتجاه الحرب دون وجود أي حزب داخل الحكومة يسعى للجم هذا الاندفاع، ولهذا يضطر " نتنياهو" وحزبه داخل هذا الائتلاف العنصري المتطرف أن يلعب دور المتعقل أمام ضغوطات أحزاب اليمين فيه.

وطوال العشر سنوات الماضية حققت حكومات " نتنياهو" المتعاقبة عدداً من المنجزات السياسية جعلت من " نتنياهو" على رأس أكثر رؤساء حكومات الاحتلال الناجحين، ففي عهده تم (نقل السفارة الأمريكية في  القدس ، انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، تحسن الأوضاع الأمنية، ازدهار الاقتصاد الإسرائيلي، تجميد العملية السياسية، تمرير قانون القومية...الخ).

وفي حال شن الحرب على غزة دون تحقيق أية أهداف سياسية سيبدو " نتنياهو" فاشلاً أمام المقاومة، وربما قد تؤدي هذه الحرب إلى انهيار الأوضاع في الضفة، وقد تقود إلى مصالحة فلسطينية، أو ضغوط دولية للعودة إلى مربع التسوية، وهذا ما لا يريده " نتنياهو" نهائياً، ولا ننسى اقتراب موعد الانتخابات التي تلعب دوراً مهماً في اتخاذ قرار الحرب.

أما وزير الحرب " ليبرمان" الذي ما فتئ يطلق التهديدات تلو التهديدات فهو أكثر من غيره يخشى هذه الحرب لأن استطلاعات الرأي الأخيرة لا تمنح حزبه أكثر من 5 مقاعد مما يشكّل تهديداً لحزبه وخشية من عدم القدرة على تجاوز هذه الأزمة، ولذلك فإن شن هذه الحرب وعدم تحقيق أهدافها سيدفع فيها "ليبرمان" الثمن أكثر من غيره من الأحزاب الأخرى.

ثانياً/ المعضلة العسكرية:

طوال أكثر من خمسة عشر عاماً عجز الجيش الصهيوني عن حسم حرب عسكرية ضد القطاع ولا توجد استراتيجية لديه حيال غزة، ولا يملك سوى آلة التدمير، وهذه لا تعتبر إنجازات عسكرية، ويخشى الجيش أن يدفعه المستوى السياسي إلى احتلال قطاع غزة، وهذا يعني التورط بوحل غزة لسنوات، فضلاً عن الكلفة والخسائر البشرية في صفوف جنوده، وارتكاب مجازر فظيعة بحق الفلسطينيين.

في المقابل يركز الجيش الإسرائيلي أنظاره على الجبهة الشمالية والتطورات المقلقة الجارية على الساحة السورية وتغلغل إيران في سوريا واليمن.

ويرى الجيش أن الحرب القادمة يجب أن تتركز على هذه الجبهة وليس على جبهة قطاع غزة، كما أن تحسن إمكانيات المقاومة وقدرتها على تطوير أدوات وأسلحة جديدة أبرزها الصواريخ التي باتت تغطي معظم المناطق داخل فلسطين المحتلة يعني شل الدولة بالكامل في حال اندلاع هذه الحرب، كما يخشى الجيش أنه قد يضطر لخوض حرب على كافة الجبهات، لذلك يسعى الجيش بكل قوة في تحديد تركيزه العسكري على الجبهة الشمالية ومحاولة تحييد قطاع غزة.

 

ثالثاً/ المعضلة الإيرانية:

ترى " إسرائيل" بإيران العدو المركزي لديها في المنطقة وتسعى بكل جهدها إلى وقف تغلغلها في المنطقة وفرض عقوبات عليها واستنزافها وصولاً لإسقاط النظام الإيراني، والتحريض على توجيه ضربة عسكرية إلى الجمهورية الايرانية، وبالتالي فإن الدوائر العسكرية والسياسية تركز على ايران، ثم أن الأخيرة توسع نفوذها وتتغلغل في المنطقة في مختلف الساحات التي تتواجد بها بكثافة كالأراضي السورية واللبنانية واليمنية، حيث تنظر " إسرائيل" بقلق نحو الحرب الدائرة في اليمن حيث تساهم مساهمة فاعلة ومؤثرة في هذه الحرب إلى جانب  السعودية  والامارات لأن سقوط اليمن بيد إيران يشكّل كارثة بالنسبة "لإسرائيل" وتهديداً لملاحتها البحرية في البحر الأحمر.

هذه هي الأسباب الرئيسية التي تجعل من إمكانية شن حرب على غزة مستبعدة على الأقل في هذه المرحلة، ولكن الوجه الآخر لهذه المعضلة يتمثل في الثمن السياسي الذي ستدفعه "إسرائيل" في حال احجامها عن شن مثل هذه الحرب على القطاع، فهي خاسرة في الحالتين سواء شنت هذه الحرب أو امتنعت عن شنها، وهي تدرك أنه لا يمكن إعادة الأوضاع إلى ما قبل الثلاثين من آذار الماضي أي ما قبل انطلاق مسيرات العودة، والتطور اللافت فيها من استخدام السلاح الشعبي البسيط ما يُعرف بالبالونات الحارقة التي شكّلت تحدياً مزعجاً "لإسرائيل" وقد وصلت هذه الحالة إلى نقطة حرجة فإما الحرب وإما إنهاء الحصار والرضوخ لشروط المقاومة، فكيف ستتصرف "إسرائيل" في هذه الازمة؟ وهل ستقبل باقتراحات ال مصر يين الأخيرة؟ أم أنها ستلجأ إلى المماطلة والمراوغة وكسب المزيد من الوقت؟

أغلب الظن أن "إسرائيل" في ظرفها الحالي وأزماتها المتعاقبة كما ذكرتها سالفاً ستلتقط إيجاباً المقترحات المصرية الأخيرة والجهود المبذولة على هذا الصعيد رغم تعاملها بسياسة المراوغة والمماطلة فيها، علماً أن قرار الحرب على قطاع غزة بات في يد "نتنياهو" وحده ارتباطاً بمصالحه السياسية والشخصية، أما قرار الحرب على الجبهة الشمالية فهو قرار استراتيجي "لإسرائيل".

وفي كل الأحوال فقد وضعت مسيرات العودة "إسرائيل" في موقف حرج وعلى هذه المسيرات أن تتواصل حتى تحقيق أهدافها القريبة على طريق تحقيق الأهداف الاستراتيجية، واستغلال نقطة الضعف الإسرائيلية في هذه المرحلة.

انتهى