عبد الناصر في الذاكرة

حجم الخط

 

أيام قليلة مضت على ذكرى رحيل جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر/أيلول 1970. ما أحوجنا إليه في ليالي أمتنا المظلمة، لقد أعاد للأمة العربية كبرياءها وكرامتها، بعد حِقَب طويلة من الاستعمار القديم والحديث. لم يكن رئيساً ل مصر فقط؛ بل زعيماً للأمة العربية، اتسع قلبه لأحلامها من المحيط إلى الخليج. استنفر فيها طاقاتها المخبأة والكامنة وناضل من أجل امتلاكها لثرواتها وزمام أمرها. كان أيضاً عالمياً فاتسعت أحلامه لكل المناضلين والمقهورين في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. في زمنه كانت القاهرة محجاً لكل المناضلين من أرنستو تشي جيفارا إلى أحفاد باتريس لومومبا وأحمد بن بلة وكل قادة الثورة الجزائرية. سطع نجمه في الدول النامية فأسس مع نهرو وتيتو وبندرانايكة كتلة عدم الانحياز، التي ابتدأ تنظيمها في مؤتمر باندونج عام 1955، واستمرت حتى اللحظة. احتضن القضية الفلسطينية مبكراً وهو الذي حارب الصهاينة في الفالوجة، ونتيجة للخيانات بدأ التفكير في الثورة وفجرها ورفاقه في 23 يوليو/تموز 1952.

لا نقول مثلما يؤمن البعض «بأن القائد يولد قائد بالسليقة»، ولكن تعمّدت قيادته وما امتلكه من «كاريزما» بنضالاته على الصعيد المصري والآخر العربي والكفاح التحرري حيثما كان، وعلى الصعيد العالمي. مبكراً تآمروا عليه في مصر، وحاولوا اغتياله فيما يعرف بحادثة المنصة (وهي غير حادثة اغتيال السادات) لكنهم فشلوا واستمر في خطابه. جمعوا جيوشهم بعد أن قام بتأميم قناة السويس لتصبح مصرية خالصة. حشدوا قواتهم في العدوان الثلاثي: البريطاني - الفرنسي- «الإسرائيلي»، وأشعلوا حرب السويس على مصر في عام 1956. لم تهتز شعرة في رأسه، وقف مع الشعب المصري والأمة العربية وكل الشرفاء على صعيد العالم، وخاطب هؤلاء كلهم من على منبر الأزهر وانهزمت «إسرائيل» وحلفاؤها في محور العدوان. آمن بالوحدة العربية من المحيط إلى الخليج وكانت الوحدة بين مصر و سوريا في عام 1958. لكن المتآمرين واصلوا خططهم السوداء وكان الانفصال في عام 1961. مصر في عهده لم تكن مدينة للخارج بدولار واحد، سوى من بعض المبالغ المستحقة كثمن أسلحة سوفييتية سلّحت بها مصر، بعد أن قام بكسر احتكار الغرب و«إسرائيل» للسلاح، وقد امتنعت هذه الأطراف عن بيعه لمصر. فكانت صفقة الأسلحة التشيكية التي باعتها تشيكوسلوفاكيا لبلد النيل، ومن ثم انفتحت مصر على الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية، فورّدت كل هذه الأطراف، الأسلحة لمصر، ليس ذلك فحسب؛ بل قام الاتحاد السوفييتي بتمويل بناء السد العالي بعد أن امتنع الغرب بكل دوله عن تمويله وكذلك البنك الدولي.

في عام 1967؛ وبعد الهزيمة التي رفضها وتحمل مسؤوليتها بشجاعة واستقال على أثرها من منصبه، صرّح ديان وزير الحرب «الإسرائيلي» آنذاك تصريحاً شهيراً (وأورد ذلك في مذاكراته) بأنه (الآن) ينتظر مكالمة هاتفية منه تعلن استسلام مصر!، رد عليه بالجملة الشهيرة «خسارة معركة لا تعني خسارة الحرب»، وأجابه بلاءات مؤتمر قمة الخرطوم في عام 1968: لا مفاوضات لا صلح لا اعتراف ب«إسرائيل». انتفضت الجماهير العربية بعد إعلانه الاستقالة وامتلأت شوارع مصر والبلدان العربية بلا استثناء بها، وفي الكثير من مدن العالم قامت الجاليات العربية بمظاهرات والكل يطالبه بالعدول عن الاستقالة. استجاب لها. ورُدّت الروح إلى الجماهير العربية التي أصرّت على النضال وهزيمة «إسرائيل». انطلقت المقاومة الفلسطينية للرد على الهزيمة. بدأت مصر حرب الاستنزاف، التي خسرت فيها «إسرائيل» كثيراً، واستشهد خلالها وزير الدفاع المصري عبد المنعم رياض أثناء زيارته للمواقع الأمامية، الذي أثبت باستشهاده أن حرب الاستنزاف كانت البروفة لحرب عام 1973، وقد أثبت فيها الجندي العربي كفاءته العالية باختراق خط بارليف، (الذي شبهه الخبراء العسكريون) بخط ماجينو في الحرب العالمية الثانية، واستعادة هضبة الجولان العربية السورية، لكن تمت الموافقة على وقف إطلاق النار على الجبهة المصرية، وكانت اتفاقية كامب ديفيد ومفاعيلها. تآمر جونسون والكثيرون من قادة الغرب في أواسط الستينات لهزيمة مصر وإقصاء عبد الناصر ولكنهم فشلوا.

لم يكن تابعاً لأحد، ولم يكن محكوماً بإيديولوجيا حزب. زاوج بين الإيمان النظري والمسلكية الشخصية، فلم يسجلوا عليه ولا على أحد من أقربائه أنه استفاد من وجوده في السلطة لا مالياً ولا منصبياً ولا نفوذاً. وُلد بسيطاً وعاش بسيطاً ومات بسيطاً. كان قريباً من الجماهير ومتحدثاً رسمياً باسمها.