الفيدراليات مشاريع تفتيت

حجم الخط

كلما واجه بلد عربي أزمة سياسية حادة، كلما انبرت الأوساط الغربية في الحديث عن طغيان المركز، وطالبت بقيام أنظمة لا مركزية، تبلغ في حالات حد المطالبة بتغيير صيغ الاندماج في البلدان العربية، إلى صيغ فيدرالية في أحيان، وكونفدرالية في أحيان أخرى.

إبان الاحتلال الأمريكي للعراق، طُرح بقوة تشكيل حكم فيدرالي. واقترح حينها، أن تقوم ثلاث حكومات محلية، واحدة في الشمال، تمثل الأكراد، وهي حكومة قائمة بقوة الأمر الواقع، منذ عام 1990، وحكومة أخرى شيعية، تمتد من بابل إلى جنوبي البصرة، ودولة ثالثة، تضم ما أطلق عليه بالمثلث السني، لكن تغيرات سياسية محلية وإقليمية، حالت دون تحقيق هذا المشروع، واستبدلت بنظام المحاصصة الطائفية والإثنية، وأبقت وضع المناطق الكردية في الشمال العراقي على ما هو عليه.

في هذه الأيام، يعاد طرح موضوع الفيدرالية، من الإدارة الأمريكية، ذات الجهة التي بشرت بها في العراق، وجهات أخرى دولية ومحلية، ولكن في سوريا هذه المرة. والهدف أن يستند التقسيم الجغرافي كما في العراق على أسس إثنية ومذهبية ودينية، فهناك دولة للأكراد، وأخرى للدروز، وثالثة للسنة، ورابعة للعلويين وهكذا.

والحديث هذا يعيدنا إلى موضوع الفيدرالية؛ تعريفها وشروطها والظروف التي تتحقق فيها. الفيدرالية ابتداء هي نوع من الحكم، تكون فيه السلطة موزعة بنسب محددة، ينص عليها الدستور، بين المركز والأقاليم التابعة له. وظروف تحققها هي توصل جميع المعنيين إلى التسليم بعمق الاختلاف، وصعوبة الوحدة.

والفيدرالية على هذا الأساس، هي خطوة متقدمة بين دول متباينة في ثقافاتها ومصالحها وبُناها الاجتماعية وانتماءاتها القومية والدينية والسياسية، تفرض عليها ظروف ملحّة، حالة من التعاضد والتعاون واختيار نوع ما من الحكم، بهدف التنسيق والتكامل وصولاً إلى تحقيق نوع من الوحدة.. إنها انتقال من حالة التشرذم والتمزق، إلى تحقيق قدر مقبول من اللحمة.

ولذلك، فإن الذي يحدد مستوى هذه الفيدرالية، هو قدر التقارب أو التباعد بين الأعضاء المنضوين في النظام الفيدرالي.

لقد أصبح من القوانين المعروفة، في العلوم السياسية، أن الفيدراليات تقام بين دول ترغب في إنشاء حالة من الوحدة مع بعضها بعضاً، ويصعب عليها تحقيق اندماج كامل بينها، بفعل عوامل موضوعية وموروثات تاريخية. وهكذا فالفيدرالية بتعريف بسيط هي نظام سياسي تُدار بموجبه أوضاع السكان في الولايات المختلفة التابعة للفيدرالية؛ نتيجة تفارقات أممية أو طبقية وتاريخية.

إن الفيدرالية لا تأخذ مكانها بين شعوب تمكنت من تحقيق وحدة اندماجية بينها، وعاش أبناؤها لعهود طويلة في سلام ووئام. لا يسجل لنا التاريخ انتقال شعوب من وحدة اندماجية متحققة، إلى أنظمة فيدرالية.

إن التاريخ يؤكد أن الشعوب تتجه نحو التطور من الأدنى إلى الأعلى، وصولاً إلى تحقيق الوحدة القومية الشاملة، وأن النقيض لذلك هو اتجاه من الأعلى إلى الأسفل. وإذا ما تفهمنا طبيعة مشاريع التفتيت، التي يجري التبشير بها من خارج المكان، أمكننا إدراك دواعي كرنفالات الفيدراليات، والقوى التي تقف خلفها.

وقد أكدت التجربة التاريخية، أن العقود التي تُبرمها الشعوب، حين تختار شكل الدولة، هي عقود غير قابلة للنقض. قال ذلك أبراهام لينكولن، حين انفصلت الولايات الجنوبية عن الولايات المتحدة الأمريكية، إن الجنوبيين قد اختاروا الانضمام بمحض إرادتهم إلى الاتحاد، والآن لم يعد لهم حق في التراجع عن ذلك الاختيار.

وعلى هذا الأساس، تبدو الدعوات المتكررة للانتقال إلى الحكم الفيدرالي، سواء في العراق أو سوريا، غير منطقية، ونشازاً مغايراً لحقائق التاريخ والجغرافيا، ستؤدي في نتائجها إلى متتاليات جديدة من الفرقة والتفتيت.

إن طرح الفيدرالية، في بلدان كالعراق وسوريا، يهدف إلى سلخها عن محيطها القومي، ويشكل خنجراً مسموماً في الجسد العربي، وإلا كيف لنا أن نفسر مثلاً القول: «إن العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو جزء من العالم الإسلامي، والشعب العربي فيه جزء من الأمة العربية».

كيف يستقيم هذا الأمر، وأين هي حدود الأمة العربية في العراق. وهل يقبل العراقيون الذين تعربت أرضهم قبل الإسلام بمئات السنين، ألاَّ تكون عربية؟! ترى، هل وجد نظام فيدرالي على وجه البسيطة يقبل أبناؤه بأن تمسح هويتهم التاريخية؟ هل باتت العروبة في العراق، على هذه الدرجة من الأقلية كي يعاد النظر في حضورها واستحقاقاتها؟!.

لا ينبغي في كل الأحوال، أن يكون الانتماء العربي، قضية مساءلة الاستفتاء، فالهوية القومية العربية والانتماء المشترك للمواطنة، ليسا مسألتين يُستفتى عليهما. إنهما المكون الأساسي لما يختزنه الشعب العربي في ذاكرته الجماعية وسر وجوده وعطائه وإبداعه.