السودان ومستقبله.. تحديات وتساؤلات

حجم الخط

بقدر اتساع الأفق السياسي السودان ي على تطلعات التحول إلى دولة مدنية حديثة، تبدت هواجس ومخاوف من سيناريوهات الإجهاض، قبل أن يستكمل مقوماته، وتستقر حقائقه في نظام سياسي جديد يعلن القطيعة النهائية مع إرث الماضي.
وفي حفل التوقيع على وثائق المرحلة الانتقالية كان الفرح طاغياً بالوصول إلى تلك النقطة بعد صدامات وتضحيات سقط فيها شهداء ومصابون، ونزف السودان المنهك، كما لم يحدث من قبل، غير أن ذلك لم يحل دون أن تطرح التحديات نفسها عند خط البداية، وكل تحد معه تساؤلاته المعلقة.
إلى أي حد يمكن التماسك الوطني الواسع حول المبادئ الأساسية والأهداف التي توافقت عليها «قوى إعلان الحرية والتغيير»، رافعة الحدث الكبير، إلى الشوارع والميادين ومسارح التاريخ الحي؟
السؤال ليس افتراضياً، فلا يوجد هيكل تنظيمي منضبط ل«قوى الحرية والتغيير»، وهي شبكة من التحالفات المتداخلة والتناقضات المؤجلة، وتحتاج إلى اتساع أفق لتجنب مطبات وعثرات الطريق الطويل حتى انتهاء المرحلة الانتقالية التي تستغرق أكثر من ثلاث سنوات.
عند تشكيل المجلس السيادي اضطرت «قوى الحرية والتغيير» إلى طلب مهلة يومين إضافيين حتى تعدل بالحذف والإضافة في قائمة ممثليها، حيث امتلكت بعض أطرافها حق الفيتو على أسماء بعينها، أو على تجاوز القواعد المتفق عليها في الاختيار.
وفي نهاية المطاف لم يكن الاختيار متسقاً مع أحد المبادئ الرئيسية، وهو رفض المحاصصة الحزبية والجهوية، وأن يقتصر الاختيار على الكفاءة وحدها.
ولاعتبارات عملية كان ذلك شبه مستحيل في أوضاع تحكمها الجهويات والصراعات المعلنة والمكتومة.
وإذا كان ممكنا في لحظة الذروة، ذروة الحدث والثقة العامة تجتاح الشوارع، أن يحدث شيء من الإحباط فإنه يصعب استبعاد اتساع الخلافات بين مكونات «قوى إعلان الحرية والتغيير» في تجربة الحكم، أو تحت ضغط أية صدامات محتملة بين المكونين العسكري والمدني في مجلس السيادة.
الضمانة الرئيسية للتحكم في حركة الأحداث، أو أن تظل تحت سقف البرنامج المشترك، الوعي العام بحجم التحديات والمخاطر ومطبات الطريق، وقدرة الأجيال الجديدة التي تصدرت الصفوف على ألا تفقد البوصلة.
كان لافتاً تصدر الأجيال الجديدة مشهد التوقيع على وثائق المرحلة الانتقالية، فالذي وقع باسم الحرية والتغيير عليها «أحمد ربيع» مدرس شاب للفيزياء في مطلع الثلاثينات، والذي ألقى البيان الرئيسي «محمد ناجي الأصم» طبيب شاب في الثامنة والعشرين من عمره.
غير أن ذلك لا يعني أن القوى الحديثة قد استتب لها الأمر، وأن الأجيال الجديدة استقرت عندها حقائق القوة.
وفق ما هو متفق عليه لا يحق لأحد من قيادات الحرية والتغيير، أو تجمع المهنيين، أن يتولى أي موقع تنفيذي، سيادي أو وزاري، خلال المرحلة الانتقالية تجنباً لأية مشاحنات حزبية، أو أن تفتقد التحالفات تماسكها وقدرتها على الإشراف العام على مدى الالتزام بنصوص الوثائق الموقعة.
ومن عناصر القلق المبكر غياب الحركات المسلحة عن حفل التوقيع، وقدر التحفظات التي أبدتها، وربما تعجلها تحميل الحوادث أكثر مما تحتمل، والمصالحات بأكثر مما تطيق الصياغات التي تم التوصل إليها بمشقة هائلة.
وبأي نظر جدي لموروث الأزمة السودانية، فإن قضية الحرب والسلام استهلكت أعصاب وقدرات وموارد الدولة، قسمتها، ومزقتها، وأفقرت شعبها، وأشاعت اليأس العام من أي إصلاح.
ويكاد يكون مستحيلاً التطلع إلى تحسين الأحوال المعيشية المتردية والخدمات العامة المنهارة من دون وضع حد للحروب الداخلية.
لم تكن مصادفة أن يعلن «عبدالله حمدوك» رئيس الوزراء الجديد، أن السلام قضيته الأولى، رغم أنه بالاختصاص رجل اقتصاد وتنمية لا رجل حرب وسلاح.
ذلك التداخل بين ما هو اقتصادي وما هو أمني عنصر حاكم في أي تقدم للأمام، كلاهما لازم للآخر.
ويفترض نظرياً أن تستغرق قضية الحرب والسلام الأشهر الستة الأولى من المرحلة الانتقالية.
وبالنظر إلى فجوات عدم الثقة المتوارثة يصعب التقيد بالمواعيد المضروبة سلفاً، أو أن تمضي المباحثات على طرق معبدة عليها إشارات مرور ترشد إلى النهايات السعيدة.
كل شيء سوف يمضي شاقاً، وله أكلاف وأثمان.
المشكلة - هنا - أن الأزمة الاقتصادية يصعب أن تنتظر، فيما السوداني العادي يتطلع إلى تحسين أحواله، أن يحدث شيء ما جديد ومفارق عما كان عليه ودعاه للثورة وبذل التضحيات.
كيف؟ ووفق أي خطة وأولويات؟ وبأي قدرات وإمكانات؟
أسئلة أقرب إلى المعضلات، وقد تفضي الإجابات عند حدود الواقعية إلى ما يشبه الارتطام بأرض الواقع بعد التحليق قرب القمر.
الملف الاقتصادي في عمقه تتداخل فيه اعتبارات التهميش والتمييز ونهب المقدرات العامة مع سوء الإدارة، كما تتداخل فيه التناقضات الإقليمية التي لعب النظام السابق على كل حبالها.
هذه كلها تحديات تحتاج إلى وقت طويل نسبياً، وإعادة تصحيح عند جذور السياسات وبناء البلد من جديد وتفكيك الدولة العميقة، التي ترسخت على مدى ثلاثين سنة على يد واحد من أسوأ النظم السياسية التي عرفها العالم العربي.