عمي

حجم الخط
دموع جدتي لم تجف بعد، ومخيلات أحفادها الذين كبروا مليئة بأمور مبهمة تشتت الذهن، وفي بالهم تدور ألف علامة استفهام.. أسئلة كثيرة: هل الدفاع عن الحرية يدفع ثمنه بأكثر من ربع قرن؟ هل من الإنسانية أن تنتظر جدتي زمنا سرمديا ويبقى وجهها شاحبا؟ هل بحبه للأرض والوطن اقترف خطأ؟ هل نضاله لزرع البسمة على وجوه بريئة اعتبر جريمة بحق الانسانية؟ وهل لهم الحق بأسره كل هذه المدة؟ وما هي مشكلتهم العظيمة التي تمنعني من زيارته؟ تمنعني من التعرف إلى عمي المناضل الذي يعد من الأقربين إلي؟ أسئلة طوقتها علامات الاستفهام، تسقط جميعها وتجاب جميع الأسئلة بمجرد رؤية عيون جدتي التي جعلها الزمان تشيخ، وأرهقت من مرارة السنين، وبنظاراتها الحادة التي أفهمتنا أنها قد تعبت، لكن بداخلها إيمان عظيم يمنعها من اليأس، ويجعلها تشعر أن قوتها وصمودها أكبر أمل لابنها. جدتي نعم، جدتي التي تمزقت أوتار صوتها من كثرة صراخها على السجان، وكانت مثلا أعلى للمرأة الجبارة، تحمل هموم الدنيا على كتفيها، ولا تأبه.. علمتنا أن الحياة مليئة بالعقبات، وأن الطرق تكون في معظم حالاتها شائكة، لكن إن لم نتخطاها فمن سيتخطاها؟ كيف سنحقق شيئا إن لم نتخطّها؟ عمي الغالي.. تبعد عنا كثيرا، لكنك قريب منا كل القرب، فأشعة الجوناء ترسل طيفك إلينا كل يوم، لتكون حاضرا بيننا، وتكون موجودا في عقولنا وقلوبنا دائما، في حزننا وفي فرحنا.. وجودك في السجن أخذ جزئا كبيرا من تفكيرنا فيك، وفي أمور كثيرة ربطناها بك.. رسمناك في مخيلتنا البطل، والمعلم الذي منحنا دروسا في الحياة.. منذ صغر أناملي عرفتني على بوابة عالمك، ومع شبابي جعلتني أبحر في "أقيانوسك" فسيح الآفاق، كل مرة كنت أنزل الشراع لأوقف زورقي، ولأتعلم من عالمك الساحر.. علمتني أن حب الارض والوطن أنقى أنواع الحب، وأن نعشق الحرية كعشقنا للأم.. علمتني أن بناء الانسان أهم من بناء الأرض، فما قيمة الأرض دون الانسان الذي وحده من يرفع شأن الأرض؟! جعلتني أفهم أن الانسان يمكنه أن يتطور ويتثقف فكريا مهما كانت الظروف التي فرضت عليه، وأن كل حدث من تفاصيل الحياة هو درس أراد القدر والحياة أن يلقناه لنا. سأبقى متشبثة بحبال تشبثت بها أنت.. تشبثت بها أنت.. حبال غزلت بخيوط الأمل، الصمود والعطاء، رغم اهترائها، لكن مر الزمان كعابر سبيل ونثر عليها ترابا سحريا من كل بقعة من أرجاء فلسطين، لتزداد قوة الأمل، والصمود، والعطاء. أنهي كلامي وكلي يقين أن يوما ما ستعلو أصوات الهتافات، وستغمرنا سعادة لا مثيل لها محتفلين بخروجك سالما من الأسر. * ابنة شقيق الأسير وليد دقة.