اغتيال سليماني ومقامرة أردوغان

حجم الخط

تومئ حركة الحوادث المتلاحقة إلى حروب جديدة في الإقليم على أكثر من جبهة تتصادم فيها قوى، ومصالح، واستراتيجيات، وانفلاتات أعصاب.
وبتوقيت متزامن دخلت الأزمتان الليبية والعراقية أطواراً جديدة تنذر بصدامات سلاح تمتد نيرانها إلى دول الجوار.
ويوماً بعد آخر، تفلت الأزمة الليبية من أية حسابات على شيء من الرشد، والتبصر بعواقب التدخل التركي العسكري.
وكان تفويض البرلمان التركي إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا تصعيداً جديداً لاحتمالات نشوب حرب إقليمية فوق أراضيها. ورفْع منسوب التصعيد يستهدف أساساً منع الجيش الوطني الليبي، بقيادة «خليفة حفتر»، من حسم معركة العاصمة طرابلس، غير أن ألعاب السلاح مقامرات لا يمكن التحكم فيها، أو ضمان نتائجها.
ويوماً بعد آخر، تندفع الأزمة العراقية إلى مشروع صدام مسلح بين واشنطن وطهران، رغم أن الطرفين لا ينويان، بما هو معلن، الدخول في حرب مفتوحة.
وكان اغتيال اللواء «قاسم سليماني» برمزيته في النظام السياسي الإيراني، تصعيداً غير مسبوق في مستوى المواجهة بين واشنطن وطهران. ورمزيته تفوق شخصه، وصلاحياته تتخطى منصبه.
وكقائد ل«فيلق القدس » فهو يتبع «الحرس الثوري» الإيراني، غير أن وزنه السياسي والعسكري يفوق قيادته المفترضة، وصلاحياته في إدارة الملفات الإقليمية أكسبته حجماً سياسياً لا يتوافر لأية شخصية إيرانية أخرى، بما فيها الرئيس «حسن روحاني». هو رجل المرشد «علي خامنئي» في الإقليم المفوض بالتصرف في أزماته.
ومن ناحية رمزية، فإن اغتياله استهداف للمشروع الإيراني في الإقليم. هذا هو موضوع الصدام المحتمل. والسؤال الآن ليس أن ترد، أو لا ترد إيران، بقدر ما هو نوع الرد، وحجمه، وإمكانية التحكم في ردة فعله.
لا توجد حيثيات أمريكية متماسكة لاغتيال «سليماني» الآن بعملية نوعية استخباراتية وعسكرية استلزمت تخطيطاً محكماً تابعه الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب».
وسؤال التوقيت يكتسب مغزاه مما أصبح معروفاً من أن «سليماني» اعتاد القدوم إلى العراق، ومغادرته عبر مطار بغداد الدولي، الذي يخضع محيطه لرقابة أمريكية عسكرية مشددة.
أزمة «ترامب» الداخلية على خلفية ملاحقته بدعاوى عزله من مجلس النواب الأمريكي باستغلال منصبه لمصالح انتخابية قد تفسر التوقيت. وربما أراد أن يثبت قوته رغم الملاحقة النيابية، وأنه لا يأبه بأية حملات من خصومه الديمقراطيين، واثقا من حسم الصراع في مجلس الشيوخ بأغلبيته الجمهورية.
وباليقين، فإن قرار اغتيال «سليماني» سوف يخضع لنقاش داخلي أمريكي حاد حول تداعياته، وما إذا كان قد يجر البلاد إلى حرب لا تريدها، غير أن كل شيء سوف يتوقف على نوع، وحجم الرد الإيراني.
ومن المرجح أن يترك الرد لحلفاء إيران باسم الثأر لاغتيال «أبو مهدي المهندس» نائب رئيس «الحشد الشعبي»، الذي لقي مصرعه مع «سليماني»، وقد علت أصوات عدة تدعو إلى طرد الأمريكيين من العراق.
وبعيداً عن حادث الاغتيال، فإن لهذه الدعوة حيثيات وطنية تزكيها منذ احتلال العراق (2003)، لكنها سوف تصطدم بالتمركزات الأمريكية، وعمق تدخلها في بنية الجيش العراقي، وحجم تنازعها على النفوذ السياسي مع إيران. وهذه كلها عناوين صراعات وصدامات مؤجلة.
وباليقين في الأوضاع العراقية المأزومة بحثاً عن حكومة جديدة لا تخضع لغير إرادة شعبها، فإن عملية الاغتيال سوف تلقي بظلال ثقيلة على السجالات الداخلية تضع مستقبل البلد المنظور بين قوسين كبيرين.
وبين الاحتمالات الواردة رداً على عملية الاغتيال، قيام جهة في العراق، ليست لها صفة رسمية، بعملية محدودة ضد القوات الأمريكية يكون لها دوي سياسي أكثر منه عسكرياً.
وتطويق أزمة اغتيال «سليماني» محتمل بحسابات وموازنات القوة وقدر من التعقل في إدارة الصراع تحسباً من التورط في حرب مفتوحة، وفي الحالة الليبية يغيب مثل هذا القدر من التعقل عن تصرفات الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان».
وعلى الحدود الفاصلة بين الدبلوماسية والسلاح في إدارة الأزمة تبدو الخيارات المصرية ضيقة للغاية، فإذا ما اكتفت بالمرافعات الدبلوماسية في القانون الدولي، والمرجعيات الأممية، التي تنزع عن «أردوغان» أية شرعية في التدخل العسكري، فإن ذلك لن يردعه على أي نحو، وإذا ما لوحت بالسلاح فإنها قد تتورط في المستنقع الليبي، وتستنزف دماء أبنائها وقدراتها الاقتصادية في حرب قد تطول في الصحارى المترامية.
يدعو جنوده إلى ملاحم تذكّر بأمجاد العثمانيين وقادتهم العسكريين الكبار، لكنه يرسل في الوقت نفسه مرتزقة سوريين إلى طرابلس ليقاتلوا بالنيابة.
مقامرة «أردوغان» تنتظر ما قد يحدث في مؤتمر برلين من مقايضات سياسية تحقق أهدافه من دون حاجة لأية مغامرة عسكرية عواقبها وخيمة. وأسوأ ما في حساباته أن الوضع الداخلي التركي لا يسمح بمقامرات عسكرية جديدة بعيداً عن الحدود.
وكان لافتاً حجم الاعتراض من أحزاب المعارضة المدنية والكردية في البرلمان والشارع السياسي خشية الانزلاق إلى حرب إقليمية مع مصر بالذات.
ووسط ذلك الاعتراض يكتسب صوت وزير خارجيته الأسبق «أحمد داود أوغلو»، الذي تعزى إليه فكرة «العثمانية الجديدة» أهمية خاصة.
وانتقادات «أوغلو» لظاهرة «أردوغان» بذاتها وثيقة بالغة الأهمية، وربما يكون المستنقع الليبي هو كلمة النهاية.