تهويد القدس ضحية تراجع القضايا العادلة والنفاق السياسي والمصالح

حجم الخط

مصالح متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية تحوز على الاهتمام وتصبح بؤرة توتر بين كثير من دول العالم، لهذا لم تعد القضايا العادلة تحوز بالاهتمام إلا بقدر ما تحقق هذه المصالح، وهكذا تراجعت قضايا كانت لها مكانتها في السياسة الدولية كقضية التمييز العنصري وقضية الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وقد حلت مكان هذه القضايا قضية الإرهاب الدولي التي هي في الأصل من صنع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية؛ بهدف إلصاق هذه التهمة التي هي محل شجب واستنكار دولي بالعالم العربي والإسلامي.

على المستوى العربي تراجعت قضية التضامن العربي التي برزت كمسألة ملحة في الفكر السياسي العربي اقتضتها ضرورة تجميد الخلافات السياسية بعد هزيمة يونيو حزيران 67، بين ما كانت تسمى بالأنظمة الوطنية بقيادة مصر الناصرية، والأنظمة الرجعية، وفي المقدمة منها النظام السعودي. فلا يوجد حاليًا موقف سياسي عربي رسمي موحد في إطار سياسة التضامن بشأن ما يحدث من فوضى سياسية وأمنية في بعض دول المنطقة، عنوانها الصراع بين النظام السياسي وقوى المعارضة على السلطة السياسية المدعومة من قبل قوى عربية وإقليمية ودولية، كما هو الحال في الأزمة السورية، كما أصاب التراجع -وهذا هو الأخطر على مستقبل الأمة العربية- القضية الفلسطينية نفسها عما كانت عليها قبل عقد الاتفاقيات السياسية مع الكيان الصهيوني، حيث كانت القضية المركزية للأنظمة العربية على مستوى الحكومات والشعوب، وهي قضية وطنية عادلة بكل أبعادها الوطنية والقومية والدينية. ولكن لم تعد لها الآن الأولوية في الاهتمام العربي والإسلامي؛ لأن هناك قضايا قطرية أصبحت أكثر أهمية منها إما أولًا: لأن هذه القضايا مرتبطة بأمن الأنظمة السياسية واستقرارها، وهي في غالبيتها أنظمة استبدادية قمعية معادية للديمقراطية والمحافظة عليها من رياح التغيير. وأما ثانيًا: لكون هذه القضايا القطرية مرتبطة أيضًا بحاجات الشعوب التي تعاني من أزمات الحياة المعيشية الطاحنة التي لم تجد لها حلولًا سريعة حاسمة.

 هكذا فإن حماية القدس من التهويد الذي يجري الآن بوتائر سريعة بعد هذا التراجع، خاصة بعد الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، الذي أعلن عنه في شهر نوفمبر من العام الماضي وهي قضية في صميم المبادئ؛ لأنها تدخل في إطار القضايا الرئيسية للصراع، ولها خصوصيتها التاريخية والدينية، حيث لا تجد من يقوم بالاهتمام بها بشكل حازم وفاعل لمنع تغيير معالم هذه المدينة المقدسة، من خلال الهدم المتواصل للبيوت وتشريد عائلاتها، والقيام ببعض الإجراءات والمشاريع الصهيونية لربط غربي القدس والمستوطنات شرقي القدس، وهو مخطط استراتيجي تهويدي في إطار ما يزعم الاحتلال بأنه جزء من التطوير.

في مشهد صهيوني حافل لتأكيد وتسويق الرواية اليهودية في أي حل تسووي قادم للصراع العربي الصهيوني يقام الآن تجمع دولى لرؤساء ومسؤولين كبار لأكثر من أربعين دولة في القدس، لإحياء ذكرى الهولوكوست "المحرقة النازية" على يد الرايخ الألماني الذي كان يقود صراعًا لتأكيد أحقية ألمانيا الآرية في مجال حيوي أوروبي خاص بها، باعتبار الألمان ينحدرون من عرق مبدع (ألمانيا فوق الجميع)، وهكذا تجد قضية إرهاب مزعومة تم تضخيمها من قبل الآلة الإعلامية للحركة الصهيونية العالمية تحوز على الاهتمام الدولي، بينما قضية الإرهاب الصهيوني الذي يطال البشر والحجر والشجر وكذلك ما يجري في المسجد الأقصى من اعتداء يومي على المصلين لا تجد من يعيرها الاهتمام الكافي. وذلك في ممارسة سياسية بشعة للنفاق السياسي تقوم بها المنظومة الرأسمالية العالمية التي أشعلت الحروب التي راح ضحيتها ملايين البشر الأبرياء وقد يأتي هذا المنتدى الدولي المنافق في إطار تسويق إحدى بنود صفقة القرن الأمريكية الخاصة بمستقبل القدس، حيث تنقل الأخبار عن قرب انعقاد قمة أمريكية إسرائيلية في واشنطن بدعوة من الرئيس ترامب، يحضرها نتنياهو وجانتس. وكذلك قرب زيارة كوشنر لدول المنطقة بصدد ترتيب موعد إعلان التسوية الأمريكية الصهيونية التصفوية.

أما النظام الرسمي العربي الذي عقد بعض أطرافه اتفاق سلام مع الكيان الصهيوني كمصر والأردن، أو الذي يقوم البعض الآخر بالتطبيع كدول الخليج العربية، فلا يمكن أن تضحي كل هذه الأطراف بمصالحها القطرية في سبيل حماية ما يجري من مخطط تهويدي للقدس، مما يجعل المدينة كلها بشقيها عاصمة موحدة للكيان الصهيوني .أما باقي الدول العربية والإسلامية فمصالحها السياسية والاقتصادية التي توفرها لها علاقات التبعية مع دول الغرب الرأسمالية الكبرى هو عندها أهم بكثير من إقحام نفسها في صراع طويل الأمد حول القدس لا أفق سياسي واضح للوصول إلى حله، لذلك لا غرابة أن نجد ظاهرة الصمت من دول العالم العربي والإسلامي، خاصة الدول الإقليمية الكبري فيه وبعضها تربطه علاقات سياسية وأمنية مع الكيان الصهيوني ك تركيا مثلًا، وعدم اتخاذ مواقف حاسمة هي السائدة والاكتفاء بدلًا من ذلك ببيانات شجب واستنكار لا تردع الكيان الصهيوني ولا تجعله يتراجع عن تحقيق مخططاته التهويدية العنصرية في جعلها مدينة يهودية خالصة.