«الصفقة».. الدافع والتوقيت

حجم الخط

بعد وصول الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بفترة وجيزة، بدأ الحديث عن صفقة القرن، لتسوية الصراع بين الفلسطينيين، والكيان الصهيوني. ولفترة طويلة، لم تتضح تفاصيل تلك الصفقة، لكن الصحف الأمريكية، وبعض وسائل الإعلام المرئية، أخذت تنشر تسريبات عن تلك الصفقة. ولم يعلن عن تفاصيلها الكاملة، إلا في الأسبوع الماضي، بعد قرابة ثلاثة أعوام من وصول ترامب إلى سدة الحكم.

بعض المحللين يرجع التأخير في إعلان الصفقة، إلى تعقيدات المسألة الفلسطينية، وأن إعلان بنودها جملة واحدة، سيحدث هزة سياسية كبيرة في الوطن العربي، قد تلحق الضرر ب«إسرائيل»، الكيان الذي تحرص الإدارة الأمريكية، على أمنه. ولذلك جاء تنفيذ معظم بنود الصفقة، قبل الإعلان عن بنودها.

وقد حرصت إدارة ترامب على تنفيذ بعض بنود الاتفاق قبل الإعلان عنه، فتم نقل مقر السفارة الأمريكية، إلى مدينة القدس ، وأعلنت إدارة ترامب، أن القدس ستظل موحدة، خلافاً لقراري مجلس الأمن الدولي ٢٤٢ و٣٣٨، اللذين نصا على عدم جواز ضم الأراضي بالقوة، وخلافاً للقرارات الأممية الأخرى، التي اعتبرت الضفة الغربية وقطاع غزة، والقدس الشرقية، ومرتفعات الجولان، أراضي محتلة، لا يجوز المساس بها.

واعترفت إدارة ترامب أيضاً، بضم احتلال «إسرائيل» لمرتفعات الجولان، خروجاً عن عدد من قرارات مجلس الأمن، التي ذكرت صراحة، أن خطوة الاحتلال، في هذا السياق، لاغية لأنها خروج عن القانون الدولي. تضاف إلى ذلك حماسة ترامب ليهودية الكيان الغاصب.

وتعود دوافع الرئيس الأمريكي لإعلان الصفقة الآن، لأسباب عدة، لعل أهمها أن ترامب، وحليفه نتنياهو، يتعرضان لمساءلات قانونية، الأول متهم بخرق الدستور، والعمل لمصلحته الخاصة، بما يلحق الضرر بالمصالح الأمريكية، والثاني بسبب اتهامه بالفساد. وبالنسبة إلى ترامب، أقر الكونجرس محاكمته بسبب استغلاله للسلطة لمصلحته. وتجري محاكمته هذه الأيام، من قبل مجلس الشيوخ، بمشاركة من المحكمة الدستورية العليا. وليس من الواضح حتى هذه اللحظة ما ستتمخض عنه هذه المحاكمة، رغم أن أغلبية أعضاء مجلس الشيوخ هم من الجمهورين، بمعنى من حزب الرئيس.

ومن جهة أخرى، فإن من المتوقع أن تبدأ اعتباراً من الأيام القادمة، الحملة التمهيدية للانتخابات الرئاسية. وترامب بحاجة إلى دعم الجماعات اليهودية للفوز بدورة رئاسية ثانية. وبهذا يكون قد حقق إنجازاً سياسياً كبيراً، يضاف إلى نجاحه الباهر، وبروزه كبطل قومي بعد القضاء على أبوبكر البغدادي، وقاسم سليماني.

يضاف إلى ذلك، أن ترامب في عامه الرابع، ما لم يقدم على الإعلان عن هذه الصفقة الآن، فإنه ربما يفوّت فرصة عليه، لن يتمكن مستقبلاً من تحقيقها، في حالة عدم تمكنه من الفوز بدورة رئاسية ثانية.

وما يشجع على الإعلان عن الصفقة الآن، أن معظم بنودها قد جرى تنفيذه في الأعوام الثلاثة التي مضت من عهد الرئيس. وأن الهزة المتوقع حدوثها في منطقة الشرق الأوسط، جراء الإعلان عنها، ستكون محدودة جراء افتقارها لعنصر المفاجأة.

على السطح، يبدو الكيان الصهيوني هو المستفيد الأول من هذا الإعلان، ويبدو ترامب رابحاً سياسياً منها، لكن التمحيص والتدقيق يقول غير ذلك. فالاحتلال الذي وقّع اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين عام ١٩٩٣م، ربح كثيراً من ذلك الاتفاق. وعلى الرغم من عدم وفائه ببنوده، وبشكل خاص ما يتعلق بمفاوضات الحل النهائي التي يجب ألا تتجاوز فترتها خمس سنوات من تاريخ توقيع الاتفاقية، لكن السلطة الفلسطينية بقيت متمسكة ببنودها، وواصلت التنسيق الأمني مع الاحتلال. وخلال أكثر من ربع قرن، بعد توقيع الاتفاقية المذكورة، أقام الاحتلال عشرات المستوطنات، وبنى آلاف الوحدات الاستيطانية، وتم قضم أكثر من ٣٠ في المئة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبنيت الجدران العازلة، والمعابر، ولم تحرك السلطة ساكناً. بل إن السلطة قامت بترويض بقية حركات المقاومة، ومنعتها من تنفيذ أي عمليات مسلحة ضد الاحتلال. وحتى بعد الإعلان عن تهويد القدس، ويهودية الدولة، ورفض حق العودة، لم تحرك السلطة ساكناً.

هذه الخطوة، ستضعف السلطة، من دون شك، وستضع اتفاقية أوسلو ذاتها في مهب الريح. وعندها ستنشط حركات المقاومة، وربما ينشط مجدداً دور المخيمات الفلسطينية، بالدول المجاورة: الأردن وسوريا ولبنان، خاصة إذا نجَم عن هذه الصفقة تهجير أعداد جديدة، من الأراضي المحتلة، لهذه الدول. وأوضاع المنقطة برمتها، ستكون معرضة للاهتزاز، وضياع الأمن. وربّ ضارة نافعة، فلربما يعاود التاريخ مكرهاً، ويعود الحضور لقضية فلسطين، ولحق شعبها في العودة والاستقلال وتقرير المصير.