بين المحرقة والمظلمة في إطار الصراع على الجبهة الإعلامية

حجم الخط
 
 

نجح الإعلام الصهيوني القائم على الفكر الديني التوراتي والتلمودي المحرف، في تضليل الرأي العام العالمي، خاصة في بلدان الغرب الرأسمالية، بما سميت بالمحرقة التي ارتكبتها ألمانيا النازية بحق اليهود المقيمين فيها، وقد تم تضخيم ما سمي بالهولوكوست لكسب عطف الغرب المسيحي في سعي الحركة الصهيونية العالمية لإقامة الوطن القومي لليهود في أرض فلسطين العربية؛ قلب العالم العربي والإسلامي، وقد قوبل ذلك من قبل الغرب الاستعماري باستعداد سياسي وعاطفي بما ضخمه الإعلام الصهيوني للتكفير عما ارتكبته حكوماته الرأسمالية ذي التوجهات الأصولية الدينية والعنصرية، من ممارسات عدائية كانت قد حدثت ضد اليهود المقيمين في بلدانها؛ بسبب ما ظهر من نمط أساليب حياتهم الانعزالية وطباعهم الخبيثة في احتكارهم لمهن معينة جلبت عليهم الكراهية من الشعوب الأوروبية كمهنة الصيرفة والقبول بالأموال الربوية، ورواية تاجر البندقية لشكسبير الكاتب البريطاني الشهير تكشف للعالم مدى انحطاط صفات وطباع شخصية الإنسان اليهودي الذي امتهن هذه الأعمال المالية الربوية الاستغلالية الفاحشة. ومما زاد حالة الكراهية لليهود الأوروبيين أنهم كانوا يقيمون كتجمعات منفصلة في أحياء خاصة منغلقة عرفت باسم (الجيتو)، وقد شاع هذا المظهر الاجتماعي أيضًا في بعض البلدان العربية باسم (حارة اليهود).

لقد أرَّقت هذه المظاهر الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي تميزت بها أساليب حياة اليهود الأوروبيين المجتمعات والحكومات في أوروبا، مما جعل الفكر السياسي الغربي يطلق عليها عبارة: المشكلة اليهودية، وقد ساهمت هذه المشكلة [أبعادها الاقتصادية والسياسية والدينية بالفعل في نسج المؤامرة الغربية الاستعمارية للتخلص من اليهود، وذلك عن طريق تقديم الدعم للحركة الصهيونية العالمية في مسعاها السياسي الهادف باغتصاب فلسطين وتحويلها إلى وطن قومي لليهود، كما جاء في وعد وزير الخارجية البريطاني بلفور في خطاب أرسله إلى الصهيوني روتشيلد، وكانت فرنسا في عهد نابليون بونابرت، قد وعدت هي الأخري اليهود بوطن قومي في البلاد المقدسة. وهكذا التقت الأصولية المسيحية مع الأصولية اليهودية في دعم مؤامرة اغتصاب فلسطين، وهو التحالف الديني الذي نشط الآن بوصول ترامب الأصولي المسيحي إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، وكانت أولى قراراته الاعتراف ب القدس الموحدة عاصمة للكيان الصهيوني.

هكذا كان الصراع العربي الصهيوني يستند في نشأته الأولى على مفاهيم دينية، تم فيها الاختلاط بين عاملين أساسين من العوامل المحركة للتاريخ أولهما: العامل الاقتصادي، وكان ذلك في توافق طموحات البرجوازية اليهودية في تأسيس دولة قومية خاصة بها مع وصول البرجوازية الأوروبية إلى السلطة بعد اندحار سلطة الاقطاع السياسي الديني، مع سعي دولها القومية الناشئة حديثًا إلى التوسع بفتح أسواق جديدة في بلدان العالم الثالث عن طريق الحركة الاستعمارية. أما ثانيهما: العامل القومي الاجتماعي باستغلال الدين اليهودي في مثل الشعار الناظم "شعب الله المختار"، كأسلوب تحريضي بغرض تحقيق التفاف الشتات اليهودي نحو الهدف الذي حددته الحركة الصهيونية العالمية في مؤتمرها الأول الذي عقد في بازل بسويسرا، والذي أعلن في ختام أعماله رئيس المؤتمر الصحفي النمساوي تيودور هرتزل للعالم: لقد أقمنا الآن الدولة اليهودية.

على المستوى الإعلام العربي والإسلامي الأشمل في إطار الصراع مع المشروع الصهيوني، لم يتضمن الخطاب السياسي الإعلامي أي جهد فكري وثقافي علمي فاعل لإقناع العالم بالمظلمة التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني وطرده من أرضه بقوة السلاح، وقد شُغل القائمون على هذا الإعلام الرسمي الحكومي بإطلاق الشعارات الطنانة والرنانة كمهمة تعبوية لخداع الجماهير خدمة لتوجهات النظام السياسي للدولة الوطنية ال قطر ية التي أقيمت بفعل التجزئة السياسية الممنهجة، وذلك باختلاق إنجازات وهمية، حيث لا تنمية اقتصاديه حقيقية، ولا تقدم اجتماعي في ظل نظم سياسية استبدادية وقمعية تخرج الأقطار العربية من علاقات التبعية، بل مزيد من مظاهر الانحطاط السياسي والتخلف الحضاري ما زالت تسود في نواحي حياة المجتمعات العربية.

لقد خسرت الأمة الصراع مع المشروع الصهيوني في الجبهة الإعلامية والسياسية، كما خسرته أكثر من مرة في الجبهة العسكرية، والدليل على ذلك الاعتراف بالكيان الصهيوني وفق شعار سلام الشجعان والتطبيع المتسارع انطلاقًا من الأخذ بتيار الواقعية السياسية، وهذا العدد من رؤساء الدول ومسؤوليها، ومنهم مسؤول ديني من نظام حامي الحرمين الذين وصلوا إلى القدس المغتصبة لإعلان التضامن مع الشعب اليهودي في ذكرى محرقته النازية المزعومة، في حين عميت أبصارهم وأغلقت عقولهم عن مظلمة تاريخية كبرى أكثر إيلامًا على الضمير الإنساني من أي محرقة نازية لليهود كبيرة أو صغيرة، وقد وصف تلك المظلمة ذات يوم الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة قائلًا: بأن ما حدث لشعب فلسطين العربي هو أكبر مظلمة حدثت في التاريخ.