عن الحرب الباردة في زمن الكورونا

حجم الخط

بتفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار منظومة المعسكر الاشتراكي انتهت الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن وزال التوتر الذي كان يهدد الأمن والسلم العالميين بين حلف وارسو والحلف الأطلسي الناتو، وتبوأت الولايات المتحدة بسبب ذلك كله موقع قيادة العالم، بما أطلق على ذلك الوضع بمصطلح: القطب الأوحد.

باختفاء القطبية الثنائية مارست الولايات المتحدة سياسة الهيمنة الكونية بكل مظاهرها؛ من شن الحروب العدوانية باحتلال أفغانستان بحجة رعاية حركة طالبان الإسلامية للإرهاب الدولي، وهي التي عقدت معها قبل أيام اتفاقية سلام! إلى احتلال العراق بذريعة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، إلى فرض العقوبات الاقتصادية على إيران؛ بسبب شروعها بالعمل لامتلاك السلاح النووي وعلوم التكنولوجيا، إلى التدخل قبل ذلك في الصراع الدائر بين القوميات في يوغسلافيا الاتحادية، بجانب العمل على فك الوحدة الاتحادية بين جمهورياتها؛ بهدف التخلص منها أيضًا باعتبارها دولة اشتراكية كبرى، تقع في وسط أوروبا مناوئة للنظام الرأسمالي العالمي. وهكذا شهد العالم بعد انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق، تزايد وتيرة السياسة العدوانية الأمريكية على المستوى العالمي وتعاظم وجودها العسكري في البحار والمحيطات والقواعد؛ كأداة جاهزة مهيأة للتدخل العسكري لحماية مصالحها الحيوية، خاصة في منطقة الخليج العربي الغني بالثروة النفطية؛ المادة الحيوية لاستمرار فاعلية وحيوية النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي، وبذلك ظلت أمريكا تحتل موقع القطب الأوحد في السياسة الدولية حتى بدايات القرن الواحد والعشرين الحالي. وباندلاع ثورات ما سميت بالربيع العربي ضد ظاهرة الاستبداد السياسي؛ ومن أجل تعميم الديمقراطية التي لم تتحقق بسبب التدخل الإقليمي والدولي وارتكاب التنظيمات الإسلامية الأصولية موجة الأحداث الدامية، مما أدى إلى إشاعة حالة من الفوضى السياسية والأمنية التي تشهدها حتى الآن بعض بلدان "الربيع"، وبتأثير جملة من المتغيرات النوعية التي جرت على صعيد المنطقة العربية والشرق الأوسط، وكذلك في شرق أوروبا، فيما يتعلق بمنع حلف الناتو الاستعماري من التمدد في غالبية بلدان المعسكر الاشتراكي سابقًا عادت روسيا مرة أخرى إلى حلبة السياسة الدولية؛ كقطب عالمي وريثًا للاتحاد السوفييتي السابق في مقدرته العسكرية النووية وموقعه الجغرافي في شرق أوروبا وعلى تخوم القارة الآسيوية، وهي عودة للثنائية القطبية مرة أخرى على صعيد السياسة الدولية، وقد تجلى ذلك بوضوح في الأزمة الأوكرانية؛ باحتلال جزيرة القرم، وفي الأزمة السورية أيضًا بالتدخل العسكري دفاعًا عن النظام السياسي السوري المعادي للغرب والكيان الصهيوني وأنظمة الرجعية العربية، حيث بقى حتى الآن صامدًا في مواجهة دعم الولايات المتحدة والغرب وتركيا والقوى الرجعية العربية وللمعارضة السورية على اختلاف أطرافها.

أما بصعود الصين في القارة الآسيوية كقوة اقتصادية كبرى غزت منتجاتها الأسواق العالمية، مما جعلها في حالة مواجهة تجارية مع الولايات المتحدة، إضافة إلى امتلاكها الأسلحة النووية، أصبح العالم يقوم في ركائزه الأساسية على نفوذ تعدد الأقطاب؛ بإضافة الصين كقطب آخر بجانب روسيا الاتحادية في مواجهة هيمنة الولايات المتحدة على مجريات السياسة الدولية، وقد جاء ظهور فيروس كورونا القاتل في مدينة ووهان الصينية، والذي تحول بعد ذلك إلى وباء عالمي؛ ليعيد تشكيل العالم من جديد، حيث أصبح ما قبل نشأة الفيروس يختلف عما بعده، وليظهر أيضًا لشعوب العالم كلها التي تتخذ إجراءات وقائية متعددة لحماية أرواح أبنائها، في جو من السباق الدولي والتنافس المحموم على الهيمنة الكونية، مدى مقدرة كل قطب من الأقطاب الكبار على إنقاذ الجنس البشري؛ من أخطار الفيروس القاتل على المستوى الصحي والاقتصادي، وهو ما ينذر بإمكانية عودة للحرب الباردة من جديد، ولكن هذه المرة بين الولايات المتحدة ودول الغرب الرأسمالي الكبرى من جانب، والصين وروسيا ودول كبرى أخرى مناوئة للغرب من جانب آخر؛ غير أن مجالها سيكون ليس قائمًا في الإطار الأيديولوجي الطبقي، كما كان في السابق بين الرأسمالية ونقيضها الطبقة العاملة وغيرها من الطبقات الشعبية الفقيرة الكادحة، بل في مجال البحث العلمي والتكنولوجي في مواجهة تحدي أخطار نشأة الفيروسات المتتابعة، ومدى تأثيرها على النظام الصحي والاقتصادي العالمي.

لقد استطاعت الصين السيطرة على الفيروس والحد من تفشيه في مقاطعاتها المتعددة، وانتقلت من مرحلة احتوائه إلى عودة الحياة الاقتصادية تدريجيًا، وهو إنجاز علمي كبير لم تتوصل إليه بعد الدول الغربية الرأسمالية الأكثر تقدمًا في مجال البحث العلمي، مما يفتح الطريق أمام الصين لقيادة الاقتصاد العالمي، بينما عجزت الولايات المتحدة حتى الآن على منع تفشي فيروس كورونا، مما يوقع يوميًا المئات من الضحايا الذي وصل تعدادها الآن إلى مئات الآلاف، وكذلك تمكن المختبرات العلمية فيها من خلال التجارب السريرية التي أجريت على صنع لقاح مضاد للوباء حتى الآن، وقد تسبب هذا العجز غير الطبيعي في إطلاق حملة من الانتقادات ضد الرئيس ترامب نفسه، وكانت تصدر من الأعضاء الديموقراطيين في الكونجرس، وحتى من أعضاء حزبه الجمهوري؛ لفشله في إدارة الأزمة التي تعيشها البلاد، مما دفعه مقابل ذلك إلى إصدار قرارا بوقف المعونات المالية عن منظمة الصحة العالمية؛ بسبب ما أسماه سوء إدارتها لأزمة تفشي فيروس كورونا، وكذلك تواطئها مع الصين في إخفاء المعلومات عن سبب نشأته. ومن ناحية أخرى يتواصل عجز الدول الغربية الكبرى بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا وألمانيا في محاصرة تفشي وباء الكورونا، الذي ما زال يوقع خسائر بشرية هائلة، ويشل النشاط الاقتصادي، فيما تصف جهات رسمية في هذه الدول الوضع بأنه كارثة فادحة تصيب كل دول الاتحاد الأوروبي وتهدد بانهياره نظرًا لتعارض المصالح الاقتصادية التي كشفت عنها أزمة الكورونا بين أعضائه، مما دفع بعضها لطلب المساعدة من الصين عن طريق مدها بالمعلومات وبالوسائل الطبية الوقائية، وهي حالة سياسية وصحية وعلمية واقتصادية بائسة وغير مسبوقة يعيشها الغرب الرأسمالي؛ تثبت للعالم عجزه على إنقاذ البشرية من هجمة الأخطار البيولوجية التي باتت تشكل العدو الرئيسي لمستقبل الحياة الإنسانية، وهو الأمر الذي من شأنه إحداث تحول في موازين القوى العالمية لصالح دول كبرى خارج نطاق الغرب الرأسمالي بشركاته الاحتكارية المتعددة الجنسية، وبداية أفول سطوة الحضارة الغربية البرجوازية الاستهلاكية ذات النزعة العنصرية التي هيمنت على مجريات السياسة الدولية قرونا طويلة.