الأوتوقراطيات تطارد الديمقراطيات العربية والعالمية

حجم الخط

للأسف الشديد، أننا مع بداية القرن الواحد والعشرين، من المفترض أن نكون كأمة عربية، قد قطعنا أشواطاً طويلة، باتجاه الحياة الديمقراطية، ونيل الحقوق كاملة، وصولاً إلى مجتمع الرّفاه، بسبب الثروات العربية الفلكية، فمثلا بلغ حجم الثروات الخاصة في دول الخليج العربي في عام 2018 حوالي 1.5 تريليون دولار، فكيف بمجموع الثروة العربية؟ لكن هذه الثروة تذهب في بعض أوجه صرفها على الحروب، وشراء الأندية الرياضية العالمية، واليخوت الفخمة، والطائرات الخاصة، وغيرها.

في دولنا يزداد الديكتاتوريون (الأوتوقراطيون) تحكماً، وتعتقل حتى الفتيات في السجون مدداً طويلة، وتتبنى قضاياهن منظمات حقوق الإنسان.. ويزداد المواطن العربي فقرا، وتضييقا لمساحة حريته، ويستولي الجنرالات والضباط على السلطة في أكثر من بلد عربي، ويدركون أن أوراق اعتمادهم هي رضى الأمريكي عنهم، فيبدأون في استقبال الطائرات الإسرائيلية في مطاراتهم، كمقدمة للتطبيع مع دويلة الكيان الصهيوني. في اليمن أصابت المجاعة أكثر من مليون طفل يمني، وفي ليبيا الأحوال أسوأ. في لبنان وصل سعر صرف الدولار إلى 7000 ليرة لبنانية وفي أيام العز كان يصرف بـ 5.3 ليرة، وفي سوريا بفعل العقوبات والحرب وصل سعر صرف الدولار إلى 5000 ليرة سورية، وقديما كان يصرف ما بين 4 – 5 ليرات، الأمر الذي أدى إلى تجويع حقيقي لأهالي البلدين، ولا يختلف الأمر كثيرا في العراق، زيادةً على نشاط «داعش» ومنظمات الإرهاب الأخرى فيه وفي سوريا.

وبدلا من الصورة المثالية التي من المفترض أن يكون عليها الوطن العربي حالياً من المحيط إلى الخليج، فإننا نرى عكسها تماما، حتى أن معظم الشباب العربي، إضافة إلى الكفاءات في المجالات المختلفة، يحلمون بالهجرة إلى الغرب، بحثا عن فرص عمل لهم لا يجدونها في بلدانهم. أصبحنا نحنّ إلى فترة الستينيات حين لم تكن تجد جائعا واحدا في مصر، نحنّ إلى فترة العزّ والكرامة في مرحلة التحرر الوطني العربي في الجزائر وجنوب اليمن وغيرهما من البلدان، نحنّ إلى زمن نصرة فلسطين، حين كانت الشوارع العربية تمتلئ بالجماهير العربية احتجاجاً على اعتداء صهيوني على إحدى البلدات أو القرى الحدودية الفلسطينية، أو على خطوة صهيونية عنصرية ضد أهلنا في منطقة 48. لم يدرك النظام الرسمي العربي، أن حرية الوطن العربي مرتبطة بالانتصار على إسرائيل وبكسر شوكتها، والمجموع العربي قادر على القيام بذلك. ولكن عندما بدأت أمريكا وباقي الدول الاستعمارية في شراء ذمم النظام الرسمي العربي، وامتصاص الثروات العربية جميعها، وإعادتها إلى أسواقنا مصنّعة، فإنها تكسب والحالة هذه أضعافا مضاعفة، ووصل الأمر بالجشع الأمريكي إلى طلب الخوّة المالية بمئات المليارات ثمنا لحماية هذا النظام أو ذاك، يتناسى النظام المعني أن لا حماية له إلا من جماهيره، عندما ينشر العدل في أوساطهم، ويشعرون بأنه قائم على خدمتهم، والحرص على تحقيق احتياجاتهم في كل مستلزمات الحياة.. التدريس، الطبابة، الرعاية الاجتماعية وغيرها.

لا بدّ من التطرق إلى الأتوقراطية وسماتها المتوحشة بداية، والتي هي أولا وأخيراً شكل من أشكال الحكم، تكون فيه السلطة السياسية بيد شخص واحد، وهي في طبيعتها أيضا استبدادية وديكتاتورية، لكن في الواقع، هناك فرق في المعنى بين هذه المفردات، فالأوتوقراطية ليست مرادفة للشمولية، فقد نشأت للتفريق بين الأنظمة الحديثة التي ظهرت في عام 1923 والديكتاتوريات التقليدية، بالإضافة إلى ذلك، فإن الأوتوقراطية ليست مرادفة للديكتاتورية العسكرية، فهنالك مثلا الأوتوقراطيات الليبرالية ومن مبادئها احترام حقوق وحرية الأفراد. يختلف مصطلح المَلَكيّة أيضا عن الأوتوقراطية كونه يعكس صفة توريث الحكم، على الرغم من أن بعض الملكيات السلافية، بالأخص الأباطرة الروس حملوا لقب «أوتوقراطي». تاريخيا، فإن العديد من الملوك حكموا بشكل أوتوقراطي، ولكن في نهاية الأمر ضعف نفوذهم واختفوا، بعد أن كتبت وأقرت الدساتير، التي أعطت الشعوب القوة لصناعة القرارات بنفسها، من خلال ممثليها في الحكومة. يحتاج الأوتوقراطي إلى نوع من مساعدة أفراد نافذين (غالبا الرأسمال المالي) ومؤسسات مجتمعية لأجل إحكام سيطرته على الشعب. قلة هم الحكام الذين تمكنوا من أن يبسطوا نفوذهم عن طريق الحضور، أو الكاريزما، أو المهارات فقط، من غير مساعدة الآخرين.

أغلبية الأوتوقراطيين اعتمدوا ويعتمدون وسيظلون على طبقة النبلاء والعسكر، أو الزعماء الدينيين وغيرهم، الذين بدورهم قد ينقلبون على الحاكم أو يقتلونه. لذا، قد يصعب معرفة الفرق بشكل واضح بين الأوتوقراطية والأوليغارشية التي تعني حكم القلة. نعم يميز الخبراء ومنهم موريس دي فرجيه بين نوعين من الأوتوقراطية :الأوتوقراطية المعلنة، والتي هي استثناء، ومن أمثلتها الأحزاب الفاشية أو الشبيهة بها، حيث تحل «رغبة الحاكم» محل الانتخاب، كأساس للشرعية. والأوتوقراطية المقنّعة، التي هي القاعدة، وهي إخفاء تعيين أوتوقراطي تحت مظاهر مختلفة الدرجة من الديمقراطية. وقد يعتبر النظام الأوتوقراطي ذاته بمثابة الحكم، لأنه مستقل عن الأحزاب، وفوق الأحزاب وفوق الجماهير الشعبية.

يرى بعض المفكرين أن الأوتوقراطية أيضا ظاهرة غربية بل عالمية، وليست عالمثالثية فقط. فقد نشرت مجلة «فورين أفيرز» عدد مايو- يونيو 2018  دراسة بعنوان: «نهاية قرن الديمقراطية»، قام بها ياسشا مونك وروبرتو ستيفان فوا، تنبأت فيها بأفول نجم الديمقراطية الغربية.. وخلصت إلى أن «القرن الطويل الذي هيمنت فيه الديمقراطيات الليبرالية الغربية على الكرة الأرضية قد انتهى إلى الأبد». وكان تقرير قد نشرته مؤسسة بيت الحرية (فريدم هاوس) الأمريكية، في أوائل عام 2017 بعنوان «الحرية في العالم 2017: استمرار تراجع الحريات وسط تزايد النزعة الشعبوية والاستبداد»، قد كشف عن تراجع ملحوظ في معدل الحريات حول العالم خلال العقد الأخير. ويقول آرت بودينجتون، أحد الذين شاركوا في إعداد هذا التقرير، «إننا نرى بوضوح كيف أن القادة والأمم يسعون لتحقيق مصالحهم الضيقة، على حساب المصالح المشتركة في تحقيق السلام والحرية على مستوى العالم. وتسارعت وتيرة هذه التوجهات حتى بدأت بالفعل تنقض غزل النظام الدولي، الذي ساد خلال ربع القرن الماضي، بما في ذلك الاحترام العام للمعايير الراسخة للحريات الأساسية والديمقراطية». ويواصل بودينجتون القول بأنه «بينما شهد العالم خلال السنوات الماضية تدهوراً كبيراً في مستوى الحرية لدى الأنظمة الأوتوقراطية والديكتاتوريات، ففي عام 2016 تصدرت أنظمة ديمقراطية راسخة قائمة الدول التي تعاني من انتكاسات في مجال الحريات».

لكن الأحداث التي وقعت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، تجعلنا نفسر هذه الظاهرة بطريقة مختلفة للغاية. فلم تكن معايير وقيم الديمقراطية الليبرالية فحسب، هي ما جذب المواطنين إليها في جميع أنحاء العالم، لكنها ترجع كذلك إلى تقديمها لأبرز نموذج للنجاح الاقتصادي والجيوسياسي على وجه البسيطة. وقد تكون القيم المدنية قد لعبت دورها في تحويل قناعات مواطني الأنظمة السلطوية في السابق، حتى أصبحوا ديمقراطيين عن قناعة، لكن النمو الاقتصادي المذهل لأوروبا الغربية خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والانتصارات التي حققتها الدول الديمقراطية في الحرب الباردة، بالإضافة إلى الهزيمة التي ألحقتها الديمقراطية بأعتى أعدائها من المنافسين الأوتوقراطيين ـ كانت بالقدر نفسه من الأهمية.

وقد أدى ازدهار الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، إلى إغراء البعض بأن ينسب انتشارها إلى إقبال الشعوب عليها، للجذب الذي تمثله الديمقراطية ذاتها. فإذا أبدى المواطنون في بلدٍ ما إخلاصاً لنظامهم السياسي، فلابد أن ذلك يرجع إلى تنامي التزام عميق لديهم بمراعاة حقوق الأفراد، فإن ذلك بالتأكيد، من وجهة نظر الشعوب يعني أنهم كانوا يتشاركون في الرغبة الإنسانية العامة لتحقيق الديمقراطية الليبرالية. ليس من الصعب ملاحظة أنه، في الانتخابات الأخيرة في دول كثيرة حول العالم، ظهور موجة عنيفة من المشاعر المعادية للأجانب فيها، إضافة إلى تقدم مطرد في فوز الأحزاب اليمينية والشوفينية فيها، ونتيجة لذلك، حقق كثير من الشعوبيين الاستبداديين الذين لا يحترمون أبسط القواعد الديمقراطية أو المعايير الأساسية للنظام الديمقراطي، تقدماً سريعاً في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية على مدى العقدين الماضيين. وفي الوقت نفسه، كان لبعض الحكام الاستبداديين الأقوياء دور مهم في تراجع التقدم الديمقراطي في معظم الدول. نحن في ظل نهاية عصر الهيمنة للديمقراطيات ذات الاقتصاديات المتقدمة، التي يجمعها تحالف مشترك. نعم، في النصف الثاني من القرن العشرين، ومع اتساع النطاق الجغرافي للحكم الديمقراطي، أصبحت قوة هذا التحالف الديمقراطي الليبرالي أكثر هيمنة. أما في الوقت الحالي، وللمرة الأولى منذ أكثر من مئة عام، فقد انخفضت حصة هذا التحالف من الناتج المحلي الإجمالي للعالم، إلى ما دون النصف. ووفقا لتوقعات صندوق النقد الدولي، فسوف تنخفض هذه النسبة خلال السنوات العشر المقبلة. لذلك تطارد الأوتوقراطيات الديمقراطية.