المسيرة التاريخية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "قراءة وعرض لوثائق مؤتمراتها حتى المؤتمر السابع"

الجبهة الشعبية ترويسة.jpg
حجم الخط

(في الذكرى الثالثة والخمسين لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ تنشر بوابة الهدف الإخبارية، على حلقات متتابعة: كتاب المسيرة التاريخية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (قراءة وعرض لوثائق مؤتمراتها حتى المؤتمر السابع) الذي أعدته الدائرة الثقافية المركزية للجبهة، وصدر منه طبعتين؛ الأولى في آب/أغسطس 2010، والثانية في يوليو/تموز 2014).

الفصل الأول

حركة القوميين العرب... النشأة والتأسيس والمسيرة

(ح 1)

سنقدم فيما يلي عرضاً مكثفاً لنشأة وتطور حركة القوميين العرب التي أسسها القائد جورج حبش مع مجموعة من رفاقه، باعتبارها الإطار الأم الذي أنجب الجبهة الشعبية، انطلاقاً من قناعتنا الموضوعية بأن "حركة القوميين العرب" مثلت كفكرة وكإطار تنظيمي تجسيداً لضرورة تاريخية استطاعت بفضل إيمان ودافعية وإرادة قيادتها وكوادرها ومبادئها القومية الوحدوية أن تفرض ذاتها وتنتشر في معظم أرجاء الوطن العربي، بحيث شكلت ظاهرة متميزة في التاريخ السياسي العربي الحديث، لكنها ظاهرة لم تكتمل أو تحقق مشروعها النهضوي القومي لأسباب لا تنحصر في الدور الاستعماري والامبريالي والصهيوني فحسب، بل أيضاً في عمق تبعية وتخلف النظام العربي وفشل مشروع التحرر الوطني والقومي بقيادة البرجوازية الوطنية بأقسامها وشرائحها المختلفة وبالفكر القومي الذي كانت الحركة ذاتها جزءاً منه، الأمر الذي عزز استمرار واحتجاز تطور مجتمعاتنا العربية عبر تحالف شخوص وأدوات النظام الحاكم أو الطبقة السائدة من القوى الرجعية والبيروقراطية والبرجوازية الرثة مع العدو الامبريالي الصهيوني، ومن ثم تكريس مظاهر التبعية والخضوع السياسي والاقتصادي لحساب التحالف الامبريالي الصهيوني، الأمر الذي يفرض على كافة القوى الطليعية الديمقراطية عموماً واليسارية خصوصاً، النضال المشترك من أجل استعادة الأفكار الوطنية التحررية والديمقراطية، وإعادة إحياء الأفكار القومية العربية بمضمون يساري تقدمي إنساني وديمقراطي، وبلورة إطاره التنظيمي لنشر وتفعيل الفكرة القومية النهضوية، كفكرة توحيدية لكل شعوبنا العربية واستنهاضها لمقاومة كل أشكال السيطرة الامبريالية الصهيونية وأدواتها الطبقية والسياسية في النظام العربي عبر نضال تحرري قومي وديمقراطي لتحقيق أهدافنا في تأكيد الذات الجماعية الوطنية والقومية بالمعنى السياسي والاقتصادي والاجتماعي في دولة واحدة هي الدولة العربية الاشتراكية الديمقراطية.

 

- كتائب الفداء العربي[1] الظهور الأول لـ "حركة القوميين العرب":

في أجواء كارثة النكبة، الناجمة عن الهزيمة السياسية والعسكرية التي أوصلتنا إليها الأنظمة الحاكمة في عام 1948 والتي تجسدت في قيام دولة العدو الإسرائيلي وتهجير الشعب الفلسطيني، انتقلت أعداد أكبر من الشباب الطلاب من "مرحلة الحيرة" والتردد إلى تبني العنف "فقد كانت المادة البشرية لمعظم هذه الأحزاب الشباب المتعلم بدرجة أو بأخرى من أبناء الطبقة المتوسطة الصغيرة، وقد توصلت جميعها في نهاية المطاف أسلوب العنف وطمحت إلى طرح قضية عقيدية متكاملة.. واعتمدت التنظيم السري المتماسك وأحياناً شبه العسكري وكانت بهذه الخصائص مجتمعة تميز نفسها بالفعل عن "أحزاب" العهد القديم. في هذا المناخ تشكلت "كتائب الفداء العربي" في ربيع عام 1949 من التقاء ثلاث مجموعات شبابية[2]:

  1. المجموعة الأولى: تكونت في دمشق من عدد من طلاب الجامعة والثانويات في العاصمة وتوصلوا إلى اقتناع بأن ما جرى في فلسطين يتطلب ما هو أكثر من مظاهرات والهتافات الحماسية والصدام مع الشرطة والدرك، وكان جهاد ضاحي قطب هذه المجموعة الرافضة، وعرف وإخوانه بتوجههم القومي – العربي وحماستهم لتحقيق الوحدة العربية وقد التقوا عند رفضهم الانتساب لحزب البعث العربي، الذي كان يركز نشاطه المعارض ضد حكم الرئيس شكري القوتلي وأعوانه من رجالات الحزب الوطني بشكل أساسي.
  2. المجموعة الثانية أو المجموعة المصرية[3]:  تتكون من لاجئين سياسيين شباب تلاحقهم السلطات المصرية لقيامهم بأعمال عنف ضد الضباط والجنود البريطانيين، ومن أبرز أعضاء هذه المجموعة: "حسين توفيق[4]" (الذي قام بتاريخ 5/1/1946 باغتيال أمين عثمان وزير المالية في حكومة الوفد والمعروف بتعاونه مع الانكليز)، وعبد القادر عامر وعبد الرحمن مرسي ومصطفى كمال الدفراوي الذين قاموا بسلسلة أعمال كفاحية مسلحة كان أبرزها إلقاء القنابل على نادي الضباط الإنجليز في الإسكندرية.
  3. المجموعة الثالثة: وتشكلت من طلاب عرب في بيروت، كانوا من نُشَطاء "جمعية العروة الوثقى" في الجامعة الأمريكية، وكان هاني الهندي على معرفة بالمجموعتين السابقتين، فتم لقاء بعد اتصالات عديدة في بيروت آذار 1949 وكان الحاضرون يومها من مصر حسين توفيق وعبد القادر عامر (حفيد أحمد عرابي) ومن سوريا جهاد ضاحي وهاني الهندي ومن فلسطين جورج حبش.

وفي تلك الفترة –كما يقول القائد الراحل جورج حبش-" لم يكن عندنا فكر سياسي وإنما كان هنالك هدف واضح وهو ضرورة القيام بعمليات اغتيال للذين خانوا فلسطين وأضاعوها... وحتى تجربة المحاضرات والندوات من خلال "العروة الوثقى" لم تكن كافية بالنسبة إلى مثلاً لتكوين فكر سياسي متكامل "[5].

كانت القضية أمامنا –كما يضيف الحكيم-  مطروحة بشكل مبسط ومحدد وهي ان هنالك من خان وتخاذل فأضاع فلسطين ويجب أن نتدرب على السلاح ونحصل عليه ونغتال الخائن والمتخاذل. ولقد قمنا بالفعل بمجموعة عمليات مسلحة فالقينا القنابل على بعض السفارات ووضعنا خططا لاغتيال الملك عبد الله وغلوب باشا ونوري السعيد. وفي تلك الفترة كانت التسمية التي أطلقناها على تنظيمنا هي "كتائب الفداء العربي"[6].

وكما يورد محمد جمال باروت[7] فقد "تلخصت الترسيمة السياسية ل "الكتائب" بشكل مبسط، في أن إزالة إسرائيل أمر مرهون بقيام الوحدة العربية، وذلك انطلاقا من "بديهيتها" في أن الهدف من زرع إسرائيل هو منع قيام الوحدة العربية، فكانت الوحدة العربية وتحديدا الوحدة ما بين سورية والعراق و الأردن حتى في ظل عرش هاشمي ثابتا من ثوابت "الكتائبيين"،  وقد فكر الكتائبيون على طريقة الشباب بأن يوجهوا إنذارا للحكام العرب بتحقيق الوحدة العربية أو الموت, وكان تفكيرهم ساذجا للغاية ومبسطا.

يعكس ذلك أكثر ما يعكس رأي المجموعتين السورية والبيروتية، إذ أن مجموعة المصريين كانوا يحتقرون "الثرثرات" الإيديولوجية والسياسية. وفي إطار ذلك الهدف الأسمى: الوحدة العربية الذي سيتم من خلالها تحرير فلسطين، أجمع  "الكتائبيون" على تصفية الحكام العرب الذين اعتبروا مسئولين عن ضياع فلسطين واستهدفوا بشكل خاص كلا من نوري السعيد والملك عبد الله .

وكان المشترك الأعظم ما بين سائر "الكتائبيين" هو الإجماع على أسلوب العنف والانتقام والثأر، واشتركوا جميعا بعدم التمييز ما بين اليهود والصهاينة، واعتبروا "اليهودي" هدفا بحد ذاته لثأرهم، وكانت لدى المجموعة المصرية تربية إيديولوجية صارمة في معاداة اليهود ورفض أي تمييز بينهم وبين الصهانية .

كانت "الكتائب من الناحية التنظيمية منظمة قومية فدائية شبه عسكرية تعتمد نظام الخلايا السرية التي تقوم علاقاتها الداخلية على الانضباط ونظام الطاعة: "نفذ ثم ناقش" الذي يتحول فعليا الى "نفذ ثم نفذ", فكانت أقرب الى شكل محكم من أشكال فرق "الحرس الحديدي".

ولم تكن الخلايا تستطيع أن تتصل ببعضها أفقيا إلا عن طريق قادة الخلايا، وافترض ألا يعرف عضو الخلية أي عضو آخر إلا عن طريق اسمه الحركي، وكان على كل عضو يتم قبوله في "الكتائب" أن يؤدي قسم الولاء على علم الثورة العربية الكبرى (التي قادها الشريف حسين عام 1916 ضد الأتراك الاتحاديين)، وفوقه سيف وقرآن، وهو ما يقترب من أداء القسم على المصحف والمسدس في الجهاز الخاص للإخوان المسلمين في مصر .

أما من الناحية العسكرية، فقد تدرب "الكتائبيون" (على وسائل إلقاء القنابل وتفجير الديناميت) وطريقة حمل الصفائح المملوءة بالمتفجرات، وأين يجب وضع الصفيحة، بحيث يؤدي الانفجار الى تحقيق الغرض المطلوب، وكيف يجب أن يبتعد واضع الصفيحة عن مكان وضعها، وكيف يتم إشعال الفتيل، والرمي بالمسدس ورمي القنابل، ولقد تم كل ذلك في دورات خاصة وعلى أيدي أشخاص مدربين".

لقد كانت "كتائب الفداء العربي" من أوائل الحركات المسلحة القومية التي ظهرت كرد فعل لقيام دولة العدو، حيث " قامت بالعديد من العمليات المسلحة من أهمها تفجير مخزن للسلاح في كنيس يهودي بأحد أحياء دمشق القديمة يوم 5/8/1949 وأدى إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى، كما كانت هناك عمليات أخرى في دمشق وبيروت ومدن أخرى أوردها " قرار الاتهام" الذي أصدره الرئيس (النقيب) مظهر وصفي قاضي التحقيق العسكري بدمشق في عهد حسني الزعيم في تشرين الأول 1950 "[8].

 وفي هذا السياق يذكر بهجت أبو غربية أن قيادة الكتائب كانت "على صلة قوية مع د. أمين رويحة (من سوريا) ود. صبحي أبو غنيمة (من الأردن). ولم تدم هذه الجمعية طويلاً وكشف أمرها عام 1950 وتوقف نشاطها بعد محاولة اغتيال أديب الشيشكلي رئيس جمهورية سوريا"[9].

- هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل:

وفي أواخر عام 1952 قام كل من جورج حبش وهاني الهندي و وديع حداد وأحمد اليماني بتأسيس "هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل" التي كانت أحد أهم واجهات حركة القوميين العرب خلال طورها التأسيسي، لكن "كتائب الفداء العربي" مثلت الظهور الفعلي الأول لـ "الحركة"، إذ ليست "هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل" التي نشطت "الحركة" خلف واجهتها في الطور التأسيسي سوى امتداد عميق لـ "كتائب الفداء العربي" التي كان "مقاومة الصلح مع إسرائيل من أبرز أهدافها، ويفسر ذلك أن "الحركة" ركَّزت في طورها التأسيسي على "مسألة العنف" أو "بناء منظمة كفاحية مسلحة تقارع العدو من خلال العنف"، فينتمي شعار "الثأر" الذي تبنته "الحركة" في إطار منظومتها الرمزية الثلاثية: وحدة، تحرر، ثأر إلى العقلية القومية الفدائية لـ "الكتائب"[10].

فقد "تشكلت النواة الأولى لهيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل في أواخر عام 1952 و عملت بشكل خاص في أوساط من أسمتهم الحركة ب"النازحين العرب" وأصدرت نشرة أسبوعية مؤلفة من ثماني صفحات حملت اسم الثأر و ذلك عام 1953 و قد تغلغلت الهيئة و نشرتها التعبوية التحضيرية في المخيمات و الأوساط الطلابية و ما أن جندت عدداً من الشباب الفلسطيني حتى أوفدتهم لتأسيس خلايا سرية في مخيمات سوريا ولبنان والأردن وكان أبرز هؤلاء أبو ماهر اليماني وأبو عدنان قيس يوزعون نشرة الثأر بسرية تامة، ويقومون بتدريبات كشفية تحت ستار المعسكرات الطلابية و الشبابية و الكشفية و نشطت الهيئة ضد مشروع جونستون [11] الذي كان يتطلب تعاون الدول العربية مع "إسرائيل" و يؤيد ذلك الاتجاه أن جميع أعداد نشرة الثأر للسنوات 1953-1955 لم تخلُ من التعرض لمشروع جونستون"[12].

كما "شكلت الهيئة عدداً من اللجان –في لبنان والأردن خصوصاً - لإقامة الندوات والمحاضرات والمهرجانات الخطابية، وافتتحت بعض الأندية الثقافية، كما قامت بأنشطة اجتماعية في المخيمات وفي 25 آذار / مارس 1956 تمكنت الهيئة من أن تعقد مؤتمرا عاماً لفروعها في المخيمات"[13].

         بقي أن نشير إلى أن المفكر القومي العربي د. قسطنطين زريق كان له الدور الأبرز والفعال في التأثير المعنوي على الشباب القومي آنذاك، خاصة بعد صدور كتابه الأول "الوعي القومي" عام 1939 إلى جانب المفكر القومي ساطع الحصري، الذي غدت كتبه مرجعاً تكوينياً من مراجع حركة القوميين العرب، حتى ستينيات القرن الماضي، حيث بدأت الهيئات القيادية الأولى في الحركة منذ عام 64 حتى عام 1968 تعيش حالة من المتغيرات الفكرية التي انتقلت بها من الفكر القومي العربي التقليدي إلى إطار الفكر الاشتراكي، الأمر الذي  شكل أساساً للتعارضات والتناقضات الفكرية التي ظهرت في صفوف الحركة بعد هزيمة 1967.

- النواة المُؤَسِّسة:

تألفت النواة القيادية المؤسسة لما سيعرف لاحقاً باسم "حركة القوميين العرب" من مجموعة من الطلاب العرب الخريجين أو على أهبة التخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت بداية خمسينيات القرن الماضي، كان أهم شيء اتفقت عليه النواة هو اقتناعهم والتزامهم بتأسيس البناء التنظيمي وعلاقاته الداخلية بما يمكننا تسميته بـ "أخوية" قومية سرية.

 تميزت هذه "الأخوية" القومية تبعاً لذلك، بما يتميز به أي "مجتمع مؤمنين" أي بالمسلكية الطهرانية، والسمو القومي الروحي، والتزمت الإيماني، والانضباط التام، فكانت أدق تفاصيل الحياة الشخصية من زواج أو سفر تحتاج إلى قرار جماعي.

وفي الوقت نفسه –كما يستذكر الحكيم – " طرحنا على انفسنا السؤال الآتي: في انتظار ان ننشئ التنظيم ماذا نفعل؟ هل نهتم بالدراسة ام ننصرف إلى النشاط السياسي؟ في تلك الفترة كانت الساحة تغلي بقضايا عربية وبقضية فلسطين. وكان الحديث حول الأمم المتحدة ووكالة الغوث ومشاريع الاستيطان بهدف حل القضية الفلسطينية، وفوق ذلك كان الحديث حول الاحلاف، بدأ يتردد واتفقنا على انه من الممكن المزج بين الدراسة والعمل السياسي وهذا ما حدث. وبدأنا نصدر نشرة سميناها " الثأر" ومن حين إلى آخر اصدرنا بيانات تحمل، توقيع "الشباب القومي العربي" محدد فيها مواقفنا ومطالبنا" [14].

- المؤتمر التأسيسي الأول: الشباب القومي العربي:

بعد التخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت قرر جورج حبش ورفاقه "إصدار نشرة في بيروت واخرى في الكويت ونشرة في عمان ونشرة في سوريا. ولان كل واحد منهم أصبح له دخل فانه كان يقتطع قسماً من دخله لتمويل النشرات"[15].  ويتذكر الدكتور جورج حبش "أن الدكتور احمد الخطيب أصبح بعد عودته إلى الكويت طبيباً يتقاضى مئة دينار شهرياً، وكان يحتفظ لنفسه بعشرة دنانير من هذا المبلغ ويخصص الباقي للتنظيم؛ الشيء نفسه بالنسبة لي وإلى الدكتور وديع حداد؛ كنا نقتطع القسم الأكبر من دخل عيادتنا في عمان للتنظيم. وكنا في الوقت نفسه نطالب بقية أعضاء التنظيم بأن يفعلوا الشيء نفسه، انطلاقاً من اعتبارنا أن ذلك مقياس مسلكي يعبر عن الاخلاص والصدق والاستعداد للتضحية والايثار والتفاني. وفي خلال أربع سنوات أصبحنا فصيلاً من فصائل حركة التحرر العربي، وفي العام 1956 – 1957 أصبح اسم "حركة القوميين العرب" يدرج مع اسماء بقية حركات التحرر في الوطن العربي"[16].

وفي هذا الجانب، يقول د. جورج حبش "إن قرار إنشاء التنظيم اتخذ في صيف 1951، لكن القرار لا يعني أن التنظيم أنشأ في تلك الفترة لأننا اتفقنا على ضرورة خوض تجربة ذاتية نقرر في ضوئها اعلان انشاء تنظيم على مستوى الوطن العربي ام لا. وفي تلك الفترة كنا مشدودين إلى تعبير " الجماهير" الذي لم يكن له محتوى طبقي آنذاك، وفي افتتاحيات جريدة " الرأي" التي اصدرناها عام 1953 كنا نستعمل تعبير "الجماهير الفقيرة البائسة المعذبة"، ولم نبحث مسألة الاسم أو مسألة تصنيف تجمعنا على أنه حزب أو حركة إلا في المؤتمر الأول الذي عقدناه عام 1956"[17].

ويضيف الحكيم "أنا لا أتذكر تماماً ما إذا كانت المبادرة في اختيار اسم "حركة القوميين العرب" مني، لكنني في أي حال كنت أرى انه من الافضل استمرار العمل تحت هذه التسمية. وبدأنا تحركنا السياسي في الوطن العربي، وفي أكثر من ساحة، وكانت مفاهيمنا تتركز حول موضوع القومية العربية بمعنى أن العرب أمة واحدة ولابد من توحيدهم في دولة واحدة، وكنا في ذلك نرد على كل الحركات الإقليمية والشعوبية في الوطن العربي، وكان هذا منطلقنا الأساسي، كما كنا نرى أن موضوع القومية هو الأساس في تنظيم المجتمعات في العالم. وبالإضافة إلى مسألة القومية طرحنا مسألة التحرر والسيادة والاستقلال للأمة العربية. أما المنطلق الثالث من شعارنا وهو "الثأر" فكان القصد منه استرداد فلسطين"[18].

وفق هذه الرؤى المشفوعة بالإرادة الثورية ، عُقد المؤتمر الأول لـ"الشباب القومي" في 25 كانون الأول 1956 ببيروت، حيث تم فيه الاتفاق على تغيير الاسم واستبداله بالاسم الجديد : "حركة القوميين العرب" وانتخب المؤتمر قيادة أطلق عليها اسم "اللجنة التنفيذية القومية" التي تألفت من أحد عشر عضواً هم: جورج حبش (فلسطيني) ووديع حداد (فلسطيني) وصالح شبل (فلسطيني) وحامد الجبوري (عراقي) وهاني الهندي (سوري) وأحمد الخطيب (كويتي) والحكم دروزة (فلسطيني) وعدنان فرج (فلسطيني) ومصطفى بيضون (لبناني) وثابت المهايني (سوري) ومحسن إبراهيم (لبناني) وعمر فاضل (ابن مغترب عربي في الكاميرون)[19].

ومن " هذه المجموعة الطلابية تشكلت نواة لبداية عمل قومي جديد، ولكن لم تكن لديهم نظرية عامة تقوم على فلسفة واضحة تحدد الأهداف بدقة وترسم المسارات ومراحلها "[20].

وقد تضمن جدول أعمال المؤتمر تقارير عدة أهمها "التقرير السياسي" كما تضمن جدول الأعمال أيضاً التقرير الذي قدم حول الوضع الفكري العام وبشكل خاص الوضع الفكري للتيار القومي وحاجته لبلورة نظرية قومية عامة. كما سجل التقرير الحاجة الماسة لرفع المستوى الفكري للشباب القومي، ووجوب اهتمام أكثر بهذا الجانب، وتقرر تشكيل لجنة تعنى بالشئون الفكرية وتقوم بإعداد دراسات وبرامج ودورات للأعضاء لتحسين الوضع الفكري العام والخاص"[21].

وفي هذا السياق نشير إلى أن هذه المجموعة افتقرت في بدايتها لبرنامج سياسي أو رؤية وأهداف واضحة ومحددة ، فقد " كانت هناك شعارات وأفكار عامة ولم تكن هناك دراسات أو مشاريع ومخططات متبلورة، كانت هناك مبادئ ومنطلقات، وفي الخطوط العامة لرؤيتهم السياسية تساؤلات عامة وأجوبة ينقصها الكثير من المعرفة والثقافة السياسية الجادة"[22]، لكنهم لم يفتقروا للفكرة الجوهرية التوحيدية التي تشكلت في أذهانهم في ضوء نتائج وآثار النكبة عام 48 التي كانت بمثابة " المفتاح برفض الواقع ورفض الهزيمة بعمق وتصميم، وبالتالي الإيمان بوجوب العمل وكراهية الوقوف على الشاطئ متفرجين على ما جرى في فلسطين وما يجري فيها ومن حولها، أما بعد ذلك وخاصة عن "كيف؟ ولماذا؟ وأين؟ ومتى؟ فلم تكن عندهم لها إجابات واضحة، ففي عقول هذه المجموعة، كما في عقول كثيرين غيرهم، أن ضياع فلسطين بهذه السهولة والبساطة أمر يستفز كل شيء فيهم، بل كل ذرة من ذرات وجودهم، كأفراد وكفريق، وقد أعطى ضياع فلسطين، بعداً معنوياً وروحياً هو أبعد من مجرد خسارة الأرض، فلقد أشعرهم ذلك "الحضور" للغزاة بذل ومهانة وطعن للكرامة يصعب تصورها وتصويرها"[23].

" كان عند هذه المجموعة الطلابية حماس وشعور عميق، بل واندفاع حار للعمل، العمل لتوحيد الأمة لتحمي نفسها وبقاءها، وأن تحقيق الوحدة لا يتم ويتحقق من غير عمل وجهد وسعي حثيث ومتواصل، وكان هناك –كما يقول هاني الهندي- "شوق شديد لزيادة معارفنا وثقافتنا القومية والسياسية لأن النجاح يتطلب الوعي والإدراك والفهم، ومن هنا كان الاتفاق على لقاء ثقافي أسبوعي، حيث يكلف الواحد بدراسة كتاب أو مرجع يتناول القومية أو تجارب نضالية لشعوب أخرى، ويقدم المكلف تلخيصاً يطرح للحوار والمناقشة"[24].

كما  كان اقتناع الشباب أن الصهيونية تمثل خطراً حقيقياً متزايداً على الأمة العربية ومستقبلها، ولم ينظر لهذه الحركة العنصرية العدوانية أبداً أنها خطر عابر وقابل للتعامل معه، وكان كتاب "معنى النكبة" للمفكر القومي العربي قسطنطين زريق "مصدراً مهماً للتفكير العميق والتأمل المتأني في أعماق نفوسهم وعقولهم، حيث تركز لديهم توجه راسخ وإدراك واع أن فلسطين لن تكون الهدف الأخير في برامج الاستعمار الاستيطاني ومن هنا اشتد الاقتناع أن فلسطين ليست لأهلها فحسب، بل هي ملك للعرب جميعاً وبالتالي، فإن مسؤولية تحريرها تقع على عاتق العرب كلهم، كان الاقتناع عميقاً أيضاً، بأن ثمة لقاء عميق بين المصالح الاستعمارية والمشروع الصهيوني لتهويد فلسطين والمنطقة في مرحلة تالية"[25]، لكنهم –رغم كل ما تقدم – افتقدوا عند صياغتهم لوثائق الحركة في تلك المرحلة الأولى التركيز على القضية الاجتماعية، إذ  أن حركة القوميين العرب –كما يستذكر القائد الراحل جورج حبش- "اهتمت في تلك الفترة بالمرحلية،  وكان رأينا انه من السابق لأوانه رفع شعار الاشتراكية ، ومنطقنا في ذلك هو أن الثورة العربية تمر في مرحلتين متشابكتين ومتمايزتين في الوقت نفسه. المرحلة الأولى هي مرحلة الثورة السياسية. والمرحلة الثانية هي مرحلة الثورة الاجتماعية. والشعار الذي رفعناه وهو "وحدة. تحرر. ثأر" كان من أجل تحقيق الثورة السياسية. ولم نهتم بالثورة الاجتماعية لان المطلوب في تلك الفترة كان تجميع غالبية الجماهير العربية وحشدها لخوض معركة سياسية هي معركة توحيد الأمة العربية وتحررها واستقلالها. والتحرر في مفهومنا آنذاك لم يكن "التحرر الاجتماعي" وإنما "التحرر السياسي ". كانت المسألة أولويات. وكانت رؤيتنا انه بعد تحقيق الثورة السياسية نقتحم ميدان الثورة الاجتماعية التي كانت تعني في تفكيرنا آنذاك "الثورة الاشتراكية" ونحن في تلك الفترة نعتبر انفسنا جبهة تضم كل القوى الوطنية القومية باستثناء الحركات الدينية، ولأنه في تلك الفترة لم يكن لدينا النهج ال لينين ي الذي يقول بضرورة ايجاد التحالفات حول أي موقف سياسي فإننا اعتبرنا ان الايمان بالأمة العربية هو الحد الأدنى من الأمور التي يجب أن تلتف حوله القوى التي تتألف منها الجبهة"[26] .

وأول نشرة دورية صدرت عنا كان اسمها " الثأر" وكنا نذيل النشرة بتوقيع "هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل".

وعندما قررنا ايجاد فرع لنا في الأردن فكرنا في موضوع العنف المسلح ضد إسرائيل بحيث تتسلل مجموعات إلى داخل إسرائيل وتقوم بعمليات هناك، ولقد حاولنا ذلك في 1955 خلال فترة العمل الفدائي في غزة، وقامت عناصر بتنفيذ بعض العمليات . لكن قيادة غلوب باشا للجيش الأردني آنذاك تصدت لنا فشعرنا أن الأمر ليس سهلاً. ومن هنا تحولنا إلى خوض معركة سياسية ضد النظام في الأردن. وفي تلك الفترة أطلقنا الشعار الشهير، وهو أن الطريق إلى تل أبيب يمر عبر عمان ودمشق وبيروت ... إلخ... أطلقنا الشعار بعدما أدركنا أن الأنظمة الرجعية تمنعنا من التصدي لإسرائيل[27].

وعندما طرح عبد الناصر عام 1959 موضوع الكيان الفلسطيني، تشجعت قيادة الحركة لإحياء الوجود الفلسطيني، أو الهوية الفلسطينية، على القيام بعملية فرز الأعضاء الفلسطينيين منها. ولم تجعل من هؤلاء "فرعاً فلسطينياً" للحركة آنذاك، وإنما انشأت لجنة أطلقت عليها اسم "لجنة فلسطين" من كل من: جورج حبش، ووديع حداد، وأسامة النقيب من فلسطينيي سوريا، وزاهر قمحاوي من فلسطينيي الأردن، وأحمد اليماني وعبد الكريم حمد من فلسطينيي لبنان" [28]، وكانت بالفعل نواة " الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين " فيما بعد "[29].

أما بالنسبة لوسائل التعبير، أو المنابر الإعلامية للحركة، فكما يذكر الحكيم، "كانت منابرنا متنوعة. ففي الأردن عبرنا عن مبادئنا وأفكارنا من خلال صحيفة سميناها "الرأي"، تصدت بعنف للمعاهدة البريطانية وللنفوذ البريطاني في الأردن ولغلوب باشا. ولم تكن " الرأي" هي المنبر الوحيد. كانت هناك أيضاً بعض المؤسسات الجماهيرية المسيسة. ظاهرها العمل الخيري والاجتماعي وباطنها عمل سياسي جدي وتثقيف قومي وثوري للجماهير"[30].

ويمكن القول أن "الرأي" استقطبت قطاعا ً جماهيرياً عريضاً في الأردن، ولعبت دوراً أساسياً في بلورة الهوية السياسية لحركة القوميين العرب في الساحة الأردنية، بعد إصدار "الرأي" في سوريا أصبح للحركة منبر، أصبح لنا وجود سياسي علني من خلال "الرأي" التي أصبحت تقرأ باهتمام في أوساط طلاب جامعة دمشق[31].

لقد كان "شعار الثأر الذي رفعته حركة القوميين العرب و أولته كل اهتمامها و نشاطاتها طوال السنوات السبع من الخمسينيات نابعاً من إيمان الحركة بالقوة كطريق وحيد لحل المشاكل العربية و استرداد الكرامة القومية التي أهدرت في فلسطين، و بقيت الحركة مجتمعاً مغلقاً على نفسه حول شعار الثأر لغاية 1957 حتى أنه أُطلق عليهم اسم جماعة الثأر و جماعة الحديد و النار دلالة على إيمانهم المطلق بالقوة و انغلاقهم حول مفهوم الثأر ، إلا أنه في عام 1957 أثارت قيادة الحركة الجدل حول جدوى رفع شعار الثأر و عدم ملاءمته لمرحلة النضال القومي الثوري الذي تخوضه الحركة، وتم التوصل "إلى حل باستبدال شعار الثأر بشعار استرداد فلسطين"[32].

كان الكفاح المسلح و شعار الثأر هما الحلم الذي ظل يراود الحركة خلال منهاجها المركزي منذ نشأتها و لذا فقد جندت كل طاقاتها و جهودها للحفاظ على القضية الفلسطينية، و قد أسهمت نشرات الثأر و الرأي و الوحدة و الحرية  و الكتب و الكراسات في بلورة الشعور القومي ، و دفع حركة النضال في طريقها إلى ساحة المعركة، فالعمل في دائرة الكفاح المسلح و العمل في مجال النضال السياسي كانا يسيران في خطين متكاملين و كانت الكلمة الداعية و المقالة السياسية تعانق البندقية و تتقدم عليها مرات، وكانت حركة القوميين العرب تزداد انتشاراً جنباً إلى جنب مع انتشار الأفكار الناصرية في الأقطار العربية"[33].

لذلك" كان الفكر التنظيمي لـ"الحركة" من الناحية الإجرائية أو العملية هو فكر قيادتها المؤسسة، من هنا كان هذا الفكر محكوماً بمفهوم هذه القيادة للحارس القومي الحديدي، الذي يفنى في الأمة، كما يفنى الصوفي في الله، ويفسر ذلك أنها لم تُعنَ بـ"الكمية" حسب تعبيرها بل بـ"النوعية"، فحاولت أن تبني في إطارها المخصوص مجتمعاً مكثّفاً قائماً بحد ذاته، لا نجد وصفاً أدق له من وصف "مجتمع المؤمنين" أو مجتمع "الأخوية" العقائدية"[34]، لكن هذا التشدد في مسلكية الأعضاء لم يكن له بعد ديني ، وإنما كان الهدف منه تربية الأعضاء تربية قومية تزرع فيهم نكران الذات والانضباط الصارم .

وفي هذا المنظور " رأى بعض "القوميين" أن "حركتهم" كانت تعلم "الأخلاق"، كدرس ثابت من دروسها، والواقع أن عضو "الحركة" بالنسبة للمجتمع، كان في فهم القيادة المؤسسة اقرب إلى "الكاهن" بالنسبة للمؤمنين الكثالكة، فما كان يصح له أن يكون فاسقاً أو منحرفاً، فكادت المسلكية الشخصية وأخلاقياتها أن تكون درساً يُعلمّ ويراقب وتُصحّح تمارينه وتعطى له العلامات التي تتدخل في تحديد مستوى كفاءة العضو"، وإذا كان "القوميون" قد وجدوا لاحقاً في "الجيفارية" تعبيراً يميّز مسلكيتهم فإنهم في رقابتهم الأخلاقية الصارمة لسلوك العضو كانوا متأثرين بتقليد "عصبة العمل القومي" في الثلاثينات وكان على "القومي العربي" أو "الحركي"، "أن يتصرف كشمس صغيرة، أن يضيء ويدفئ ويجر في مجراه طوقاً من الكواكب التابعة، جيرانه ورفاق عمله""[35].

بهذا المعنى " قامت "الحركة" على نظام الطاعة، وهو ما عبرت عنه نظريتها التنظيمية التي حملت اسم "المركزية المرنة"، وبينت "الحركة" أن "المركزية المرنة" "أقرب بطبيعة الحال إلى المركزية" يحكمها نظاما السرية والطاعة.  ولا تختلف "المركزية المرنة" هنا من الناحية الإجرائية عن التطبيق الإجرائي الفعلي لمبدأ "المركزية الديمقراطية" في الأحزاب الشيوعية، ويفسر ذلك أن "الحركة" لم تجد أي خلاف جوهري بين "مركزيتها المرنة" و"مركزية الشيوعيين الديمقراطية" فاستخدمت بدءاً من عام 1957 مصطلح "المركزية الديمقراطية" في أدبياتها"[36].

كانت الهيكلية التنظيمية للحركة تتكون من عدة مراتب تنظيمية، تبدأ من الحلقة وهي ادنى مرتبة تنظيمية، ثم الخلية وهي أول مرتبة حزبية، ثم الرابطة التي تكون مسئولة عن عدد من الخلايا إما في إطار جغرافي أو في إطار مهني، ثم الشعبة التي تكون مسئولة عن عدد من الروابط ، ثم قيادة الإقليم ، مثل إقليم فلسطين أو الأردن او سوريا أو لبنان ، ثم القيادة القومية أو المركزية للحركة .

" كان عضو "الحركة" يُعزل على مختلف المستويات، وكان على كل عضو أن يكتسب اسماً حركياً مستعاراً، وإلا يسعى لمعرفة أية تفصيلات تتعلق بحياة مسؤوله، فمكان عمل هذا المسؤول وعنوان منزله واسمه الصريح هي كلها أمور يجهلها أعضاء المرتبة التي يكون مسؤولاً عنها، كما أن شخصية المسؤول باسمه الحركي هي محور ترتيب اللقاء أو الاجتماع، ولأن هذا الأمر مخالفة لطبيعة الإنسان بوصفه إنسانا، فان "الحركة" كانت تستدرك ذلك، بإلحاحها على "تمويت" العضو لأي معرفة له بالمسؤول عنه، وبضرورة التعود على مخاطبته باسمه الحركي وليس باسمه الحقيقي، أي بشكل تتحول فيه إجراءات السرية إلى عادة، ومن هنا نشأ في "الحركة" ما يمكن تسميته بعبادة السرية التي تكتنف إلى الآن كثيراً من الأعضاء رغم حل "الحركة" وموتها كصيغة تنظيمية"[37].

وفي هذا السياق نشير إلى أهم المفاهيم التنظيمية التي تميزت بها حركة القوميين العرب آنذاك، كما حددها مؤسسها الراحل جورج حبش بقوله " لعل مفهوم القيادة الجماعية كان وسيبقى أهم المفاهيم التنظيمية، وإذا كان لابد من تحديد حيثيات لهذا المفهوم فإنها كالاتي: الحيثية الأولى: هي منع التسلط والانفراد في اتخاذ قرار والحؤول دون نشوء نزعات فردية وديكتاتورية.

والحيثية الثانية: هي الايمان بانه من خلال قيادة جماعية يمكن ان تتفاعل كل وجهات النظر حول أي قضية مطروحة بحيث يمكن بعد ذلك الخروج بالرأي الأكثر صوابية[38].

ويضيف الحكيم بقوله "بالإضافة إلى مفهوم القيادة الجماعية، هنالك أيضاً مفهوم "القيادة للاكفأ" والغاية من هذا المفهوم هي أنه لا يجوز أن تتحول القيادة إلى موقع دائم أو منصب دائم على أساس الفترة الزمنية التي يقضيها العضو في الحركة. وبفضل هذه الحالة تتجدد القيادات باستمرار، ذلك إن العناصر التي تفشل في التجربة من الضروري ألا تعود تتحمل مسؤوليات قيادية، وان العناصر التي تبرز في صفوف القاعدة ولديها طاقات قيادية من الضروري ان تشق طريقها نحو مواقع القيادة"[39].

من مفاهيم الحركة أيضاً –وفق تحديد الحكيم - مفهوم " القيادة في صف الأعضاء" والقصد من ذلك هو "أن تبقى الصلة حميمة بين القاعدة الحزبية والقيادة، بحيث لا يصبح هناك نوع من القيادات الفوقية أو القيادات البيروقراطية أو القيادات التي تملي أوامرها من فوق،  لابد أن تكون القيادة على صلة وثيقة بالقاعدة الحزبية، وتتم عملية تفاعل مشتركة ومتصلة بين القيادة والقاعدة وقصدنا من هذا المفهوم هو أن تتحسس القيادة آمال القاعدة ومشاعرها وتقبل انتقاداتها وتتعلم منها، وبالمقابل تشعر القاعدة ان قيادتها من صنعها وانها ليست قيادة مكتبية أو بيروقراطية"[40].

كما اعتمدنا أيضاً –كما يضيف الحكيم-  "مفهوم " النوعية قبل الكمية" وركزنا منذ البداية على "النوع" قبل "الكم" منطلقين في ذلك من قناعة بأن عشرة رفاق في مستوى معين ومستعدين للالتزام الكامل والتضحية، أفضل من مئة رفيق بنيتهم النضالية والثقافية غير سليمة، واعتقد أننا في هذه المسألة بالغنا بعض الشيء ، يضاف إلى ذلك أنه بسبب عدم وجود نظام داخلي، تركنا الأمر للاجتهاد ، وهذا المفهوم يختلف تماماً عن المفهوم الذي يعتمده أي حزب ثوري، إذ  أن من حق أي مواطن الانتساب إلى الحزب إذا وافق على البرنامج السياسي ، وعلى النظام الداخلي وأبدى استعداده للالتزام والعمل في مؤسسة من مؤسسات الحزب ، وسدد الاشتراك المالي ، لكن هذه المبالغة  أفادت في الوقت نفسه حيث أن نوعية الأعضاء كانت مثالية . فليس الأمر العادي والسهل أن يكون العضو من النوع الذي تطلب منه الحركة أقصى مستويات التضحية فيوافق من دون أي نقاش"[41].

ومن بين المفاهيم المهمة التي اعتمدتها الحركة "هنالك مفهوم "المركزية المرنة" الذي ينظم العلاقة بين المحطات القيادية الأعلى والمحطات القيادية الأدنى. وكان رأينا أن هنالك مركزاً خطه يجب أن يسود، وتعليماته يجب أن تنفذ، وأن أي خلاف بين القيادة الأولى وأي قيادة أخرى يجب أن يحسم لمصلحة وجهة نظر القيادة الأولى، لأن إيماننا بالمركزية قام على أساس أنها تجعل التنظيم صلباً ومتيناً وقادراً على الحركة الموحدة "[42].

هنالك أيضاً مفهوم "نفذ ثم ناقش" المرتبط بمفهوم "المركزية المرنة" والذي ينظم العلاقة بين العضو والقيادة والقصد من مفهوم " نفذ ثم ناقش" ضمان الانضباط الصارم داخل التنظيم بحيث يستطيع التحرك في الاتجاه الذي يريده"[43].

وأخيراً، مفهوم "النقد والنقد الذاتي"، حيث يقول الحكيم "كنا نرى أن هذا المفهوم هو الطريق إلى تصحيح أخطاء التنظيم وأخطاء القيادات، كنا نرى أن الخطأ أمر طبيعي وأن أي شخص أو أي تنظيم لابد أن يقع في أخطاء، ووصلنا إلى مفهوم "النقد والنقد الذاتي" بحيث تقوم الحركة من وقت إلى آخر بتقويم المراحل السابقة، فإذا اكتشفت خطأ أو أخطاء حدثت تقوم بعملية نقد، والذي كان يحدث هو أن كل اجتماع حزبي كان ينتهي بالنقد والنقد الذاتي حيث يقف العضو أو المسؤول ويسجل الأخطاء التي وقع فيها".

أما بالنسبة إلى مبدأ وآليات الانتخابات التي لم تكن مطبقة في تلك المرحلة، فقد كانت وجهة نظر قيادة الحركة أنها "تأخذ شرعيتها من نجاحها ومن قدرتها على الاستمرار في العمل ولا تأخذها من عملية انتخابية تقوم بها القاعدة. وإلى ذلك هنالك العنصر الأمني لأنه في العملية الانتخابية تصبح كوادر الحركة وقياداتها معروفة"[44]، وكما يستطرد  د. جورج حبش "كان رأينا أن القيادة المركزية هي الاقدر من القاعدة الحزبية على ذلك ، لان القاعدة الحزبية يطرأ عليها هبوط وصعود، أما القيادة المركزية فثابتة لأنها القيادة المؤسسة،  وهذه القيادة تستطيع أن تراقب كوادر الحركة وتنقل منها إلى الصف القيادي الأول أي عنصر صاعد، وهذه الخصوصية تميزت بها البنية التنظيمية لحركة القوميين العرب التي  لم تكن القاعدة تساهم فيها بشكل مباشر، بمعنى أنها لم تأت وتفرض عضوا ما أو اعضاء معينين انما ساهمت بشكل غير مباشر من خلال الاعراب عن رضاها أو عدم رضاها عن الوضع القيادي، وفي ضوء الانتقادات التي توجهها القاعدة أو الرضا تواصل القيادة مسيرتها، لكن الذي حدث –كما يضيف الحكيم - هو أننا بالغنا بالنسبة إلى الجانب المركزي فجاء على حساب الجانب الديمقراطي، وبعد ذلك بدأنا نعمل على أساس أن القيادة المركزية يمكن أن تمارس دورها من دون إلغاء حق القاعدة في تحديد القيادات وابداء رأيها بين الحين والأخر في القيادات "[45].

افترض ذلك " قيام تنظيم حديدي لا تجنُّح ولا تيارات فيه، إلا انه وكما هي العادة، في الأحزاب السرية، فان الأجنحة فيها تتكاثر طرداً مع حدة الضغط المركزي البيروقراطي ، لكن الحركة قامت نظرياً  على مبدأ "القيادة الجماعية" الذي لا يختلف مضمونه هنا عن المضمون الذي أخذه في الأحزاب الشيوعية، غير أن "الحركة" اجتهدت نسبياً في مبدأين ميّزاهما هما: مبدأ القيادة للأكفأ أو ما كان يتم التعبير عنه في الثقافة الشفوية داخل أسوار "الحركة" ب"الحركة الصاعدة النازلة" يعني ذلك وفق "الحركة" أنها في تحديدها للمسئولين القياديين ولأعضاء المراتب القيادية، فإنها لا تأخذ أي مقياس بعين الاعتبار، غير مقياس الكفاءة القيادية، بمعزل عن السن أو الدرجة العلمية أو النفوذ العائلي أو القبلي أو المالي أو الأقدمية في "الحركة". أما المبدأ الثاني: مبدأ القيادة في صف الأعضاء، فاعتمد على أن تعيش القيادة وسط الأعضاء لا أمامهم ولا فوقهم ولا بمعزل عنهم، وانسجاما مع ذلك كان عدد من أعضاء القيادة القومية مجرد أعضاء في قيادات الإقليم"[46].

 

 


[1] يتفق معظم الباحثين والمؤرخين  على أن هذه المنظمة هي وليدة النكبة حيث نذرت نفسها من أجل تحرير فلسطين ، وكانت تحيط نفسها بسرية بالغة مما جعل منها منظمة شبه عسكرية . ورغم أن وثائق "حركة القوميين العرب" لا تشير من قريب أو بعيد إلى صلتها ب "كتائب الفداء العربي" , فإنه –كما يقول جمال باروت- يمكن اعتبار الكتائب : بمثابة الظهور الفعلي الأول للحركة . إذ كان اثنان من أبرز أعضاء النواة القيادية المؤسسة ل "الحركة"  (هما جورج حبش فلسطيني , وهاني الهندي سوري ) إذ ليست "هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل" التي نشطت "الحركة" خلف واجهتها في الطور التأسيسي سوى امتداد عميق ل "كتائب الفداء العربي" التي كان مقاومة الصلح مع إسرائيل من أبرز أهدافها , ويفسر ذلك أن "الحركة" ركّزت في طورها التأسيسي على "بناء منظمة كفاحية مسلحة تقارع العدو من خلال العنف".

[2] هاني الهندي وعبد الإله نصراوي - حركة القوميين العرب نشاتها وتطورها 1951 إلى 1968 – الكتاب الأول – الجزء الأول – مؤسسة الأبحاث العربية – بيروت – ط1 -2001 – ص62-64.

[3] كان جميع أعضاء هذه المجموعة ينتمون إلى حزب" مصر الفتاة" الذي برز وانتشر في مصر عام 1937 بزعامة أحمد حسين، وقد تم ملاحقتهم واعتقالهم ، لكنهم استطاعوا الفرار من المعتقل واللجوء السياسي إلى سوريا ، حيث تعرفوا على المجموعات الأخرى.

[4] هو ابن لوكيل وزارة الدفاع المصرية آنذاك ، انقطعت علاقته مع الكتائب ومع حركة القوميين العرب منذ أوائل الخمسينيات ، وكذلك الأمر بالنسبة لعبد القادر عامر .

[5] فؤاد مطر – حكيم الثورة – ط1- لندن 1984 –ص28.

[6] فؤاد مطر – حكيم الثورة – ط1- لندن 1984 –ص28.

[7] محمد جمال باروت -  حركة القوميين العرب  المركز العربي للدراسات الإستراتيجية  دمشق  1997  ط1  ص  25.

[8] هاني الهندي وعبد الإله نصراوي - مصدر سبق ذكره – ص66.

[9] من مذكرات المناضل بهجت أبو غربية – من النكبة إلى الانطلاقة (1949 – 2000) – المؤسسة العربية للدراسات – بيروت – دار الفارس للنشر – ط1 – 2004 – ص374.

[10] محمد جمال باروت -  مصدر سبق ذكره ص29.

[11] كان هذا المشروع هو الأساس الذي اتخذه المبعوث الرئاسي الأمريكي الخاص إيريك جونستون عام 1953 لإزالة النزاعات الناشئة عن المشاريع المتضاربة لاستغلال مياه نهر الأردن و الخروج بمشروع مائي جديد و تمثل الهدف السياسي الأمريكي منه تكريس الاعتراف بدولة العدو الإسرائيلي في مقابل العمل على تصفية القضية الفلسطينية و ذلك عن طريق توطين اللاجئين في سيناء والبلدان العربية ،  و استمرت محادثات جونستون ثلاث سنوات و انتهت باسدال الستار على المشروع بعد أن أكد الشعب الفلسطيني رفضه ومقاومته لمشروع التوطين عبر المظاهرات الشعبية في قطاع غزة بتاريخ 28/2/1955  والضفة والشتات ضد أمريكا وإسرائيل والأنظمة العربية مما اضطر الانظمة العربية ومصر بالذات سحب تأييدها لمشروع التوطين آنذاك.

[12] د. سعد مهدي شلاش - حركة القوميين العرب و دورها في التطورات السياسية في العراق 1958-1966 - مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – 2004 – ص249

[13] المصدر السابق – ص249

[14] فؤاد مطر – حكيم الثورة – ط1- لندن 1984 - ص34

[15] حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره - ص39

[16] حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره - ص39

[17] حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره – ص40

[18]  حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره - ص45

[19] هاني الهندي وعبد الإله نصراوي - حركة القوميين العرب نشاتها وتطورها 1951 إلى 1968 – الكتاب الأول – الجزء الأول – مؤسسة الأبحاث العربية – بيروت – ط1 -2001 –ص148 ، وكذلك محمد باروت – حركة القومين العرب – المركز العربي لدراسات الإستراتيجية – دمشق – 1997 –ص69.

[20] هاني الهندي وعبد الإله نصراوي - حركة القوميين العرب نشاتها وتطورها 1951 إلى 1968 – الكتاب الأول – الجزء الأول – مؤسسة الأبحاث العربية – بيروت – ط1 -2001 – ص79.

[21]  المصدر السابق – ص148

[22] المصدر السابق -  ص79.

[23] المصدر السابق ص79-80.

[24] المصدر السابق ص80.

[25] المصدر السابق ص81

[26] حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره - ص46-47

[27] حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره -  ص60

[28] سامي يوسف أحمد - الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 1967 – 1987 – رسالة دكتوراه – القاهرة – 2007 – ص37

[29] حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره -  ص61

[30] حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره -  ص61

[31] حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره -  ص62

[32] د. سعد مهدي شلاش - حركة القوميين العرب و دورها في التطورات السياسية في العراق 1958-1966 - مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – 2004 – ص249-250.

[33] المصدر السابق - ص262

[34]  محمد جمال باروت – حركة القوميين العرب – المركز العربي للدراسات الإستراتيجية – دمشق – 1997 – ط1 – ص76.

[35]  المصدر السابق – ص77.

[36] المصدر السابق – ص77.

[37]  المصدر السابق-  ص78.

[38] فؤاد مطر – حكيم الثورة – ط1- لندن 1984 - ص50

[39] حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره -ص50

[40] حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره - ص50 -51

[41]  حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره -ص 51

[42]  حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره - ص52

[43]  حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره - ص52

[44] حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره - ص53

[45] حكيم الثورة – مصدر سبق ذكره - ص54

[46]  محمد جمال باروت – مصدر سبق ذكره – ص79.