مبادرة "طحن" الماء

حجم الخط

بعد القمة الثلاثية التي عقدت في القاهرة بين قادة مصر والأردن والسلطة الفلسطينية؛ يجري الحديث عن مبادرة مصرية لتحريك المياه الراكدة في العملية "السلمية" المتوقفة بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال منذ عشر سنوات... والمبادرة تشرف عليها المخابرات المصرية، والتي اوكلت إليها الإدارة الأمريكية إدارة ملف القضية الفلسطينية من بعد معركة "سيف القدس " التي هشمت دولة الاحتلال عسكرياً وسياسياً، وهي تعود مجدداً من أجل التوسط في صفقة تبادل الأسرى ما بين دولة الاحتلال وحركة حماس، والحديث يدور عن تقدم جوهري رغم نفي حماس لذلك، وبالمناسبة مصر كانت إحدى الأطراف الراعية لصفقة الوفاء للأحرار التي جرت في تشرين أول/2011، والتي خرقتها إسرائيل في 2014 عندما أعادت اعتقال 53 أسيراً ممن تحرروا في تلك الصفقة ولم تحرك مصر ساكناً في هذا الاتجاه.
وقبل الولوج إلى ما يسمى بالمبادرة المصرية لحلحة العملية السياسية بين السلطة ودولة الاحتلال، لا بد من التذكير بمبادرة السلام العربية "الصنمية" المقرة في قمة بيروت 27 و28/آذار/2002، "الأرض مقابل السلام"؛ مصر والسعودية من أطرافها الرئيسية، بل السعودية صاحبة المبادرة، هذه المبادرة كان يجري ترحيلها من قمة عربية إلى أخرى والهبوط بسقفها لكي تقبل بها إسرائيل، تلك المبادرة التي قال عنها شارون آنذاك بأنها لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، حيث رد عليها باقتحام الضفة الغربية وحصار الرئيس الراحل عرفات في مقر المقاطعة برام الله... واليوم انتهت تلك المبادرة في ظل انبطاح وانهيار وتعفن النظام الرسمي العربي، وهرولته نحو التطبيع وبناء الأحلاف الإستراتيجية الأمنية والعسكرية مع دولة الاحتلال إلى التطبيع الشامل مقابل استسلام عربي رسمي شامل.
اليوم بوجود الإدارة الأمريكية الحالية، والتي كان فيها الرئيس الأمريكي بايدن الرجل الثاني في إدارة أوباما، والتي لم تبع الفلسطينيين  سوى الأوهام والشعارات والكذب والوعود الفارغة، مقابل الدعم اللامحدود لدولة الاحتلال عسكرياً ومالياً وأمنياً والانحياز العملي لمواقفها واجراءاتها على الأرض... أمريكا اليوم بعد خروجها وانسحابها المذل من أفغانستان، وما يسجل من تراجع وانكفاء للدور والوجود والمشروع الأمريكي على مستوى العالم والإقليم والمنطقة؛ تعمل على إجراء ترتيبات في المنطقة والإقليم تحافظ فيها على وجودها ودورها ومصالحها، وعلى بقاء دولة الاحتلال متفوقة ومتسيدة في المنطقة، وتعود مجدداً كما هي إدارة أوباما الديمقراطية إلى بيع الوهم والشعارات والوعود الفارغة إلى شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية، فهي تريد العمل على الاستمرار في إدارة الصراع  و"التفاوض من اجل التفاوض".. ولذلك نجد بأن هناك أحلاف تبنى؛ حلف "الشام الجديد" بدون سوريا ولبنان؛ حلف "جوار العراق" إحياء لحلف بغداد عام 1955، وحلف"ابرهام" التطبيعي وقمم ثلاثية عراقية أردنية مصرية واخرى مصرية اردنية فلسطينية تعقد الهدف الأساس منها انقاذ أمريكا ودولة الاحتلال، وليس لا إنقاذ فلسطين ولا شعبها ولا منحه حقوقه بالحرية والاستقلال وحق تقرير المصير والدولة المستقلة... فالأطراف الثلاثة التي جرى التنسيق بينها، لم تعد من اللاعبين المقررين في المنطقة؛ سلطة تتعمق أزماتها الاقتصادية والمالية وتكاد تفقد سيطرتها على الأوضاع في الضفة الغربية، وهناك حالة  من فقدان الثقة بها، حتى من داخل أركان بيتها... والأردن جرى تحويله إلى قاعدة عسكرية كبرى يجري فيه تجميع القواعد والأسلحة والمعدات العسكرية الثقيلة الموجودة في أكثر من دولة خليجية والعراق؛ ضمن اتفاقية تعاون عسكري أردني أمريكي، ومصر السيسي عاجزة عن الوقوف في وجه أثيوبيا التي عمدت إلى تعبئة خزان النهضة في مرحلته الثانية؛ دون اكتراث بالموقف المصري أو حتى بما صدر عن مجلس الأمن الدولي بهذا الخصوص... ولذلك مصير المبادرة المصرية، والتي يشرف عليها جهاز المخابرات المصرية، في ظل حكومة إسرائيلية هشة قابلة للسقوط، ولا تستطيع القيام بأي خطوة سياسية، وهذا  ما عبر عنه بينت بشكل مباشر وكذلك لقاء عباس- غانتس. بينت قال بأنه لا للاتفاق مع الفلسطينيين ولا عملية سياسية معهم، ولا دولة فلسطينية.. فقط مشروع اقتصادي محروساً أمنياً ومجرد من البعد السياسي الوطني، وتعزيز للتنسيق والتعاون الأمني.. وبايدن يعيش مشاكله الداخلية والخارجية بعد الانسحاب المذل لجيشه والهزيمة الكبرى في أفغانستان، والخوف من مواجهة نفس المصير في العراق وسوريا، وخاصة بان بوادر مشروع حصاره الاقتصادي لسوريا ولبنان؛ بدأت تتكسر بعد استجلاب النفط من إيران على يد جماعة السيد، وزيارة الوفد الكبير اللبناني بقيادة وزيرة الدفاع والخارجية اللبنانية زينه المر لسوريا بعد الإشارة الأمريكية من أجل استجرار الكهرباء الأردنية والغاز المصري عبر الأراضي السورية وموافقة سوريا على ذلك، وليصار إلى عقد لقاء غداً في عمان لوزراء الطاقة المصري والأردني واللبناني والسوري للاتفاق على ذلك.
ولذلك أنا اعتقد بأن تلك المبادرة التي ترعاها مصر بتفويض أمريكي ودعم أوروبي غربي؛ لن يكون حالها بأفضل من حال المبادرة العربية للسلام، فأي مبادرة تحتاج إلى ميزان قوى يعمل على ترجمتها إلى فعل وتطبيق في أرض الواقع، وإلى إلزام إسرائيل باحترام قرارات الشرعية الدولية والعمل على تنفيذها لا العودة للتفاوض عليها.. وأن يكون هناك استعداد لفرض عقوبات دولية عليها، وهذا غير متوفر لا أمريكياً ولا أوروبياً غربياً والنظام العربي الرسمي في أسوأ مراحله؛ غير مالك لا لإرادته ولا لقراره السياسي، وخاصة إننا نقف أيضاً أمام نظام سياسي إسرائيلي مأزوم وحكومة إسرائيلية قابلة للسقوط في أي لحظة، ورئيس أمريكي كبير في العمر يواجه مشاكل داخلية وخارجية، وهذا قد لا يسعفه للتجديد له لولاية ثانية.. ولذلك المبادرة المصرية بدون أرجل وتفتقر إلى القوة القادرة إلى ترجمتها إلى فعل في أرض الواقع؛ يلزم إسرائيل بقبولها.. وستكون قمة "طحن" الماء.