المهمة المزدوجة والطموح الثوري

حجم الخط

في الوقتِ الذي تشهدُ فيه منطقتنا تمركز المخطّطات الإمبريالية الصهيونية التي تهدف إلى إعادة ترتيبها لدمج الأنظمة العربيّة الرجعيّة العميلة، والتابعة للمركز الإمبريالي، وبشكلٍ خاصٍّ للإمبرياليّة للأمريكيّة، في تحالفٍ إقليميٍّ يشمل "إسرائيل" والمؤسّسات الصهيونيّة العالمية لمواجهة ما يدعونه من "الأخطار التي تهدد الأمن والاستقرار والمصالح المشتركة في المنطقة"، يتم إيلاء "سلطة" اليمين الفلسطيني الأوسلوي القابعة في المقاطعة اهتمامًا استثنائيًّا وتجهيزها بنيويًّا استعدادًا كي تؤدي الدور المطلوب منها، كمعولٍ وأداةٍ للثنائي الإمبريالي الصهيوني، لتنفيذ ما يطلب منها، وخاصّةً في مجال إزالة العوائق الذاتيّة التي تعترض هذا المخطّط فلسطينيًّا وعربيًّا، مما يجعلها أكثر إصرارًا من أي وقتٍ مضى على التمسّك باتفاقيّاتها وعلاقاتها مع الصهاينة، بحجّة أنّ هذا يأتي في إطار الالتزام بقرارات الشرعيّة الدوليّة للإبقاء على "الاعتراف بمنظّمة التحرير، وتقديم الدعم للسلطة؛ لأنّ إلغاء الاتفاقيّات مع إسرائيل وسحب الاعتراف بها سيؤدي إلى إلغاء الاعتراف الدوليّ بالمنظّمة" كما جاء في مقابلة الرجوب مع الميادين في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر.

إنّ الممثّلين السياسيّين للبرجوازيّة غير الوطنيّة الفلسطينيّة، اليمين الفلسطيني الأوسلويّ، المنتمين لأطرٍ سياسيّةٍ مختلفةٍ أهمّها حركة "فتح" ما زالوا يحتلّون موقع "اللاعب" الأساسي عربيًّا، هذا "اللاعب" رغمَ ضعفِهِ ووهنه، إلا أنّه في الحقيقه ينفّذُ الدور الأهمّ في هذه المرحلة، لأنّه الطرف الأوحد الذي يعطي ليس فقط  "شرعيّة" للتمدّد الاستعماريّ الصهيونيّ خارجَ فلسطين، بل يمنحُ الأنظمة العربيّة الرجعيّة طاقةَ دفعٍ جديده، لم توفّرها لهم الاتفاقيّات التي وقّعها نظامُ السادات مع العدوّ، التي تعرف باتفاقيّات "كامب ديفيد"، التي رغم أهمّيتها الاستراتيجيّة للعدوّ، كأرضيّة للتشييد عليها، ورغم ما أحدثته من انهيارٍ رسميٍّ عربيٍّ ورغم اعتراف أكبر نظامٍ عربيٍّ بالكيان الصهيوني، إلّا أنّها منذ أن تمَّ توقيعها في عام 1978، حتى عام 1993، عام توقيع صك استسلام اليمين "الفلسطيني" للعدو، المعروف باتفاقيات أوسلو، لم تستطع اتفاقيات كامب ديفيد أن تخترق الجدار الشعبي العربي الذي ما زال يرفض الوجود الصهيوني بكل أشكاله في الأرض العربية، مما حَدّ من تمددها الرسمي عربيًّا، وبدت وكأنها تراوح مكانها وتدخل في أزمة روتين لا يمكن التعايش معه لفترةٍ طويلةٍ، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، وتكريس نظام القطب الأوحد، الأمريكي، الذي ازدادت شهيته لتعميق هيمنته على المنطقه، خاصةً على الوطن العربي، بما يتلاءم مع احتياجاته الجديدة الاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة، للتمكّن من نهب كلّ خيراتها التي يحتاجها الاقتصاد الإمبريالي للخروج من أزماته المستعصيّة.

إذنْ، المستهدف استراتيجيًّا من إقامة "إسرائيل" ومن كل هذه المشاريع والمخططات التي يتكامل قديمها مع جديدها، هي الخيرات المادية الهائلة التي يحتويها الوطن العربي، والتحكم العسكري بجغرافيته الملائمة لضبط واحتواء مواقع جغرافية مهمّة عالميًّا، دون السيطرة عليها لا يستطيع النظام الرأسمالي العالمي أن يحقّق هيمنته الكونيّة، لذا يعمل أصحاب هذه المشاريع على القضاء على العراقيل والمعوقات كافةً التي تمنع نجاحهم، أي إجهاض الحركات الثوريّة والنضاليّة في كلّ قطر ٍ عربيٍّ ووضعها أمام خيار الإبادة أو الاحتواء، وتفتيت الدولة الوطنية وتدميرها من خلال تمزيق نسيجها الاجتماعي، إذا تطلب الأمر ذلك، في وقتٍ لم تعد فيه الأنظمة العربية الرجعية مجرد أنظمةٍ متواطئة، بل لاعبٌ مباشرٌ وحليفٌ علنيٌّ للكيان الصهيوني، وقد تجلّى هذا في دورها المباشر، ماليًّا وعسكريًّا، أثناء ما سمي بالربيع العربي الذي مهّد لاتفاقيات "الصلح وحسن الجوار والتطبيع" مع الكيان الصهيونيّ، بأوامر ورعاية إمبرياليّة أمريكيّة، وكما يعلمنا تاريخنا النضالي هنالك ترابطٌ عضويٌّ بين النضال الوطنيّ الفلسطينيّ والقوميّ الشعبيّ العربيّ، أدّت فيه المقاومه والكفاح المسلح دورًا رئيسيًّا في تصليبه وتماسكه، فمن خلال النضال من أجل تحرير فلسطين يتمُّ استنهاضُ الجماهير العربيّة وتعبئتها لخوض المعارك المشتركة، لهذا وضعت مهمة محاربة المقاومة المسلحة والقضاء عليها على رأس أولويات الثالوث المعادي، أحيانًا بالضرب المباشر وأخرى بتأليب البيئة الحاضنة لها، والأخطر محاولة تقطيع أوصالها، وحجز علاقاتها وإعاقتها مع حلفائها على المستويين الشعبي والرسمي، في الوطن العربي والإقليم، الرافضين للوجود الاستعماري ولمشاريعه ويمارسون المقاومة ضده بكل أشكالها.

في ظل هذا الواقع، فلسطينيًّا وعربيًّا، طرحت قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، على نفسها وعلى الحركة الوطنية الفلسطينية وعلى فصائل حركة التحرر الوطني ـ القومي العربية، مهمة تشكيل جبهة مقاومة فلسطينية لمواجهة مرحلة أوسلو وجبهة مقاومة عربية ضد التطبيع، الذي يعني في الجوهر مقاومة تعميم نهج السادات واتفاقيات كامب ديفيد، هذا الارتقاء البرنامجي لم يأت من فراغ، إنه تعبيرٌ أصيلٌ عن الفهم السياسي العميق والواعي لطبيعة المشاريع الإمبريالية الصهيونية منذ ما قبل وعد بلفور حتى الآن، وتأكيدٌ على الترابط الموضوعي والديالكتيكي بين الوطني والقومي في النضال، وعي هذه الحقيقة هو ما ميز الجبهة عن غيرها من القوى الفلسطينية، بل ربّما هي القوة السياسية الوحيده التي تتمسك بهذه الاستراتيجية منذ تأسيسها، كما عبّرت عنه استراتيجيتها السياسية والتنظيمية الصادره عن المؤتمر الثاني عام 1968، التي اخترقت بها، منذ ذلك الحين، الاستراتيجية اليمينية الانغلاقية والبراغماتية التي تقوم على أساس "عدم التدخل في الشؤون العربية الداخلية"، كي لا يتدخل العرب في شؤوننا الداخلية، ونحافظ على "قرارنا المستقل"، الذي هو في الحقيقة شعار شعبوي لم يطبق أبدًا، ويستعمل للتضليل والتأليب على العروبة عند الحاجة، لإحداث مزيدٍ من الانفصال والتباعد عن النضال التحرّري القوميّ العربيّ.

إنّ نجاح  مهمّة تشكيل الجبهتين كمهمه مزدوجة، عدا عن إنه يحتاج إلى جهدٍ استثنائيٍّ وطاقمِ عملٍ استراتيجيٍّ متخصٍّ ودائم، خاصّةً، على المستوى العربي، يحتاج أيضًا إلى إرادةٍ جديّةٍ حازمة، وتشكيل نواةٍ تأسيسيّةٍ عربيّةٍ من القوى الأكثر اقتناعًا وحماسًا لقيام هذه الجبهة التي بلا شكّ، في حال تأسيسها، ستسهم في إعادة بناء حركة التحرر الوطني العربية واستنهاضها، لأنّ النضال ضد التطبيع لن ينجح إن لم يرتبط بالنضال ضد المشاريع الإمبريالية الصهيونية في الوطن العربي، وليس فقط لفضح تأثيراته على النضال والقضية الفلسطينية، لأنّ التطبيع هو الوسيلة الأشمل والأقلّ كلفة لنهب وسرقة خيرات وطننا العربي وتكريس الكيان الصهيوني كقوة مركزية وكيلة للإمبريالية في تأمين استمرار هيمنتها واحتكارها للوطن العربي.

أيضًا فلسطينيًّا الأمر ليس سهلًا، وتبدو هذه المهمة أكثر تعقيدًا وصعوبة، بسبب تشابك بعض المصالح لقوى ذات تأثير كبير في المعسكر المقاوم (حماس) مع قوى أساسيّة في معسكر السلطة والتسوية (فتح)، قاسمها المشترك "السلطة". حركة فتح تعدّ أنّ جهودها وسياستها وبرنامجها هي التي أقامت السلطة "الوطنية" في الأراضي "المحرّرة"، كما أطلق عليها رئيس السلطة السابق والمؤسّس ياسر عرفات لخداع الجماهير، لأنّ الأراضي التي أقيمت عليها سلطة الحكم الإداري الذاتي هي في الحقيقة أراضي ما زالت محتلّة، تراجع منها الاحتلال وأعاد تموضعه تكتيكيًّا "خارجها" بعد إحساسه ولمسه للتهديد الحقيقي على وجوده الذي أحدثته الانتفاضة الشعبية عام 1987، ليسمح لهذه "السلطة" إدارة شؤون الفلسطينيين تحت رعايته ورقابته في إطار تقاسمٍ وظيفيٍّ إداريّ، مارسه مع النظام الأردني في السابق، بحيث لا يمكن لها أن تتغير أو تتبدل أو تتطور إلا بقرار منه، كما أنه لا يسمح بضعفها وتراجعها إلى درجه يمكن لها أن تهدد مصالحه ووجوده من جديد، لأنه يعلم علم اليقين أن تغير موازين القوى لصالح الفلسطينيين، بما يسمح بتحرير أي جزءٍ من الأراضي الفلسطينية، وخاصةً المحتلة منذ العام 1967، بالنضال ودون مساومات، لا يقرر فقط مصير النضال الفلسطيني استراتيجيًّا، بل يتقرر في الوقت نفسه مصير وجوده ذاته على الأرض الفلسطينية، هذا التشابك الاستراتيجي يفرض على العدو العمل بلا هوادة ضد حركة المقاومة المسلحة، بالقمع وحرب الإبادة تارة، وبالاحتواء والتدجين تارة أخرى، ومثال غزة والضفة المحتلة واضحٌ تمامًا للعيان، حيث يمكن اعتبار تحصين قطاع غزة عسكريًّا من أهم إنجازات العمل المسلّح الفلسطيني، الذي أخذ يشكّل رافدًا ودعمًا لكلّ النضال المقاوم في كلّ فلسطين، الأخذ في إشهار تكامله وترابط حلقاته رغم أنف الاحتلال والمتعاونين معه.

حركة المقاومة والثورة الفلسطينية إن أدركت فصائلها المقاتلة هذه الحقيقة، عليها أن تعمل أيضًا، رغم الظروف الصعبة والمعقدة، من خلال جبهةٍ مقاومةٍ وطنيّةٍ تضع كل إمكانيّاتها العسكرية والسياسية والمالية في خدمة هذه الاستراتيجية، وأن لا تضيع وقتها في مماحكات من نوع: هل المدخل للوحدة هو المنظمة أم الانتخابات أم الوساطات أم الاتفاقيات السابقة التي تطوى وتقرأ عليها الفاتحة بعد توقيعها، أي يجب تحديد الحلقة المركزية في الصراع الدائر الآن في الأراضي المحتلة، وخاصةً في الضفة الفلسطينية، الذي تنحاز فيه السلطة وأجهزتها للاحتلال.

على الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين صاحبة الخبرة الغنيّة في النضال، والعمل السياسيّ الوطنيّ، أن تطرح ليس فقط الفكرة المتعلّقة بإقامة جبهةٍ مقاومةٍ وطنيةٍ بمعناها النضاليّ وتطالب الآخرين بتنفيذها، بل عليها أن تلحق مبادرتها بوضع برنامجٍ نضاليٍّ متكاملٍ يوضّح الضرورة التاريخية لتشكيل هذه الجبهة، في هذه المرحلة التاريخيّة والمفصليّة من نضال شعبنا من أجل حماية الإنجازات العسكريّة في قطاع غزه وتطوير النضال والمقاومة المسلّحة في الضفة كمهمة مركزية في هذه المرحلة. إن طرح استراتيجيةٍ نضاليّةٍ متكاملةٍ يضع القوى الفلسطينيّة المقاومة، خاصّةً حركة حماس أمام مسؤوليّاتٍ تاريخيّةٍ حقيقيّةٍ لحسم أسلوب العمل الذي يجب، وبالضروره أن يتماشى والهدف المركزي في النضال من أجل التحرير، وليس من أجل "السلطة" التي في النهاية يملكها طرف وليس اثنان.

 إن النجاح في قيام جبهة المقاومة الوطنية الفلسطينية، سيسهم ويحفّز قيام جبهة المقاومة العربيّة للنضال ضد التطبيع وضد الإمبريالية والصهيونية، وسيسمح لقوى وفصائل وأحزاب حركة التحرر الوطنية العربي من استلام زمام المبادرة من جديدٍ لتحقيق أهدافها وانتصار برامجها.