تشي جيفارا: الرجل الذي تصرف حسب معتقداته وظل وفيا لكل ما آمن به

حجم الخط

ما تزال شخصية جيفارا التاريخية ملهمة ومحترمة، شخصية ثوري أممي، مستقطبة للمخيلة الجماعية في هذا الخصوص والعديد من السير الذاتية والمذكرات والمقالات والأفلام الوثائقية والأغاني، في حين أن صورته المأخوذة من طرف البرتو كوردا والمسماة غيريليرو هيروويكو (ويعني بالعربية بطل حرب العصابات)، قد اعتبرت الصورة الأكثر شهرة في العالم. 
كان تشي جيفارا يمتاز بالثقة بالنفس، ولكن أبدا لم يصل إلى حد الغرور والتكبر، لقد كان الجمهور يشعر بأن جيفارا واحدا منهم يعاني مثلهم ويحلم مثلهم. وخلال الثورة المسلحة في كوبا شكل تشي جيفارا تحالفا قويا مع الحزب الاجتماعي الشعبي (وهو الحزب الشيوعي في كوبا)، وكان ذلك عاملا من العوامل المهمة التي أدت إلى تحول نظام كاسترو إلى الشيوعية.      
أرنستو تشي جيفارا، والمشهور بتشي جيفارا، هو ثوري كوبي أرجنتيني المولد، كان رفيق فيديل كاسترو. التراث والتاريخ الإنساني لا يمكن أن يستغنيا عن تاريخ هذا المناضل الثوري، لأن تاريخ تشي نهر لا بل بحر لا ينضب من الأفكار والخواطر والتأملات والممارسات والعمل والنضال الثوري من أجل عالم جديد أرقى وأسمى وأفضل وأكثر إنسانية، ونبع للنفوس والأرواح الثائرة.
فلا يوجد نموذج لرمز ثوري عاش مع الناس، بقوة نموذج وشخصية وعمل ونضال جيفارا الذي تصرف وعمل وناضل، حسب معتقداته وظل وفيا لكل ما آمن به.

درس جيفارا الطب في جامعة بوينيس أيريس وتخرج عام 1953، وكانت رئتاه مصابة بمرض الربو، فلم يلتحق بالتجنيد العسكري بسبب ذلك، رتّب وهو في السنة الأخيرة من دراسته لجولة حول أمريكا الجنوبية مع أحد أصدقائه على متن دراجة نارية، وكونت تلك الرحلة شخصيته وإحساسه بوحدة أمريكا الجنوبية وإحساسه بالظلم الكبير من الدول الإمبريالية، وخاصة الولايات المتحدة لشعوب أمريكا اللاتينية، توجه بعد هذه الرحلة إلى غواتيمالا، حيث كان رئيسها في ذلك الوقت يقود حكومة يسارية شعبية، جاءت من خلال تعديلات وبرامج اجتماعية اقتصادية، وعلى وجه الخصوص تعديلات في شؤون الأرض والزراعة، تتجه نحو إجراءات ثورية اشتراكية.      
جيفارا كان نموذجا للإنسان الذي رفض الظلم ولم يكتف بمجرد الإدانة بالكلام ومصمصة الشفاه، ولكنه ضحى بحياته وسعادته في سبيل ما يؤمن به، في سبيل طريق الثورة حاملا العلم الأحمر، لقد كافح ضد الظلم وضد هيمنة رأس المال والإمبريالية العالمية باليد والقلب واللسان والروح. لقد كان تشي جيفارا طفلا ذكيا بالغ الفطانة متوقد الذهن والتثقيف الأساسي الذي أعطته العائلة لتشي في المنزل، كان كافيا لدفعه إلى التفوق على جميع أقرانه في المدرسة في كل عام، منذ أن بدأ الانتظام في التعليم، وحتى عندما كان مرضه اللعين يجبره على لزوم الفراش، فعلى سبيل المثال علمته أمه "ثيليا" اللغة الفرنسية التي كان يحبها ويحب قراءتها والكتابة بها، وكان كثيرا ما يتلو فقرات طويلة من الكتب التي قرأها في الفرنسية اعتمادا على ذاكرته.
انقلاب عسكري مدعوم من وكالة الاستخبارات الأمريكية 
وكانت الإطاحة بالحكومة الغواتيمالية عام 1954 بانقلاب عسكري مدعوم من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية، قد تركت لدى جيفارا رؤية للولايات المتحدة بصفتها الدولة الامبريالية المضطهدة لدول أمريكا الجنوبية التي تسعى لبناء مجتمعات تتميز بالعدالة الاجتماعية، مجتمعات تسعى لبناء نظام اقتصادي اشتراكي متحرر، من هيمنة الإمبريالية العالمية، وخاصة الولايات المتحدة. قتل جيفارا في بوليفيا أثناء محاولة لتنظيم ثورة على الحكومة هناك، وتمت عملية القبض عليه بالتنسيق مع المخابرات الأمريكية، حيث قامت القوات البوليفية بقتله، وذلك بحشد أكثر من 2500 جندي لهذا الغرض، وقد شبت أزمة بعد عملية اغتياله وسميت بأزمة كلمات جيفارا، أي مذكراته وقد تم نشر هذه المذكورات بعد اغتياله بخمس سنوات، وأصبح جيفارا رمزا من أكبر رموز الثوار على الظلم الإمبريالي العالمي.
في عام 1954 كان أرنستو جيفارا في غواتيمالا، حيث جذبته إلى تلك البلاد الامكانيات الثورية التي كانت تعيشها تلك البلاد، هذه الامكانيات حصدتها بقسوة جيوش كاستيلو أرماس، أجيرة الاستخبارات الأمريكية، لقد تعاون أرماس مع الولايات المتحدة، من أجل القضاء على نظام لم يكن سوى نظام خجول في تقدميته، كان جيفارا بين أولئك الذين اجتازوا الحدود المكسيكية بعد أن انتظروا عبثا وصول الأسلحة ليقاتلوا، وبعد أن شعروا بغلظة حكومة لا تدين بمبدأ، أي حكومة كاستيلو أرماس المدعوم من قبل الولايات المتحدة، هذه الحكومة هي التي قدر لها بعد سبع سنوات أن ترسل مرتزقة آخرين ضد كوبا، وأن تنزل مباشرة بعد تسع سنين جيوشها في سان دومينيك. وفي المكسيك كان جيفارا يكسب عيشه من أعمال تافهة، فعمل مثلا مصورا متجولا، وفي ذلك الوقت التقى بفيديل كاسترو، وقد روى جيفارا مقابلته مع فيديل كاسترو كما يلي:       

"... إن كاتب هذه السطور (جيفارا)، الذي تقاذفته أمواج الحركات الاجتماعية التي تهز أمريكا اللاتينية، قد أتيحت له فرصة الالتقاء لهذه الأسباب ذاتها بمنفيٍّ أمريكي آخر: هو فيدل كاسترو، تعرفت إليه في إحدى الليالي الأمريكية الباردة، وأذكر أن حديثنا الأول دار حول السياسة الدولية: ففي ساعات الصباح الأولى، كنت واحدا من الغزاة المستقبلين" (ذكريات من الحرب الثورية). وقال أيضا: "كان الأمر يستحق أن أموت على شاطئ أجنبي في سبيل مثل أعلى طاهر كهذا المثل". وبعد أن تدرب تشي في المكسيك رحل إلى كوبا في أواخر عام 1956.

لم يكن تشي في حاجة للكثير من الإقناع ليربط مصيره بمصير كاسترو. وكما كتب لاحقا في مذكراته، فإن خبراته وتجاربه التي عاشها في جميع دول أمريكا اللاتينية، وبالطبع كان أخطرها في فترة الانقلاب الذي حدث في غواتيمالا، قد اجتمعت كلها معا لتؤكد عزمه على الالتحاق بأي ثورة كانت ضد الطغيان، لا سيما وإذا كانت هذه الثورة في نظره ستمكنه من العمل بقوة ضد من كان يعتبرهم أعداءه الحقيقيين، ألا وهم المخابرات الأمريكية والشركات الدولية الكبرى التي تملكها أمريكا والإمبريالية الأمريكية التي ما فتئت تزرع الحكومات العميلة لها في كل مكان.   
في أعقاب الثورة الكوبية قام جيفارا بأداء عدد من الأدوار الرئيسية لحكومة الثورة برئاسة فيدل كاسترو، حيث أسس قوانين الإصلاح الزراعي عندما كان وزيرا للزراعة، وعمل أيضا كرئيسا ومديرا للبنك الوطني ورئيسا تنفيذيا للقوات المسلحة الكوبية، كما جاب العالم كدبلوماسي باسم الاشتراكية الكوبية، مثل هذه المواقف سمحت له ان يلعب دورا رئيسيا في تدريب قوات الميليشيات التي صدت غزو خليج الخنازير من قبل الولايات المتحدة ومرتزقتها.   
رحلة كونت شخصيته وإحساسه بوحدة أمريكا الجنوبية  
في عام 1953 سافر جيفارا عندما كان طالبا في للطب في كلية الطب ببوينس أيرس التي تخرج منها عام 1953، إلى جميع أنحاء أمريكا اللاتينية مع صديقه البيرتو غرانادو على متن دراجة نارية، وهو في السنة الأخيرة من الكلية وكونت تلك الرحلة شخصيته وإحساسه بوحدة أمريكا الجنوبية وبالظلم الكبير الواقع من الإمبرياليين على شعوب أمريكا اللاتينية.      
أدت تجاربه وملاحظاته خلال هذه الرحلة إلى استنتاج بأن التفاوتات الاقتصادية متأصلة في أمريكا اللاتينية، وهي نتيجة الرأسمالية الاحتكارية والاستعمار الجديد والإمبريالية، ورأى جيفارا أن العلاج الوحيد هو الثورة العالمية، بينما كان جيفارا يعيش في مدينة مكسيكو في المكسيك التقى هناك براؤول كاسترو أخ فيدل كاسترو المنفي مع أصدقاءه الذين كانوا يجهزون للثورة وينتظرون خروج فيدل كاسترو من سجنه في كوبا. ما أن خرج فيدل كاسترو من سجنه حتى قرر جيفارا الانضمام للثورة الكوبية (خاصة بعد أن أصبح هو وفيدل كاسترو أقرب الأصدقاء، كما جاء في الحلقة الأولى من المقال). وكذلك رأى فيدل كاسترو أنهم، أي رجال الثورة الكوبية في أمس الحاجة إليه كثائر وكطبيب، وانضم لهم في حركة 26 يوليو، التي غزت كوبا على متن غرانما بغية الإطاحة بالنظام الدكتاتوري المدعوم من قبل الولايات المتحدة، نظام فولغينسيو باتيستا. وسرعان ما برز جيفارا بين الثوار وتمت ترقيته إلى مكانة الرجل الثاني في القيادة بعد فيدل كاسترو، حيث لعب دورا محوريا في نجاح الحملة على مدار عامين من الثورة المسلحة التي أطاحت بنظام باتيستا.
بعد نجاح الثورة في كوبا آثر تشي جيفارا أن يكمل حلمه في تحرير شعوب العالم النامي ومساعدتهم بالتخلص من الحكم الاستعماري والهيمنة الإمبريالية، فغادر كوبا تاركا مناصبه وعائلته متجها إلى الكونغو في إفريقيا، وبعد محاولته لتكوين الجيش الثائر فشل بعد رفض الشعب الإفريقي التعاون معه لاعتباره غريبا، ولم يقتنعوا بأهدافه، فكانت تجربة قاسية له، لكنه آثر إلا أن يكمل مسيرته، فانطلق متجها إلى بوليفيا واستطاع هناك أن يكوّن فرقا ثورية من الفلاحين والعمال والبدء بالثورة، إلا أنه لم يستطع مواجهة الجيش البوليفي الذي كان أقوى ومجهزا وأحدث من جيش باتيستا، بالإضافة إلى مساعدة النظام الإمبريالي الأمريكي للحكومة البوليفية، فكان الأمر شاقا عليه ومع ذلك استمر إلى أن قتل بعد أن القي القبض عليه.  
كان لتشي جيفارا أعداء كثر ولعل ذلك يكمن في أسلوبه الصريح في النقد ومهاجمة المخطئ مهما كان، ومهما كان فقد كان تشي جيفارا الشخصية الأكثر إثارة ومحبة في قلوب الشعوب المضطهَدة حول العالم، وستظل صوره في قلوبنا وعلى صدورنا، فأحلامه وأحلام الشعوب لا تعرف الحدود.
بعد مضي أكثر من ستين عاما على إعدامه ما يزال تراث تشي جيفارا وحياته رمزا للبطل اليساري الثوري، وهنا أذكر ما قاله نلسون مانديلا عن جيفارا بأنه: "مصدر إلهام لكل إنسان يحب الحرية"، في حين وصفه جان بول سارتر بأنه: "ليس فقط مثقفا، ولكنه أيضا أكمل إنسان في عصرنا"، ومن الذين أبدوا إعجابهم بجيفارا أيضا الكاتب غراهام غرين الذي لاحظ أن تشي: "يمثل فكرة الشهامة والفروسية والمغامرة". وسوزان سونتاغ التي شرحت أن: "هدف تشي ليس أقل من القضية الإنسانية نفسها".    
ارتبط تشي جيفارا ارتباطا وثيقا بالماركسية ال لينين ية في شبابه، حيث كان عضوا في الشبيبة الشيوعية الأرجنتينية، أممية وثورية. تشي جيفارا وارتباطه المميز بالفقراء والمنبوذين في كل مكان ورفضه الاعتراف بقداسة الحدود القومية في الحرب ضد إمبريالية الولايات المتحدة، ألهمت الحركات الثورية في العالم أجمع.   
نادى تشي الثوريين: "لنحول أنفسنا إلى شيء جديد، أن نكون اشتراكيين قبل الثورة، هذا إذا كان مقدرا لنا أن يكون لدينا أمل في أن نحقق فعلا الحياة التي نستحق أن نعيشها". نداؤه "بأن نبدأ العيش بطريقة لها معنى الآن"، ولقد فتح ذراعيه لاحقا أيضا إلى ثورية ماو تسي تونغ، ومن ناحية اخرى ممتدا ومعمقا ارتباطه بالماركسية. 
حب تشي للناس أخذه أولا إلى كوبا ثم إلى الكونغو ثم إلى بوليفيا، ولم ينسَ أن يمر بفلسطين ومصر والجزائر في طريقه ليلتقي الزعيم والبطل جمال عبد الناصر والرئيس الجزائري أحمد بن بله اللذان كانا رموزا للثورة العربية في الستينيات من القرن الماضي.