الفقرُ والبطالةُ في الوطن العربيّ... لماذا تُهدر كرامة الناس وتُدمّر آدميتهم؟

حجم الخط

"لو كانَ الفقرُ رجلًا لقتلته"

(الإمام علي بن أبي طالب)

يحتفي العالمُ في السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأوّل في كلّ عام باليوم العالمي للقضاء على الفقر، مستذكرًا أهدافَ الألفيّة السبعة عشر التي قالت الأمم المتحدة أنها وجميع الدول الأعضاء قد أجمعوا على موعدٍ محدّدٍ يقضون فيه على الفقر المدقع والفقر المتعدّد الأبعاد، وذلك مع حلول العالم 2030. ودونَ جدوى ربطت العديد من الدول العربيّة برامج تنميتها بهذا التاريخ لتقيسَ مدى تقدّمها في التنمية المستدامة التي تضع الإنسان هدفًا ووسيلةً في آن. وكعادتها كلّ عامٍ تصدرُ الأممُ المتّحدةُ بيانًا تحثُّ فيه دول العالم على الاستمرار في برامجها التي يفترض أنّها ستنهي الفقر بحلول الموعد المقرّ بالإجماع من المنظّمة الأمميّة. هذا العام، وضعت المنظّمةُ الأمميّة شعار "الكرامة للجميع" وأصدرت بيانًا أشادت فيه بالملايين "الذين يعانون الفقر وما يتحلّون به يوميًّا من شجاعة، كما يُقرُّ فيه بالتضامن العالمي الأساسيّ والمسؤوليّة المشتركة التي نتحملها للقضاء على الفقر ومكافحة جميع أشكال التمييز". وزادت بأنّه "في عالمٍ يتّسمُ بمستوى لم يسبق له مثيلٌ من التنمية الاقتصاديّة والوسائل التكنولوجيّة والموارد المالية، لم يزل الملايين الذين يعيشون في فقرٍ مدقعٍ يمثّلون عارًا أخلاقيًّا". وتقدّر المنظّمة أن هناك "1.3 مليار شخص لم يزالوا يعيشون في فقر متعدّد الأبعاد، ونصفهم تقريبًا من الأطفال والشباب، وسنويًّا تتزايد التفاوتات في الفرص والدخول تزايدًا حادًّا وتتّسعُ الفجوةُ بين الأغنياء والفقراء".

لم يأتِ الاحتفاء هذا العام بجديد، فالفقرُ لا يزالُ ينهشُ أجساد الفئات المهمّشة في المجتمعات قاطبة، ومن ضمنها دول العالم الثالث، وتلك التي تعاني من الحروب والنزاعات ومنها دولٌ عربيّةٌ وإفريقيّة وآسيويّة.

يعودُ الاحتفاءُ باليوم العالميّ للفقر إلى السابع عشر من أكتوبر / تشرين الأول عام 1987، عندما تجمعُ أكثر من 100 ألف شخصٍ تكريمًا لضحايا الفقر المدقع والعنف والجوع، وذلك في ساحة تروكاديرو في العاصمة الفرنسيّة باريس، وهي الساحةُ نفسها التي تمَّ التوقيعُ فيها على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948. في ذلك اليوم وفي هذا اليوم أكد المشاركون أن الفقر يُشكل انتهاكا لحقوق الإنسان وأكدوا الحاجة إلى التضافر بغية كفالة احترام تلك الحقوق، وسجلت تلك الآراء على النصب التذكاري الذي رُفع عنه الستار. ومنذ ذلك اليوم، درج العديد من الأفراد من مختلف مشاربهم  ومعتقداتهم وأصولهم الاجتماعية على إعلان التزامهم بمحاربة الفقر وإعلان تضامنهم مع الذين يعانون منه، ما قاد الأمم المتحدة في يناير 1992 إلى الإعلان عن يوم 17 أكتوبر يوما عالميا للقضاء على الفقر، ثم تطور الأمر إلى الإعلان عن أهداف التنمية المستدامة، التي أقرتها المنظمة الأممية في سبتمبر/أيلول 2015، وتحوي بشكل رئيسي على 17 هدفا تركزت في: القضاء على الفقر، القضاء التام على الجوع، الصحة الجيدة، التعليم الجيد، المساواة بين الجنسين، المياه النظيفة والنظافة الصحية، طاقة نظيفة باسعار معقولة، العمل اللائق ونمو الاقتصاد، الصناعة والابتكار والبنية التحتية، الحد من أوجه عدم المساواة، مدن ومجتمعات محلية مستدامة، الاستهلاك والانتاج المسؤولان (يُرمىَ في القمامة سنويا 1.3 مليار طن من الأغذية قيمتها تريليون دولار)، العمل المناخي والحياة البحرية، الحياة في البر، السلام والعدالة والمؤسسات القوية وعقد الشراكة لتحقيق الأهداف وذلك بين الحكومات والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني.

أين مكانة الدول العربية من كل هذا؟

 ما يزال الوطن العربي يعاني من أزمات متناسلة منذ عدة عقود تفاقمت مع سنوات الربيع العربي 2011، عندما تكشفت حقائق جديدة اهتزت معها العديد من العواصم وقادت بعضها إلى المزيد من الفقر والبطالة والمرض والتخلف والتدمير والتفكك والانقسامات العمودية والافقية المجتمعية، هذه الأزمات ما تزال مستفحلة في ليبيا واليمن وسوريا والعراق و السودان والصومال ولبنان، حيث تعتبر بعض التقارير هذه الدول فاشلة وغير قادرة على النهوض، في الوقت الراهن على الأقل، وتواجه انهيارات جديدة إن لم تتحرك نخبها السياسية وقواها الفاعلة لإنقاد الموقف، هذا لا يعني أن بقية الدول العربية في مأمن، بل أن مصائرها مرهونة بأدائها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والمشاركة السياسية، وقدرتها على حل الأزمات المتراكمة بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي التي تنعم بثروة هائلة من عائدات النفط والغاز.

الكرامة في ظل الفقر والبطالة

 هل يمكن تحقيق الكرامة في ظل غياب التنمية المستدامة التي تعني الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان وفق الشرعة الدولية ومواثقيها الرئيسية، وفي ظل استشراء البطالة والفساد؟

تعاني الدول العربية جميعها بنسب من بطالة، متعددة الأشكال، بعضها مقنعة تعطل جزء من التنمية وبعضها الآخر حقيقي بسبب غياب التنمية أصلا. ووفق تقرير صادر عن منظمة العمل الدولية، فإن البطالة في البلدان العربية هي الأعلى والأسرع في العالم، وقدرت المنظمة أن تصل البطالة بين الشباب العربي 24.8 بالمئة العام الجاري 2022، وتصل بطالة الشابات 42.5 بالمئة. وكانت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية (الأسكوا) والمكتب الإقليمي للدول العربية التابع لمنظمة العمل الدولية قد حذرا من استمرار بقاء المنطقة العربية عند أعلى مستوى بطالة حول العالم، خصوصا بين النساء والشباب. ويكشف تقريرهما الصادر في نوفمبر2021 عن هشاشة سوق العمل العربية وعدم قدرته على توليد فرص العمل فضلا عن امتصاص البطالة الحالية، خصوصا قطاع الاقتصاد المنظم "غير القادر على خلق فرص عمل عادلة وكافية، في وقت يشكل القطاع غير المنظم نحو ثلثي اجمالي العمالة، وفق التقرير.

تشير الاحصاءات والتقارير المتعددة إلى أن البلدان العربية تواجه تحديات كبيرة في قضايا الفقر والبطالة والفساد وسوء الإدارة. ففي تونس يشير معهد الإحصاء الحكومي إلى أن البطالة بلغت 16 بالمئة هذا العام، والتضخم 9.1 بالمئة، وأن 60 بالمئة من التونسيين، يعانون من تراجع مداخيلهم، نتيجة تراجع صرف الدينار أمام العملات الاجنبية، في حين يبلغ الدين العام فيها أكثر من 35 مليار دولار، يشكل 90 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وقد حصلت على موافقة مبدئية لمنحها قرضا جديدا من صندوق النقد الدولي بقيمة 1.9 مليار دولار، يأمل الحكم أن يوقف التدهور الاقتصادي هناك. وفي مصر تبلغ البطالة 7.2 بالمئة وفق الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وتصل قوة العمل نحو 30 مليون شخصا، ويعاني 2.1 مليون شخصا من البطالة، في وقت بلغ الدين الخارجي 157 مليار دولار والدين الداخلي يبلغ 6 تريلونات جنيه (315 مليار دولار)، وتتفاوض مصر هي الأخرى مع صندوق النقد للحصول على قرض تتراوح قيمته بين 5 مليار إلى 20 مليار دولار، ويضغط الصندوق على الحكومة المصرية لإجراء إصلاحات موجعة. أما في المغرب فتبلغ البطالة 12.1 بالمئة حسب المندوبية السامية للتخطيط، التي أشارت إلى وجود 1.466 عاطل عن العمل، ويبلغ معدل الفقر نحو 12 بالمئة وفق الأرقام الرسمية. وفي العراق الذي يواجه أضخم حالات فساد آخرها الكشف عن 2.5 مليار دولار من عائدات الضرائب، ويصل حجم الفساد إلى أكثر من 450 مليار دولار منذ العام 2003، في هذا الوقت تفيد الأرقام الرسمية أن البطالة تصل الى 16.5 بالمئة وفق وزارة التخطيط العراقية، وتشير منظمة اليونسكو إلى وجود 12 مليون أمي في هذا البلد الذي كان يقرأ ما تكتبه القاهرة وتطبعه بيروت (!!)، ويصل دخل الفرد أكثر من دولارين بقليل في بلد غني بالنفط. أما في اليمن الذي يعاني من حرب طاحنة مدمرة منذ قرابة ثمان سنوات، فتفيد التقارير الحكومية بأن نسبة البطالة تبلغ 60 بالمئة، ويبلغ معدل الفقر 80 بالمئة، ويعصف الفقر والجوع بأكثر من 22 مليون نسمة غالبيتهم من الاطفال والنساء. وفي ليبيا تعيش 45 بالمئة من الأسر تحت خط الفقر، حسب مركز الدراسات الاجتماعية الليبي، وتصل نسبة البطالة إلى 19 بالمئة في بلد منتج للنفط ويفترض فيه البحبوحة لولا دمار الحرب. وفي لبنان فقد ارتفعت البطالة من 11.4 بالمئة في 2019 إلى 29.6 في مطلع العام الجاري 2022، وتشكل البطالة بين الشباب نسبة 47.8 بالمئة والعمالة غير المنظمة نسبة 60 بالمئة من إجمالي العمالة، وفق منظمة العمل الدولية وإدارة الإحصاء المركزية. وتبلغ نسبة الفقر 80 بالمئة حسب الأمم المتحدة، حيث يعاني 9 من أصل 10 أشخاص من صعوبة الحصول على دخل، الأمر الذي قاد 69 بالمئة من الشباب اللبناني إلى إعلان رغبتهم في الهجرة. أما في سوريا فإن 90 بالمئة من المواطنين هم تحت الفقر حسب التقديرات الأممية، فيما تقدر منظمة (أونروا) نفس نسبة الفقر بين اللاجئين الفلسطينيين البالغ عددهم نحو 440 ألف شخصا.

ولأن الدول الغنية ليست استثناء من القاعدة، فقد بلغت نسبة البطالة في السعودية نسبة 9.7 بالمئة في الربع الثاني من العام الجاري، حسب ما جاء في خطاب العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، في افتتاح الدورة الجديدة لمجلس الشورى في 17 أكتوبر الماضي، وقال فيه أن المملكة تستهدف تخفيض نسبة البطالة إلى 7 بالمئة بحلول العام 2030. بينما تشير تشير وزارة العمل البحرين ية إلى أن البطالة هناك تراجعت من 7.7 بالمئة أثناء الجائحة إلى 5.7 بالمئة في الوقت الراهن، في وقت تشير فيه الوزارة إلى أن 47 بالمئة من الأسر البحرينية، يتلقون مساعدات مالية لمواجهة الفقر والتضخم وغلاء المعيشة، ما يثير تساؤلات عن مستوى الأجور ومعدلات التضخم ومدى دقة نسبة البطالة المعلنة.

إذن، فالبلدان العربية بمجملها أمام كارثة حقيقية تتعلق مباشرة بطبيعة أداء النظام الرسمي الذي يقرر السياسات، وبالتالي يتحمل المسؤولية الكبرى الناجمة عن تطبيقها بعد أن قادت إلى تدهور الأوضاع المعيشية بعد استفحال الأزمات الاقتصادية والسياسية ما أدى إلى تضاعف الفئات المهمشة والمهشمة على السواء، حتى أضحى أكثر من نصف سكان الوطن العربي يعانون الفقر والبطالة والمرض، حيث يعشعش الفساد الإداري والمالي وتزداد المحسوبية والزبائنية بالتوازي مع التفرد بالحكم واستشراء القمع وإذكاء خطاب الكراهية والتمييز بكافة أشكاله، فانتهكت كرامات الناس وهدرت، ومسحت آدمية المواطنين حتى أصبحت البحار والمحيطات مقابر جماعية ووجبات للحيتان لمن قاده اليأس ليلوذ بالفرار من جحيم الوطن الأكبر الذي يزخر بثروات طبيعية هائلة، تبخرت تحت خبطات جزم طغم الفساد المهيمنة على كل شيء.