الاختصار في أزمة أحزاب وفصائل اليسار الماركسي في بلدان الوطن العربي

حجم الخط

(1)

إن جذور أزمة الماركسية في بلدان مغرب ومشرق الوطن العربي، تكمن في هذا التراجع الفكري والضعف النظري لدى أحزاب وفصائل اليسار، إلى جانب حالة الاغتراب عن الواقع، ومن ثم فشل هذه الأحزاب في وعي الواقع واستيعاب جوانبه ومكوناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية...الخ، حيث استمرت طوال العقود الماضية في رفع شعارات أو مبادئ لا تجسد الواقع أو تعكسه بصورة جدلية وموضوعية صحيحة، ما يعني بوضوح أن الحركات اليسارية لم تدرك أن المبادئ لا تصلح نقطة انطلاق للبحث والتحليل والتنقيب، بل هي نتيجتها الختامية. فالمبادئ لا تطبّق على المجتمع والطبيعة والتاريخ، بل تُشْتَقْ منها، فليس على الواقع والتاريخ أن يتطابقا مع أفكارنا، بل على أفكارنا أن تتوافق وتتطابق مع قوانين حركة الواقع ومنطق التاريخ، هذا هو الدرس الرئيسي الذي يتوجب على أحزاب وفصائل اليسار العربي أن تستوعبه في وعيها وممارستها، دون أن يعني ذلك تجاوزاً للتطور الاجتماعي والطبقي المشوه، لمجتمعاتنا العربية، طوال التاريخ الحديث والمعاصر، وبالتالي فإنني أرى أنه ليس من المغالاة في شيء، إذا قلنا بأن ما يسمى بأزمة الماركسية في بلادنا، هي انعكاس –بهذا القدر أو ذاك- ليس لأزمة وتخلف المجتمع والفكر السياسي العربي ارتباطاً بالمسار التطوري التاريخي المشوه فحسب، بل أيضا – وبالدرجة الأساسية – إلى قصور وعجز أحزاب وفصائل اليسار عن صياغة وممارسة قضايا الصراع التناحري ضد العدو الامبريالي الصهيوني من جهة وقضايا الصراع الاجتماعي الطبقي الديمقراطي الداخلي من جهة ثانية، الأمر الذي كان – وما زال – من الطبيعي أن تكبر وتتسع العزلة والفجوات بين قوى اليسار العربي وجماهيرها الشعبية الفقيرة.

 

(2)

إنني أعتقد أن أزمة  النظرية الماركسية داخل أحزاب وفصائل اليسار في بلادنا، تتجلى في كونها تعيش حالة قطيعة أو إرباك مع تراثها، ارتباطاً بالأزمة الفكرية لدى هذه الأحزاب والفصائل، وهذه الأزمة أسهمت في ضياع البوصلة  الفكرية والسياسية الماركسية لدى معظم هذه الأحزاب والفصائل، ليس بسبب التبعية الميكانيكية تاريخياً للمركز في موسكو، أو بسبب الوعي المسطح أو البسيط على مستوى الأعضاء فحسب، بل أيضاً بسبب هشاشة وضعف الوعي في معظم الهيئات القيادية، التي عاشت نوعاً من غياب الوعي الماركسي أو اللامبالاة – والرفض العلني أو المبطن- للفكر الماركسي، إلى جانب الاغتراب أو العزلة عن قواعدها التنظيمية وجماهيرها، فضلاً عن حالة الجمود الفكري والتنظيمي البيروقراطي وتراكم المصالح الطبقية الانتهازية بتأثير العلاقة مع هذه السلطة أو هذا النظام أو ذاك.

كما تجلت الأزمة أيضاً، في المنتسبين إلى هذه الأحزاب وهيئاتها القيادية، لا سيما ضعف وعيهم للدور الذي على الماركسية أن تقوم به في مجتمع متأخر تابع ومستباح، وبالتالي الضعف الشديد لتأثيرهم أو غيابه في أوساط الجماهير، بدليل اشتعال الانتفاضات العربية قبل عشر سنوات دونما أي دور ملموس لأحزاب وقوى اليسار فيها، التي غيبت نفسها، بسبب تفاقم أزماتها وعجزها وقصورها الذاتي على الرغم من نضج الظروف الموضوعية المتمثلة في الاستلاب الوطني الناجم عن وجود القواعد العسكرية الامريكية والاحتلال الصهيوني، وفي الاستلاب والاستبداد الطبقي الناجم عن شدة بشاعة استغلال الطبقة الحاكمة وحلفائها لجماهير الفقراء اللذين خرجوا بالملايين مشاركين في الانتفاضة بصورة عفوية، سرعان ما احتضنتها قوى الإسلام السياسي، إلى جانب قوى الثورة المضادة، في ظل غياب محزن للطليعة اليسارية المدافعة عن أماني وأهداف الجماهير، الأمر الذي يتطلب من الكوادر الماركسية في كافة أحزاب وفصائل اليسار في بلادنا، القيام بثورة معرفية نوعية وديمقراطية تستهدف تعميق الوعي مجدداً بالماركسية ومنهجها المادي الجدلي، بما يضمن إعادة الروح الثورية بالمعنى الطبقي لكافة أعضاء هذا الحزب/الفصيل أو ذاك وتجديد وحدته ومنطلقاته، لكي يستعيد دوره الطليعي النضالي التحرري والطبقي في مسيرة نضاله على طريق الثورة الوطنية التحررية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية.

 

(3)

إن ما ينقص قوى اليسار هو الدافعية الذاتية أو الشغف والإيمان العميق بمبادئه، عبر امتلاك الوعي العلمي الثوري في صفوف قواعده وكوادره، فبينما تتوفر الهمم في أوساط الجماهير الشعبية واستعدادها دوما للمشاركة في النضال بكل أشكاله ضد العدو الإمبريالي والصهيوني، وضد العدو الطبقي المتمثل في أنظمة التبعية والتخلف والاستغلال والاستبداد والقمع، إلا أن أحزاب وفصائل اليسار لم تستثمر كل ذلك كما ينبغي ولا في حدوده الدنيا، لأنها عجزت – بسبب أزماتها وتفككها ورخاوتها الفكرية والتنظيمية - عن إنجاز القضايا الأهم في نضالها الثوري، وهي على سبيل المثال وليس الحصر:

أولا – عجزت عن بلورة وتفعيل الأفكار المركزية التوحيدية لأعضائها وكوادرها وقياداتها واقصد بذلك الفكر الماركسي وصيرورته المتطورة المتجددة.

ثانيا-عجزت بالتالي عن تشخيص واقع بلدانها (الاقتصادي السياسي الاجتماعي/الطبقي والثقافي...الخ) ومن ثم عجزت عن ايجاد الحلول أو صياغة البديل الوطني والقومي في الصراع مع العدو الإمبريالي الصهيوني من ناحية، وعن صياغة البديل الديمقراطي الاشتراكي التوحيدي الجامع لجماهير الفقراء وكل المضطهدين من ناحية ثانية.

ثالثا - عجزت عن بناء ومراكمة عملية الوعي الثوري في صفوف اعضاءها وكوادرها وقياداتها، ليس بهويتهم الفكرية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي فحسب، بل أيضاً عجزت عن توعيتهم بتفاصيل واقعهم الطبقي (الاقتصاد، الصناعة، الزراعة، المياه، البترودولار، الفقر والبطالة والقوى العاملة، الكومبرادور وبقية الشرائح الرأسمالية الرثة والطفيلية، قضايا المرأة والشباب، قضايا ومفاهيم الصراع الطبقي والتنوير والحداثة والديمقراطية والتخلف والتبعية والتقدم والثورة... الخ). فالوعي والإيمان الثوري (العاطفي والعقلاني معا) لدى كل رفيقة ورفيق، بالهوية الفكرية وبضرورة تغيير الواقع المهزوم والثورة عليه، هما القوة الدافعة لأي حزب أو فصيل يساري، وهما أيضا الشرط الوحيد صوب خروج هذه الأحزاب من أزماتها، وصوب تقدمها وتوسعها وانتشارها في أوساط جماهيرها على طريق نضالها وانتصارها.

 

(4)

على الرغم من أن الماركسية حققت إنجازات ضخمة في الماضي، إلا أن تواصل العملية التطورية التجديدية المرتبطة بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المعاصرة، مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لسيرورة الماركسية واستعادة دورها وتأثيرها في المرحلة الراهنة والمستقبل، خاصة في مشهد انحطاط وتفاقم تبعية أنظمة الكومبرادور في بلادنا راهنا، الأمر الذي يتوجب أن يكون حافزاً لكل قوى اليسار الماركسي في مغرب ومشرق الوطن، لتكثيف النضال في آن واحد، بصور وأليات متوازية، ضد كل من أنظمة الاستبداد والتبعية والتخلف من جهة وضد التحالف الإمبريالي الصهيوني من جهة ثانية، عبر منهجية ورؤية تنبثق من الوعي بكل جوانب المسار التطوري الحديث والمتجدد للماركسية من ناحية، وتتلاءم تماماً مع مقتضيات ومتطلبات الواقع الاجتماعي العربي المعاش / الراهن والمستقبلي من ناحية ثانية، وهذا يعني أن تنأى بنفسها بعيداً عن كل مظاهر الجمود الفكري أو المذهبي، إلى جانب تلافي أخطاء وخطايا التجربة الاشتراكية المنهارة، خاصة مظاهر عبادة الفرد والبيروقراطية والمركزية المقيتة وانعدام الحوار الديمقراطي الداخلي في أوضاعها الداخلية.

وفي هذا الجانب، فإن تبني فصائل أحزاب اليسار للماركسية منهجاً، يفرض عليها ان تتعاطى مع الماركسية انطلاقاً من كونها نظرية علمية معرفية، هي جزء من صيرورة حركة الحياة ومتغيراتها التي لا تعرف الجمود أو التوقف، ما يعني بوضوح شديد أن تتخلى هذه الفصائل والأحزاب، وترفض التعاطي مع الماركسية في إطار منهج أو بنية فكرية جامدة او مغلقة أو نهائية التكوين والمحتوى، إذ أن الماركسية تكف عن أن تكون نظرية علمية جدلية، إذا ما تم حصرها في إطار منهجي منغلق أو في ظروف تاريخية محددة، فالانغلاق أو الجمود هو نقيض لجدل الماركسية التطوري، الهادف إلى بلوغ الحرية الحقيقية التي تتجسد في الاشتراكية والتحرر الشامل للإنسان من كل مظاهر الاستبداد والاستغلال والاضطهاد والتخلف والتبعية.

 

(5)

إن قراءتنا لبعض مؤشرات ومكونات المسار التطوري للماركسية كنظرية علمية، تعزز لدينا القناعة الراسخة أنها لم تندثر، بل من المستحيل تجاوزها، وبالتالي نقول لكل من يعتبر أن الماركسية قد كفت عن كونها نظرية ثورية، انت مخطئ كل الخطأ، وكذلك الأمر بالنسبة لكل من يحكم على مستقبل الاشتراكية على ضوء حاضرها المأزوم، فما زالت شعوب ما يسمى بالعالم الثالث أو الرابع تعاني من: السيطرة الإمبريالية والتبعية والتخلف، والتفاوت الطبقي, والاستغلال والقهر الطبقي، ولم يحدث في تاريخ البشرية أن بلغ استغلال فائض القيمة للشعوب الفقيرة والتابعة ، والقهر الاجتماعي والإفقار، المستوى الذي وصل إليه اليوم، إلى جانب كل أشكال العدوان والحروب التي تمارس لحماية مصالح النظام الرأسمالي كما هو الحال في بلادنا.

ما يعني أن الاشتراكية اليوم باتت ضرورة حتمية في نضالنا التحرري والديمقراطي الطبقي، كتتويج لمفاهيم الديمقراطية والحداثة وتخليص مجتمعاتنا من كل مظاهر التخلف والتبعية والاستغلال والاستبداد، إذ ليس ثمة خيار آخر –خاصة لبلداننا العربية وبقية بلدان الأطراف- فإما الاشتراكية أو مزيد من التبعية والتخلف والاستغلال والاستبداد.

ولهذا نرى أن من واجب قوى اليسار الماركسي في بلادنا، أن تكون معنية بتحديد الموضوعات الأساسية التي يشكل وعيها، مدخلاً أساسياً لوعي حركة وتناقضات النظام الرأسمالي من جهة، وحركة واقع بلدانها بكل مكوناته وآفاق صيرورته التطورية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة ثانية، انطلاقاً من إدراكها الموضوعي، بأن التعاطي مع الماركسية ومنهجها بعيداً عن كل أشكال الجمود وتقديس النصوص، كفيل بتجاوز أزمتها الراهنة، ومن امتلاكها لمقومات القوة التنظيمية والجماهيرية الكفيلة بإسقاط أنظمة العمالة ومقاومة وطرد الوجود الإمبريالي الصهيوني، إذا ما أدركت بوعي عميق طبيعة ومتطلبات واقع ومستقبل بلدانها.

 

(6)

إن ما يوصف بأنه "أزمة الفكر" لدى أحزاب اليسار العربي هو في الحقيقة أزمة الممارسة بسفحيها: النظري والعملي، فثمة بون شاسع بين الممارسة النظرية، مثلاً، وبين انتقاء وجمع وتوليف مجموعة من الأفكار والمبادئ والتصورات، قُطعت عن منظومتها الفكرية، وانتُزعت من سياقها التاريخي، عبر مسميات خجولة أزاحت النص الصريح بالالتزام بالماركسية، لحساب نصوص تلفيقية أو توفيقية أو تحريفية، أو عناوين استرشادية جاءت انسجاماً مع مواقف العديد من الأحزاب الشيوعية التي تخلت عن اسمها أو بعض الفصائل والحركات الأخرى التي اتجهت صوب الخلط الفكري بين الليبرالية والماركسية ، أو حتى شطب الماركسية من أدبياتها، ذلك الخلط أو الشطب، سيعزز تراجعها المتصل، وتهميشها وسيعجل بنهايتها.

 على أي حال، إن التخلي عن الماركسية أو الارتداد عنها والتنكر لها، ليس موقفاً جديداً مرتبطاً بانهيار الاتحاد السوفييتي أو بالواقع العربي المهزوم، بل هو ظاهرة نشأت منذ نشوء الماركسية، من خلال العناصر والقوى اليمينية التي وجدت في الماركسية خطراً شديداً على مصالحها ووجودها، لكن "الماركسية" بمضمونها السياسي والاجتماعي ودلالاتها ومؤشراتها المستقبلية بالنسبة لتحرر وانعتاق العمال والفلاحين وكل الفقراء والكادحين في هذا الكوكب ، خاصة في البلدان المستعمرة والتابعة، كما هو حال الجماهير الشعبية من العمال والفلاحين الفقراء وكافة المضطهدين في بلادنا، الذين لن يجدوا خلاصهم إلا من خلالها.

 لذلك، فإن البحث في "أزمة الماركسية" –ولا نقول فشلها- هو بحث في الماركسية ذاتها،  وإذا كان من حق أي كان، أن يتخلى عن أفكار ويعتنق أفكار أخرى نقيضه، فإنه ليس من حق أحد إصدار حكم بالتجاوز أو النفي على تيار فكري من أجل تبرير هذا التخلي، خصوصاً إذا كان الحكم بلا حيثيات سوى البعد الذاتي ومبرراته الانتهازية الأنانية الصريحة.