فائض التطرف…

حجم الخط

لا يكاد مشرقنا أن يلتقط أنفاسه من أزمة، إلا وتحلّ به أزمات تجعل من عوامل القلق وعدم الاستقرار هي الحالة السائدة، ومما سيزيد الأمور تعقيداً هو الحكومة قيد التشكيل في (إسرائيل)، برئيسها وأعضائها الذين لا يبدو حتى الرئيس الأميركي المتصهين أو غيره في الحكومات الغربية أنّ لديه قدرة على احتمالهم.

وزارة الأمن الداخلي سيستبدل اسمها، لتصبح وزارة الأمن القومي بما تمنح المفردات من صلاحيات إضافية لهذه الوزارة، وبما ستصادر من صلاحيات الجيش والأمن الذي علينا أن نعترف أنه يُدار بشكل حرفي وإنْ كان معادياً لنا، وهؤلاء هم من مارس مسؤولية الإشراف على الضفة الغربية منذ عام 1967، ومرحلتي الاحتلال المباشر ثم غير المباشر بالاشتراك مع السلطة الفلسطينية…

وزير الأمن القومي الجديد بن غفير يمثل أخطر الشخصيات تطرفاً ودموية، وهو وريث الحاخام الشهير مئير كاهانا، كما أنه من النوع الذي لا يُخفي وجهات نظره، ولا يلقي بالاً للقانون وأصول الحكم أو للشأن والقانون الدولي الذي يرى أهميته ثانوية بقدر ما يهتمّ بتعزيز صورته الشعبوية في الأوساط اليمينية المتطرفة.

بن غفير سيمارس في عمله الجديد أقصى ما لديه من فائض التطرف، ضارباً بالعصى الغليظة في الضفة الغربية، لا المقاومة في شمال الضفة وإنما من غير أن يستثني السلطة الفلسطينية، وحسب صحافتهم وتصريحاته أنه بصدد إنشاء جيش خاص بالقمع بالضفة الغربية، وهو أقرب إلى ميليشيا تعمل تحت إمرة وزارته وعناصرها من المتطرفين والمستوطنين في الضفة الغربية، ومعهم جموع من المجرمين ورجال العصابات (الاسرائيلية) الذين يقبعون في السجون وستكون أمامهم فرصة لاستبدال محكوميّاتهم بالخدمة في هذه الميليشيا. كلّ ذلك والحكومة لم تتسلّم الحكم بعد، لكن القلق المبكر منها دعا رئيس الحكومة الراحلة يئير لبيد لأن يؤكد محذراً انّ الوزراء القادمين وأعضاء الكنيست الجدد قد أخذوا بإصدار التعليمات للجنود بممارسة العنف المفرط وهم يحرّضونهم على قادتهم.

يؤشر ذلك إلى أنّ أوقاتاً أكثر صعوبة ستنتظر الفلسطيني المعذّب أصلاً، مواطناً وسلطة ولن يجد الفلسطيني غير الرسمي من عمل في مواجهة فائض التطرف إلا بتطرف مضاد، ولن يجد الفلسطيني الرسمي في الحكومة الجديدة من هو مستعدّ للحوار أو التفاوض معه.

التطرف والتوتر المقبلان مع الحكومة الجديدة لن يقتصرا على الضفة الغربية، وإنما سيشمل المشرق عموماً، الأردن الذي ظن في وقت مضى أنه بتوقيع اتفاقية وادي عربة، قد ضمن وجوده كوطن نهائي أمر لا يعجب نتنياهو الذي يرى في الأردن وطناً للفلسطينيين والمكان المتاح لهم لإقامة دولتهم، وهو لن يلتزم باتفاقيات تبادل الماء والكهرباء، إلا بالشقّ المتعلق بفوائده، وللأردن تجربة طويلة ومريرة معه منذ حادثة محاولة اغتيال رئيس مكتب حماس السياسي خالد مشعل في عمّان، في عهد الملك الراحل.

أعلن نتنياهو أثناء حملة الدعاية الانتخابية اعتراضه الشديد على اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، واتفاق تقاسم الغاز معتبراً أنّ الحكومة الراحلة كانت فقط تتلقى التعليمات من الإدارة الأميركية، وأنّ الاتفاق والتفاوض كان بين السيد حسن نصر الله وبين جو بايدن، فيما غابت (إسرائيل) متناسياً أن المفاوض هو أصلاً مزدوج الجنسية وضابط سابق في جيش الدفاع، وهو يعلن بعد تكليفه بتشكيل الحكومة أنه لن يلتزم بالاتفاق، فيما اللبناني ينتظر بأمل تدفق الغاز باعتباره الحلّ المتاح لمشاكل سعر صرف الليرة، وإنقاذ الدولة من الإفلاس.

إيران التي سبق لنتنياهو أن بذل كلّ ما يستطيع لتعطيل اتفاقها النووي مع إدارة أوباما في الكونغرس، وفي أوساط صناعية وإعلامية إلى أن نجح بذلك في عهد خليفته دونالد ترامب، إيران وبرنامج التصعيد معها سيكونان من أولويات الحكومة الجديدة، بما قد يستدرج معه واشنطن وآخرين من عرب البترودولار، هذا وإيران التي شعرت أنّ حبال المقاطعة الغربية عليها آخذة بالانحلال بعد اندلاع الحرب الروسية والأوكرانية، وارتفاع مدخولاتها من النفط والغاز لعالم الشرق، ولكنها تعاني من بداية ملامح ربيع فارسي شبيه بالربيع العربي الزائف الذي اجتاحنا ولا يزال، فجاء نتنياهو ليزيد من همومها.

الصورة سوريالية في بعض جوانبها، فالوضع الداخلي في (إسرائيل) يسير أيضاً نحو تأزم شديد، ومن جديد الوضع هناك، أنّ المسألة الفلسطينية لن يتمّ التعاطي معها باعتبارها مشكلة بين شعبين يتصارعان على رقعة أرض واحدة، وإنما ستصبح مشكله (إسرائيلية ـ إسرائيلية)، وهذا ما سيضعف من الدولة إلى أجل غير بعيد، ووضعها أمام مشاكل وجودية، من الصحيح أنها ليست جديدة، ولكنها ستكون أكثر ظهوراً وتفاعلاً وحدة، وذلك أمر إيجابي، إذ أنه يخرج (إسرائيل) من منطقة الراحة confort zone السياسية والأخلاقية المزعومة حيث تقدّم نفسها باعتبارها دولة الليبرالية والفرص والحداثة، وواحة الديمقراطية في صحراء الاستبداد الشرقي.

يزعج الحكومة «الإسرائيلية» الراحلة، ومعها جمهور مثقفي ومفكري الحركة الصهيونية، كما يزعج رعاة المشروع الصهيوني في الغرب الرأسمالي، إن هذه الدولة الوظيفية قد لا تصبح قادرة على القيام بدورها، ووظيفتها في القريب، وفوق كلّ ذلك، فالسياسيون الجدد أمثال بن غفير قد يضعون العصي في دواليب المشروع الغربي لأسباب عنصرية ودينية.