قراءة استشرافية للعام الجديد

حجم الخط

يحتفل المسيحيون في العالم، ومعهم جميع الشعوب المحبة للسلام، بأعياد الميلاد المجيدة: ميلاد رسول السلام، السيد المسيح، عيسى عليه السلام، وبداية العام الميلادي، لعل المناسبتين تكونان بوابة أمل بتحقيق الأماني بأن يسود الأمن والسلام ربوع العالم.

في مثل هذه المناسبة، اعتادت المؤسسات الإعلامية ومراكز الأبحاث، أن تجري جرداً لأحداث العام الذي شارف على الرحيل. وبالمثل تقوم المؤسسات المالية بتقدير حسابات الأرباح والخسائر. كما جرت العادة تقديم قراءات استشرافية، عما هو متوقع من أحداث في العام الذي توشك شمسه على الشروق. وفي هذا السياق، يشط الخيال، وتنشط قراءة الأفلاك، وترتفع أصوات المنجمين، وتعم وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، قراءات لمنجمين رحلوا منذ وقت طويل، لينبؤونا بالمقبل من الأيام والأحداث، وأغلبيتها تعتمد على الحدس، ويغيب فيها التحليل العلمي.

ولأن الزمن هو حال مستمرة، وسلسلة ممتدة، فإن القراءة الاستشرافية للمقبل من الأيام تكون مبتسرة وتفتقر للموضوعية، إن تم فصلها عن الراهن. وذلك لا يعني أن ليس هناك مفاجآت وأحداث طارئة، تبرز على السطح، لكنها حتى وإن بدت مفاجئة، فإنها لا تخرج عن سياق التحليل، متى ما كانت القراءة للراهن دقيقة.

العام الجاري، كان صعباً على الجنس البشري بأسره، حتى وإن كان وقعه أشد صعوبة ومرارة على الشعوب الفقيرة، والدول النامية، فلم يكد العالم يفتح بوابات الأمل بالتغلب على وباء «كورونا»، حتى فتحت أبواب جهنم بالعملية العسكرية الخاصة، التي أطلقتها إدارة الرئيس بوتين في أوكرانيا. وقد تناولنا أسبابها، وتطوراتها في مقالات سابقة، ولن نعود لذلك. لكن ما يهمنا في هذا الحديث ونحن نعمل على تقديم قراءة استشرافية لعامنا الجديد، هو المستقبل.

لقد تسبب وباء كرونا، بأزمة اقتصادية عالمية، حيث أغلقت آلاف المصانع، في الدول الكبرى، ومنع السفر، وتوقفت الأنشطة السياحية، وتعطلت مصالح الناس. وجاءت الحرب على أوكرانيا، والعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الأوروبية على روسيا، لتخلق أزمة حبوب، وأزمة طاقة لم تعرفها البشرية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد ألقت هذه الأزمة بكلكلها على جميع شعوب العالم، ولكن النصيب الأوفر من هذه الأزمة كان من حصة الشعوب الفقيرة.

لم تكن الأزمة الأوكرانية معزولة عن الخلل الذي طبع موازين القوى الدولية، والذي كان في أساسه نتاج نهاية الحرب الباردة، وتفرّد قوة عظمى بمقادير السياسة الدولية، وعدم إدراك هذه القوة أن الزمن لا يتوقف، وأن هيمنتها على العالم، مهما كانت قوة قبضتها، محكومة بضعف خصومها، وبأسباب لا تمتلك قابلية الاستمرارية.

لقد خرج المارد الصيني من قمقمه، واستيقظ الدب القطبي. وكل تغير في موازين القوة، العسكرية والاقتصادية والسياسية، له استحقاقاته، في الداخل، وفيما وراء المحيطات. لكن السيد الذي أمسك بقبضته القوية، تناسى أن لكل كائن حيوي أو سياسي أمداً، وأنه لو دامت لغيرك ما وصلت إليك.

ففي غمرة التحولات العالمية، وتباهي اليانكي الأمريكي بجبروت القوة، برزت المطالبات من قبل القوى الصاعدة: الصين وروسيا والهند بالاستحقاقات، في صيغ عدة. ولأن للمواريث التاريخية قوة حضورها، فإن من البديهي أن يكون في مقدمة تلك الاستحقاقات مطالبة الصين بعودة جزيرة تايوان لأراضيها، وهو حق مؤجل استمر قرابة سبعين عاماً. وأن تطالب روسيا بمواريثها التاريخية، في شبه جزيرة القرم، وأن تتصدى للدفاع عن الناطقين باللغة الروسية في إقليم دونباس، والذين رفعوا راية المطالبة بحقوقهم الثقافية، قبل قرابة عقدين من الزمن.

هذا الخلل، والصراع من أجل تصحيحه سيكون أكثر دراماتيكية في عامنا المقبل، والقوات الروسية تقاتل بضراوة من أجل إلحاق الهزيمة بغرمائها، ليس في أوكرانيا وحدها، بل في أمريكا والقارة الأوروبية أيضاً. وبسبب ضراوة الأزمة الاقتصادية ستقوى روح التمرد لدى دول أوروبا الغربية، في وجه السياسة الأمريكية، وبشكل خاص لدى فرنسا وألمانيا، وهما الدولتان المثقلتان بمواريث تاريخية ضد السياسية الأمريكية.

وسيتصاعد الخلاف الأمريكي الصيني، وليس من المستبعد، قيام حكومة الصين الشعبية، باستعادة تايوان عنوة، والمؤشرات التي تشي بذلك كثيرة. والأغلب أن تعمل أمريكا على تحييد إيران عن الموقف الروسي، فتجري، إعادة تفعيل اتفاقية الأنشطة النووية، بين طهران وواشنطن برعاية مجلس الأمن الدولي.

وهناك احتمالات كثيرة، أن تتصاعد الحركات الاحتجاجية على الواقع الاقتصادي في بلدان العالم الثالث، ومن ضمنه أقطار عربية، وليس من المستبعد سقوط أنظمة سياسية في البلدان التي لا تملك مقومات بناء الدولة. وهناك قضايا أخرى كثيرة في هذه القراءة الاستشرافية ستكون محور لمناقشاتنا في أحاديث قادمة.