الدولة في ظل الاقتصاد السياسي لليبرالية الجديدة "مدبرة منزل" (الجزء الأول)

حجم الخط

لقد بدأت الدول الرأسمالية الصناعية، بالتخلي تدريجياً عن الكينزية منذ مطلع ستينات العشرين، ومن ثم التخلي عنها بشكل رئيسي منذ مطلع سبعينات القرن العشرين، لصالح العودة لليبرالية بثوب جديد أطلق عليه "الليبرالية الجديدة" التي كشفت عن وجهها البشع في حقبة كل من الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريجان ورئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارجريت تاتشر، وذلك في العقد الثامن من القرن العشرين الماضي والتي أطلق عليها حقبة "التاتشرية والريغانية"، ولا زال دورها قائماً حتى اللحظة الراهنة، رغم التراجع عنها مؤقتا إثر الأزمة المالية العالمية (2008).

فتراكم رأس المال الناجم عن اتجاه معدل الربح في قطاع الإنتاج، بدأ يميل إلى الانخفاض في نهاية خمسينات ومطلع ستينات الاقرن الماضي، ما أدى إلى توقف النموذج الكينزي عن فعاليته في ضمان التوازن الاقتصادي العام، وتخفيض حدة الأزمات الدورية، وفقدت آليات التدخل الحكومي مفعولها.

يضاف إلى ذلك أن "الكينزية" عجزت عن حل الأزمة التي ظهرت في مطلع سبعينات القرن الماضي، والتي تمثلت بحدوث ركود في الإنتاج مصحوبٌ لأول مرة في التاريخ الرأسمالي بارتفاع معدلات التضخم، ونمو واضح في معدلات البطالة، أي أن الظاهرتين اجتمعتا معاً فيما عرف "بالركود التضخمي Stagflation" ناهيك عما رافق ذلك من مشاكل أخرى مثل ظهور تدهور شديد في معدلات النمو وتردي في معدلات الأرباح وفشل ذريع في إدارة دولة الرفاه، إضافةً إلى استفحال التنافس بين المراكز الرأسمالية الأساسية، وانهيار النظام النقدي الدولي وتزايد عجز موازين المدفوعات وانفجار مشكلة المديونية الخارجية (1).

واندلع في ذلك الوقت صراع فكري واسع بين الاقتصاديين حول طبيعة السياسات الاقتصادية الاجتماعية، التي يتعين على الدولة الرأسمالية اتباعها لمواجهة هذه الأزمة، فكان أن حلت الليبرالية الجديدة بشكل رئيسي محل الكينزية، ملغيةً دور الدولة في النشاط الاقتصادي والتركيز بشكل مطلق على نهج الخصخصة.

الخصخصة تضعف القدرة التنظيمية للدولة

تؤدي خصخصة العالم، إلى إضعاف القدرة التنظيمية للدولة إذ إنَّ هذه الخصخصة تضع البرلمانات والحكومات تحت الوصاية وتفرغ من معناها معظم الانتخابات وكل عمليات التصويت الشعبية تقريباً، وتحرم المؤسسات العامة من سلطة التنظيم كما أنها تقتل القانون، فلا يبقى من الجمهورية التي ورثت عن الثورة الفرنسية سوى شبح (2).

ويشخص هذا الوضع "بورغن هابرماس" -الوريث الفكري والمؤسسي لمدرسة فرانكفورت والشارح للماركسيين القدماء -بما يلي:

"إن التوجهات نحو التغيير، التي تتم تحت اسم العولمة تلفت انتباهنا إلى تغير مجموعة تاريخية، تميزت بواقع أن الدولة والمجتمع والاقتصاد كانت تتوسع معاً بداخل حدود وطنية واحدة.. ونتيجةً لعولمة الأسواق، يتحول هذا النظام الاقتصادي الدولي الذي بداخله ترسم الحدود بين التجارة الداخلية والتجارة الخارجية، إلى اقتصاد متعدد الجنسيات... والمهم هنا بالدرجة الأولى تسريع حركة الرساميل في جميع أنحاء العالم، وإجراء التقييم النهائي لأماكن الإنتاج الوطني من قبل الأسواق المالية المنظمة على شكل شبكة على مستوى العالم. وهذه الوقائع تفسر لماذا لم يعد المسؤولون في الدولة يقومون الآن في الشبكة العالمية بوظيفة العقد (Noeuds)، التي كانت تفرضها عليهم في السابق بنية العلاقات بين الدول، حيث تجد الدول نفسها وقد احتوتها الأسواق بدلاً من أن تكون الاقتصاديات الوطنية محمية داخل حدود الدولة (Jurgens Habermas،Apres)".

وهناك سلطة جديدة تعمل على فرض نفسها، سلطة النهابين الذين يمارسون التخويف ضد الحكومات والبرلمانات والمحاكم والرأي العام كمؤسسات قامت على أساس ديمقراطي.

ويصف هابرماس منشأ هذه السلطة بما يلي:

"في ظروف التنافس الدولي، الذي اتخذ شكلاً حاداً من السباق على أماكن الإنتاج الأوفر دخلاً، وجدت المؤسسات نفسها مضطرةً أكثر من أي وقت مضى إلى زيادة إنتاجيتها وعقلنة العمل بمجموعها، مسرعةً بذلك العملية الطويلة الأجل التي تدفع بها التكنولوجيا نحو تقليص عدد فرص العمل.

إن تسريح العمال بالجملة، يوضح بجلاء سلطة التخويف التي تمتلكها أكثر فأكثر المؤسسات المتحركة، عندما تضعف بالتدريج تلك المؤسسات المرتبطة بالموارد المحلية.

وفي هذه الظروف تنشأ حلقة مفرغة، تتشكل من البطالة المتصاعدة وتراجع أنظمة الضمان الاجتماعي، التي لا تستطيع تلبية الحاجات من جهة وتناقص الواردات الضريبية من جهة ثانية، وفي مثل هذه الحالة تكون الحاجة ماسة إلى اتخاذ إجراءات لتنشيط الاقتصاد، ولكن بالقدر نفسه لا تستطيع الدولة القيام بذلك، لأن البورصات الدولية تكون قد تكفلت بتقييم السياسات الاقتصادية الوطنية".

ويضيف هابرماس: "تؤدي إزاحة السياسة من قبل السوق إذاً إلى واقع أن الدولة الوطنية تفقد قدرتها تدريجياً على تحصيل الضرائب وتنشيط النمو الاقتصادي وبالتالي تأمين القواعد الأساسية لشرعيتها... وواقع الحال أن هذا الغياب للدولة لا يحل محله أي بديل وظيفي.

وفي المواجهة المستمرة لخطر ترحيل الرساميل تلجأ الحكومات إلى سباق محموم لتخفيض التكاليف، عن طريق إلغاء جميع العوائق الإدارية وغيرها، وينتج عن ذلك تحقيق أرباح فاحشة وفوارق هائلة في الأجور، وزيادة البطالة والتهميش الاجتماعي لأعداد متزايدة من السكان الفقراء، وبمقدار ما تتعطل الظروف الاجتماعية اللازمة لمشاركة سياسية واسعة، فإن القرارات الديمقراطية ولو اتخذت وفقاً لإجراءات سليمة تفقد صدقيتها" (3).

الدولة تحت سطوة الشركات متعدية الجنسية

وحسب بعض الاقتصاديين، فإن دور الدولة في ضوء التراجع عن الكينزية وحلول مرحلة الليبرالية الجديدة محلها منذ منتصف ستينات القرن العشرين ضعف إلى حد كبير جراء النفوذ الهائل للشركات متعدية الجنسية، والشروط التي تفرضها على الدولة الوطنية، حيث تلجأ هذه الشركات إلى تهديد الدول بخروج وهروب رساميلها منها ما لم تستجب الحكومات لمطالبها وهي مطالب عديدة مثل: منحها تنازلات ضريبية سخية وتقديم مشروعات البنية التحتية لها مجانًا، وإلغاء وتعديل التشريعات التي كانت تحقق بعض المكاسب للعمل والطبقة الوسطى مثل: قوانين الحد الأدنى للأجور، ومشروعات الضمان الاجتماعي والصحي وإعانات البطالة، وبما يقلل مساهماتهم المالية في هذه الأمور، وخصخصة المشروعات وتحويل كثير من الخدمات العامة التي كانت تقوم بها الحكومات لكي يضطلع بها القطاع الخاص وإضفاء الطابع التجاري عليها (4).

وفي مرحلة العولمة النيوليبرالية، التي تمكنت فيها المنشأة عابرة القوميات، من الخروج عن نطاق الحدود الجغرافية للدولة لم تكتفِ بقدرتها على الالتفاف على الدولة والتملص ممـــــا يمكـــــن أن يفرض عليها من قيود، بل سعت إلى احتــــواء الدولة وتسخيرها لخدمتها فإذا بها -أي الدولة -تقتنع بدور "مدبرة المنزل" (House keeper) (5).

والفارق هنا بين السيطرة التي توفرت لرأس المال في ظل المنشأة الكبيرة في المرحلة السابقة لليبرالية الجديدة وبين الهيمنة التي تمارسها العابرة للقارات في مرحلة العولمة الليبرالية، هي أن الأولى كانت تسعى إلى السيطرة على الحياة السياسية حتى تضمن أن مجتمعها يتيح لها تحقيق أعلى ربحية داخله، وأن الدولة التي تنتمي إليها تشكل بما تمتلكه من عناصر القوة سنداً لها لتعزيز موقعها في الاقتصاد العالمي، أما الثانية فتمارس سلطانها من خلال الانتقال بمواطن نشاطها وفقاً لمدى استجابة الحكومات والدول المختلفة لمطالبها، ومدى سعي هذه الحكومات للقيام بما يلزم لخلق بيئة تتيح لها التنقل بنشاطها وممارسته بحرية تامة، بغض النظر عما إذا كانت تلحق أخطاراً باقتصاد هذه الدول.

يتبع...

المصادر:

1-سميح مسعود، الأزمة المالية العالمية، المركز الكندي لدراسات الشرق الأوسط، مونتريال، دار الشروق -رام الله، 2010، ص 18.

2- جان زيغلر، سادة العالم الجدد، مركز دراسات الوحدة العربية، ترجمة الدكتور محمد زكريا إسماعيل، الطبعة الأولى 2003، الطبعة الثانية 2004م، ص89.

3- جان زيغلر، المصدر السابق، ص90.

4- هانس بيتر مارتين، هارولد شومان، فخ العولمة، عالم المعرفة، عدد 238، ترجمة: عدنان عباس على، مراجعة وتقديم أ.د. رمزي زكى الأول، 1998، ص55-58.

5- د. محمد محمود الإمام، بحث بعنوان: الظاهرة الاستعمارية الجديدة ومغزاها بالنسبة للوطن العربي، في إطار ندوة منشورة في كتاب "العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي، تحرير د. عبد الباسط عبد المعطي، مركز البحوث العربية والجمعية العربية لعلم الاجتماع، الناشر: مكتبة مدبولي، القاهرة، ص88.