المسألة اليهودية والحل الصهيوني

حجم الخط

كُتب الكثير عن الحركة الصهيونية منذ تسلمتها يد هرتزل، الصحفي النمساوي الذي كان له الفضل في تجميع خيوط العون الإمبريالي وغير الإمبريالي ووضعها جميعاً في خدمة الصهيونية، التي تحولت على يديه إلى حركة سياسية لها مؤسساتها التنظيمية والمالية والسياسية.

وقد كان من أكثر الأمور إثارة للالتباس حول الحركة الصهيونية، أنها تبلورت كحركة سياسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهو الوقت الذي بدأت تتبلور فيه كثير من الحركات القومية في أوروبا الشرقية بوجه خاص مثل دول البلقان الغربية ومثل ألمانيا وإيطاليا اللتين كانتا تقومان بمهمة التحرر القومي وتوحيد البلاد في الوقت نفسه، وكان هذا هو أساس اللبس أو التزوير التاريخي لنشأة الحركة الصهيونية، المتمثل في تصديق الادعاء الصهيوني القائل بأن الحركة الصهيونية هي التي قادت ما يسمى بـ "حركة التحرر اليهودية" كانت حسب ذلك الادعاء جزءاً من تلك الحركات القومية التي كانت تتبلور في تلك الفترة.

ولم يكن هذا التزوير بلا أساس على أي حال، فقد كانت البرجوازية اليهودية هي التي تقوم بالدور الأساسي في تمويل وتسيير الحركة الصهيونية وتوجيه قادتها، فبدت وكأنها تقوم هنا أيضاً بقيادة حركة قومية شبيهة بالحركات الأوربية التي قادتها تلك البرجوازيات.

كما كانت هناك بعض الأسباب الثانوية لذلك الخلط، مثل علاقة زعماء الحركة الصهيونية ببعض قادة حركات التحرر في العالم، مثل علاقة هرتزل بغاريبالدي وعلاقة وايزمن بغاندي في مرحلة معينة.

لقد ساعدت كل هذه الأسباب وغيرها على حدوث ذلك اللبس حول ماهية الحركة الصهيونية، وهو لبس لا يزال له تأثير في بعض الأوساط اليسارية الأوروبية والأمريكية حتى الآن.

وبالطبع، فإن من المهم التصدي لهذا الموضوع لإزالة هذا اللبس، فكل أوجه تشابه الحركة الصهيونية مع حركات التحرر تقوم على مستوى الشكل، لكنها تصل إلى نقاط افتراق كبيرة واختلاف جوهري عند تلك الحركات عند الغوص في العمق لاكتناه الحقيقة، فالبرجوازية اليهودية الكبيرة هي التي دعمت ومولت الحركة الصهيونية، لكن ذلك لم يكن ضمن عملية تهدف إلى "تحرر اليهود" بقدر ما كان استثماراً من جانبها للمحنة التي تعرض لها هؤلاء في مشروع استيطاني، كان بدوره جزءاً من مجموعة مشاريع مماثلة في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية. وقد قامت بتمويل هذه المشاريع باعتبارها جزءاً من البرجوازية الأوروبية مسيحية ويهودية كنوع من حل لأزمتها وليس بهدف "التحرر".

وقد لاحظ الدكتور عبد الوهاب المسيري، عن حق، أن الدعوات الصهيونية لإعادة اليهود إلى فلسطين كانت تتوجه على الدوام إلى كبار رجال المال والسياسة في الدول الأوروبية الاستعمارية. وكان نموذجياً ضمن هذا الإطار أن يتوجه "هرتزل" في دعوته الصهيونية إلى رجل المال الفرنسي اليهودي روتشيلد، فجاء عنوان كتاب هرتزل الأساسي "دولة لليهود ": نداء إلى عائلة روتشيلد".

أما ما يسمى باليسار الصهيوني الذي كانت تشوب بعض كتاباته رطانة ماركسية يسارية، فقد كان جزءاً أساسياً من الحركة الصهيونية بنفس ارتباطاتها البرجوازية.

وعندما ظهرت الحركة الصهيونية بصورتها في أواخر القرن التاسع عشر، كانت قد تحولت من حيث الجوهر إلى حركة سياسية متدثرة بغطاء ديني رقيق. لكن الإيمان الديني لم يكن جوهرياً بالنسبة لقادة الحركة الصهيونية ومنظريها. وقد لخص "م.ا. جولدنبرج" الوضع المتداخل بين الحركة الصهيونية والدين اليهودي في تلك الفترة كما يلي: "بمقدار ما كانت الصهيونية توسع نفوذها وتصبح تدريجياً الأيديولوجيا السائدة للبرجوازية اليهودية كان الكهنوت اليهودي يعتبر ليس فقط مفيداً وإنما ضرورياً بشكل جذري".

لقد جاءت استفادة الصهيونية من الأساطير الدينية اليهودية بنفس الأسلوب الذي عادت فيه البرجوازيات الأوروبية المسيحية إلى الاستفادة من المقولات التي كانت ترفضها سابقاً، ومنها المقولات الدينية التي كانت قد شنت عليها هجمات عنيفة، لكنها لم تعد ترى مانعاً في فترة لاحقة من العودة إليها في سبيل تنفيذ مآربها الاستعمارية كما هو الحال بالنسبة للتيارات اليمينية المتطرفة –حكومة بوش والمحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وحكومة نتنياهو وليبرمان في "إسرائيل" – التي تتخذ من الدين غطاء لسياساتها.

وليس أدل على كل هذا الرياء الديني من أن معظم قادة الحركة الصهيونية لم يكونوا معروفين بتدينهم، بل على العكس من ذلك، كان معظمهم من المتنورين المندمجين سابقاً، أو من "اليساريين" أو الليبراليين أمثال هرتزل وبنسكر وهس، بل إن بعضهم كان رافضا للدين اليهودي برمته، فتيودور هرتزل "تعمد انتهاك العديد من الشعائر الدينية اليهودية حين قام بزيارة المدينة المقدسة" و "كان ماكس نورداو ملحداً يجهر بإلحاده" وكان حاييم وإيزمن يتلذذ في بعض الأحيان "بمضايقة الحاخامات بشأن الطعام المباح شرعاً".

وعلى أي حال فإن مساجلات لينين مع حزب البوند الروسي الذي كان يدعي تمثيل البروليتاريا اليهودية، وكتاب ستالين الشهير" الماركسية والقضية القومية" يعتبران من كلاسيكيات الكتب التي تبين تهافت منطق الفكرة القائلة بوجود قومية يهودية تهدف الحركة الصهيونية إلى تحررها.

ومع ذلك فإن من الصعب القول إن الالتباس قد انتهى تماماً خاصة بعد قيام "إسرائيل"، مما أضاف وهما جديداً حول "تحقق هدف الصهيونية" في إنشاء دولة مستقلة لليهود. لكن قيام "إسرائيل" لم يكن تحقيقا لهدف تحرري، بل جاء ترجمة عملية بشعة لهدف إمبريالي بحث في "إقامة قلعة محصنة للإمبريالية في المنطقة العربية" كما أخبرتنا وقائع التاريخ.

وعلى الرغم من أن قيام "الدولة اليهودية" قد أدخل عنصراً جديداً أخل بمجمل المعادلات الأساسية في المنطقة إلا أنه لا يغير من جوهر الصهيونية، التي رأيناها تتطور من أفكار دينية غامضة برزت وانتشرت من تبلور الفكر البرجوازي الأوروبي ثم تحولت إلى فكر استغلالي استعماري، ثم إلى حركة سياسية غايتها الاستيطان في فلسطين ، لا من أجل تخليص اليهود من عذاباتهم ، بل من أجل أن تكون قلعة للإمبريالية تحول دون تهديد مصالحها في استغلال ثروات الشعوب العربية والإسهام في استمرار تبعية وتخلف بلدانها، واحتجاز تطورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي كضمانة وحيدة لحماية المصالح الإمبريالية، عبر أنظمة عربية فقدت في معظمها وعيها الوطني والقومي بعد أن أقدمت على الاعتراف بمشروعية دولة العدو الإسرائيلي، وأصبحت جزءاً من التحالف الإمبريالي المعادي لأهداف وتطلعات الشعوب العربية صوب الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

وهنا بالضبط تتجلى بوضوح الرؤية الموضوعية الثورية للصراع مع العدو الصهيوني وحليفه الإمبريالي، كصراع عربي من خلال الانطلاق مجدداً من ضرورة النضال القومي الذي يعني العلاقة الجدلية والعضوية بين القضية الفلسطينية والقضية القومية العربية، بمثل ما يعني وحدة البرنامج القومي، التحرري الديمقراطي، الهادف إلى تحقيق نهضة شعوبنا وتقدمها، الأمر الذي يفرض على كافة قوى اليسار القومي العربي عموماً والجبهة الشعبية على وجه الخصوص، التفكير جدياً في إعادة احياء الفكرة التوحيدية القومية المترابطة تاريخياً ومصيرياً بالمسألة الفلسطينية، وما يتطلبه ذلك من تفعيل عملية التغيير الوطني الديمقراطي في إطار تجديد المشروع النهضوي القومي المقاوم، شرط الانطلاق بداية من رؤية ثورية واقعية جديدة لحركة التحرر القومي باعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تناقضات المجتمع العربي الحديث وضرورات تطوره المستقبلي.

الصهيونية والرأسمالية العالمية: نشأت الصهيونية كأيدلوجية وتنظيم في نهاية القرن التاسع عشر، في عصر الصراع الطبقي الحاد الذي خاضته البروليتاريا العالمية، في مرحلة التحول النهائي للرأسمالية إلى الامبريالية.

كانت الصهيونية بحكم نشاطها أحد ملحقات الأيديولوجية الإمبريالية، ولهذا فلا ينبغي لأحد أن يدهش للتناقض بين شكل الصهيونية وبين مضمونها الحقيقي.

تكونت المنظمة الصهيونية العالمية في المؤتمر الدولي الأول للصهاينة الذي انعقد في بازل بسويسرا في أغسطس 1897، واستلهمت نشاطها المنظم بالتزييف، فهي لم ترض بتاريخ ميلادها، لهذا راحت الدوائر الصهيونية والمشايعة لها، تنشر على أوسع نطاق، خرافة مؤداها ان الصهيونية "التي تدعو لإقامة دولة يهودية" هي ظاهرة قديمة قدم العالم، ذلك ان اليهود على امتداد ألاف السنين كانوا دوماً يحلمون بيوم "العودة إلى فلسطين"، والمثير حقاً أن هذه المزاعم لا تزال قائمة حتى أيامنا هذه. إذن فلمن ولماذا اختلقت أسطورة عراقة الصهاينة؟

بالطبع كان انهيار النظام الإقطاعي، والنمو العاصف للرأسمالية، وظهور طبقة البروليتاريا في أوروبا، والثورة البرجوازية الفرنسية، تلك التحولات العملاقة ذات التأثير البالغ على مصائر شعوب العالم اجمع، قد كانت أقوى من قدرة الأسوار التي ضربت في العصور الوسطى حول الجيتو اليهودي.

لقد شهد عصر الرأسمالية تداعي أسوار الجيتو اليهودي، وعودة الحيوية من جديد إلى عملية اندماج اليهود في الشعوب التي يعيشون على أرضها، تلك العملية التي كانت قد توقفت نسبياً في العصور الوسطى.

وقد أشار فلاديمير ايليتش لينين إلى أن "سقوط العصور الوسطى، ونمو الحرية السياسية في أوروبا قد اقترن بالتحرير السياسي لليهود، وتحويلهم عن اللكنة الطائفية إلى لغة الشعب الذي يحتويهم، وعلى العموم فقد كان اندماجهم في بقية السكان خطوة لا شك في تقدمها، لكن عملية الاندماج التي توقعها لينين لم تتحقق، حيث استطاعت أنظمة الرأسمالية الأوروبية، خاصة البريطانية، تفعيل الحراك الصهيوني في خدمة التوسع الاستعماري وحماية المصالح الرأسمالية الاستعمارية والإمبريالية، ومن ثم بلورة الحركة الصهيونية بعد الانتداب البريطاني على فلسطين، واسست الوكالة اليهودية وشجعت عمليات تهجير اليهود الى فلسطين تمهيداً لاغتصابها واستيطانها عبر قيام الدولة الصهيونية.

الصهيونية قد ظهرت على أي حال... فما هي الأسباب الرئيسية لظهورها؟

1- أن التناقضات بين انجلترا وفرنسا، ثم ألمانيا فيما بعد، فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط الذي كان لا يزال واقعاً في نطاق الإمبراطورية العثمانية الآيلة للسقوط، والصراع المرير بين هذه الدول الاستعمارية على التقسيم النهائي لتركة الإمبراطورية التركية، إن هذه العوامل كانت تفرض على الأفراد المتصارعة البحث عن مبررات مقبولة لتوسيع مجال نفوذها.

- كانت فكرة توطين اليهود في فلسطين التي سعت الدوائر الحاكمة البريطانية بدأب وإصرار لتحقيقها، تبدو أفضل شكل مناسب للاستعمار (كان بسمارك مستعداً هو الآخر لاستغلال نفس الفكرة بتوطين اليهود على امتداد خط سكة حديد برلين – بغداد)

- وعلى ذلك فقد كانت هناك مصلحة محددة ومباشرة لدى بريطانيا وفرنسا وألمانيا في دعم تلك القوى التي آلت على نفسها أن تقوم بدور المنفذ العملي للمشروع ذي الفائدة المشتركة وهو استعمار فلسطين أو استعمار بعض أجزاء الإمبراطورية العثمانية كما كان يخطط بسمارك.

2- أن اشتداد حدة الصراع الطبقي في مطلع القرن العشرين قد وضع الامبريالية امام ضرورة توحيد ودعم كافة القوى المعادية للحركة البروليتارية العمالية، ووحدتها وتضامنها. وعلى ذلك فقد كانت هناك مصلحة موضوعية اكيدة لدى كافة القوى الحاكمة في جميع الدول الاستعمارية بلا استثناء، في تبني واحتضان الصهيونية.

3- أن عملية الاستقطاب الطبقي، وتحلل الجاليات اليهودية، وطموح الكادحين اليهود إلى التحرر من سيطرة زعماء الجاليات في كل بلد توجد به تجمعات يهودية، إن ذلك كله قد أدى إلى ظهور وتجمع العناصر اليهودية الثرية ذات النفوذ المعرض للضياع، وذات الرغبة الموحدة في تنظيم صفوفها لاستعادة نفوذها وتأكيد زعامتها بأي وسيلة، وعلى ذلك فقد كانت هناك مقدمات سياسية كافية موضوعيا لظهور المنظمة الصهيونية العالمية.

وبعبارة أخرى، فان الصهيونية قد ظهرت في صورة المنظمة الصهيونية العالمية، والاحتكار الاستعماري اليهودي، كتجسيد مادي لمحاولات البرجوازية اليهودية الممالئة للاستعمار لاستعادة النفوذ والسيطرة على جماهير اليهود، وتعطيل عملية اندماج اليهود في الشعوب الأخرى – ذلك الاندماج الذي لا شك في تقدميته كما قرر لينين-، وخلق رصيد سياسي وبشري- على نطاق كل بلد كما على نطاق العالم بأسره- يكون دوماً على أهبة الاستعداد لخدمة أهداف ومصالح الحليف الرئيسي والشريك الأقوى للصهيونية أي أقوى الدول الامبريالية نفوذا في كل فترة تاريخية.

وهكذا يبدو بوضوح لا يقبل الشك أن شعار "الدولة اليهودية" الذي ارتفع في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان مجرد أداة، فالقادة الصهاينة كانوا ينظرون باستمرار إلى إنشاء الدولة اليهودية، ليس كهدف في حد ذاته وإنما كأداة لتحقيق أهداف أخرى أكثر شمولا وخطورة وتتلخص في السيطرة المطلقة على اليهود، وتحقيق مزيد من الثراء الذي يمكن من فرض النفوذ والتحكم، ودعم الاستعمار العالمي والدفاع عن مصالحه.

إن الذين يروجون أسطورة "عراقة الصهيونية"، إنما يسعون في حقيقة الأمر إلى إخفاء المضمون الطبقي الحقيقي للصهيونية وأطماعها ومخططاتها التوسعية، كما يسعون إلى طمس معالم الميلاد الحقيقي للصهيونية وأسباب وملابسات ظهورها.