مسألةُ القوميّةِ اليهوديّة...!

حجم الخط

من جديدٍ تعودُ المسألةُ اليهوديّةُ محلَّ بحثٍ بعد ما أنتجه صندوقُ الانتخاب الأخير، الذي أفرز مجموعةً من المسكونين علنًا بخليطٍ من الهواجس الكامنةِ في المشروع القوميّ، الذي أعيد إنتاجُهُ مفتقرًا للجغرافيا التي كان يجب الاستيلاءُ عليها من الآخر؛ لتبلور المشروع الباحث عن أرضٍ يعلنُ فوقها أنّه "هنا أقيمت دولة اليهود".

جملةٌ من الالتباسات الهائلة تقفُ أمامَ الباحثين في المسألة اليهوديّةِ المستمرّةِ في إثارةِ الصخب حتى بعد وقوفها على الأرض لم تكن قد حسمت أمرَ هُويّتِها؛ وهي تحاولُ أن تخفّفَ من جرعة الدين في المكوّن العام، لكنَّ المسارَ التاريخيّ كان يتطوّرُ نحو إشهار الزّواج الشرعيّ المبكّر بينهم.

أولى تلك الالتباساتِ حولَ جذورِ القوميّةِ التي لم تكن قد ولدتْ لولا الشريعة بغض النظر عن كلِّ القراءات التي حاولتْ أن تقدّمَ قراءات القرن ونصف الأخيرين وبروز "المسألة اليهوديّة" قضيّةً وإضفاء طابع التفسير التاريخي وعلاقته بالبرجوازيّات الأوروبيّة، لكنّ الجذر الأوّل للجماعة كما يسمّيها الكاتب إيلان هليفي "القبيلة" كان مرجعه اثني عشرة سبطًا، وقبلهم كان يدرج المسألة حسب النصوص الموجّهة من بدايات الخليقة بفرز أبناء نوح حام وسام ويافت، حيث إنّ المطلوبَ هو تتبّعُ سلالةِ الأوسط بينهم، وهي التي ستشكّلُ تلك القبيلة.

وبغض النظرِ عمّا كتبه شلومو ساند من أنّ "فكرة مثقفين ألمان من أصلٍ يهوديٍّ أخذوا على عاتقهم اختراع شعبٍ بأثرٍ رجعيّ" لكن الربع الأخير من القرن التاسع عشر شهد بروز ما عُرف بالمسألة اليهوديّة بعد أن غطّت في سباتٍ لقرونٍ بين المجتمعات الأوروبيّة والعربيّة كان من الطبيعيّ أن تكفي للاندماج الكامل في قوميّاتٍ أخرى، لكن مسألتين أدّتا الدور الأكبر في الحفاظ على التجمّعات اليهوديّة الأولى هي توارثُ الديانة، والثانية ثقافةُ الغيتو التي أبقت اليهود في تجمّعاتٍ خاصّةٍ معزولةٍ عن باقي المجتمعات التي يعيشون فيها محافظين على مجموعةٍ بسماتٍ خاصّةٍ دينيّةٍ واقتصادٍ خاصّ، وهما العنصران الأكثر تأثيرًا في صياغة هُويّة الجماعات.

بالعودة للتاريخ يمكنُ التقديرُ بأنّ إعادةَ احياءِ القوميّة الجماعيّة جاء إثرَ الثورات في أوروبا التي فتحت مجالًا للمساواة، ومتّسعًا للمشاركة اليهوديّة في المجتمعات ليتنامى لدى اليهوديّة عنصرُ تهديدٍ بالاندماج والذوبان متزامنًا طبعًا مع ظروف ومناخات ما بعد الثورة الصناعيّة واتّساع التجارة وسيطرة الرأسماليّات ونذر القوميّات الأوروبيّة التي بدأت تُطرح هُويّةً للمجتمعات وتسبّبت بصراعاتٍ وحروب.

اليهوديّةُ تميّزتْ عن باقي القوميّات بأنّها استمدت قوميتها من الدين، وهذا لم يحدث في التاريخ، وهنا سرُّ الحديث الزائد حدّ الهوس عن البعد القومي للدولة، رغم ألا أحد يتحدّث عن قوميّات الدول في العصر الحالي، بل تمرُّ في إطارِ بُعدٍ تعريفيٍّ عامٍ يتعلّقُ بالهُويّة، لكنّه في إسرائيل يطرحُ باعتبارِهِ مسألةً وجوديّةً ومن هنا تجدُ لها متّسعًا في النقاشات البرلمانيّة بشكلٍ يثيرُ ما يكفي من الإشكاليّات التي تصطدم مع الأقليّة الأصلانيّة في البلد، التي شكّلت هُويّته فيما تبحث اليهودية في الآثار ما يؤكّدُ وجودها القوميّ رغم فقر المكتشفات الأثريّة التي أحدثت ما يشبه فقدان الثقة؛ الأمر الذي بات يتطلب تعزيز القومية بمنطق الإغراق في الكتب والأحاديث القديمة، وهو ما التقطه شلومو ساند وهو يبحثُ في هذا الشكل الهجين من التاريخ.

أقام بن غوريون دولةً قوميّةً لشتاتٍ عائدٍ من أوروبا بعد عصر القوميّات، التي هزمت في الحرب العالمية الثانية حاول أن يضع أسسًا علمانيّةً تتلاءمُ مع مخرجات ثقافة ما بعد الحرب متكّأً على التراث الأوروبي الذي انسلخ عن الدين بعد الثورة العلمانيّة، لكن الالتباس في اليهوديّة كان أكبر من إمكانيّة فصل المسألتين ففيما كانت الديانتان الإسلامية والمسيحية دياناتٍ تبشيريّةً جمعت تحت هيمنتها قومياتٍ متعدّدةً ظلّت اليهوديّة ديانةً مغلقةً تنحصر في طائفةٍ معينةٍ، لذا كان طغيانها بالمعني الديني أكبر كثيرًا من طغيانها القومي وبينما كانت الديانات الأخرى تحلُّ ضيفةً على قومياتٍ عريقةٍ لم تتلبسها رغبة التنميط كانت اليهوديّة هي المنتج الأصلي والأول للقومية وهنا بدت المسألة بحاجةٍ لقراءةٍ مختلفةٍ في سياق قراءة تاريخ القوميّات.

هذا التمايزُ بالقطع لم يكن في صالح اليهوديّة التي أثقلها الدين بإرثه غير القابل للتطوّر وإبقائها أسيرةَ عصوره القديمة الموجودة في الكتب، فجميع القوميّات كانت مصدرَ فخرِ أبنائها، وجزءًا من الهُويّة المعرفيّة يتباهون بارتباطهم وانتمائهم لها، لكن القوميّة اليهوديّة المثقلة كانت مبكّرًا تقسمُ العالم إلى قسمين تضع أبناءها "الأخيار" قيمةً عليا لا مثيلَ لها في كفة، وباقي العالم "الأغيار" في مرتبةٍ أدني، كان ذلك وسيظل مصدرًا إشكاليًّا يتعلّقُ بقدرة تلك القومية مع التعايش مع الآخر ونجاحها في الإفلات من قيد التصنيف الذي لا يمكنُ الإفلات منه؛ لأنّه ربط نفسه مبكّرًا بحبل؛ يعني الإفلات منه انتفاءُ كلّ شيءٍ؛ وأوّلُها ارتباطُ دولة القومية بالجغرافيا، وطرح سؤال على المشروع برمته.

لأسبابٍ ما في ذروة حرب النكبة بقي 156 ألف فلسطيني حاولت العلمانيّةُ اليهوديّةُ استيعابهم في حدودها قوميّةً أخرى، يمكن الاستفادة منها، لكن الانزياح الحاصل نحو الدين كان يدفع إسرائيل للتأكيد على قوميّةٍ لم تستقرَّ بعدُ في ثمانينات القرن الماضي؛ لتؤكّد على تعريفها القوميّ في الكنيست؛ متجنّبةً خلق حساسيّاتٍ مع العالم، لكن في العقد الأخير عادت لتطرح المسألة مع تقدم اليمين لتعيد تشريع قانون القومية عام 2018 تعلن عن نفسها بلا خجلٍ بأنّها دولةٌ يهوديّةٌ وتتنكّر للأقلية الأصلانيّة الكبيرة ولغتها، فقط هي دولةٌ إثنيّة، لقوميّةٍ محدّدة، وإن كانت قد وضعت سابقًا وصف الديمقراطيّة إلى جانب كلمةٍ يهوديّةٍ رغم أن الديمقراطيّة على خلافٍ شديدٍ مع المكوّن الديني وتفاصيله؛ سواءً نظام الحكم أو بعلاقتها بالآخر لكنها باتت تتخلّى عن ذلك الوصف لصالح القوميّةِ الدينيّةِ السافرة.

هل جرى "اختراع القوميّة " كما يقول شلومو ساند؟ فالقومية ارتبطت دومًا بالتراكم التاريخي على الجغرافيا كما هُويّة الشعوب التي وجدت نفسها تتمايز قوميًّا وهويّاتيًّا، لكن يجمعها قيمٌ عامّةٌ مع باقي الشعوب. فهل كانت القوميّةُ اليهوديّةُ جزءًا من تلك المنظومة؟ فلا الجغرافيا سوى أحداثٍ دارت على أرضٍ متخيّلةٍ كما اختلف الباحثون على توصيفها، أبرزهم كبيرُ علماء الآثار الإسرائيليّين يسرئيل فلكنشتاين، وكذلك عالم الآثار زئيف هرتسوغ وكلاهما قال ما يشكّك بالرواية التاريخيّة ومن ثَمَّ نسف الارتباط بالجغرافيا.

وبالمقابل أيضًا يمكنُ لعلماء السيسيولوجيا تقديم ما يكفي من القيم العامة لقراءةِ قوميّةٍ تستندُ للتراث وتضعُ نفسها حالةً مميّزةً أعلى من بقية البشر، وقد اتّخذ ذلك طابعًا مقدّسًا وليس طابعًا وطنيًّا قوميًّا فحسب ما يعني تلقائيًّا تقديس نزعة دونيّة الآخرين، هذا الأمرُ الذي يعاد البحث فيه مع مستجدات السياسة في حكومةٍ تتشكّلُ باتت تقدّمُ وجهها القوميّ الدينيّ كما هو ومتنازلة عن القوميّ العلمانيّ الذي حاولته منذ البدايات، لكن المحاولة لم يكتب لها النّجاح؛ لأنَّ الجذورَ أقوى كثيرًا من أيّ عمليّة تعديل، وتلك هي الحكاية التي كلّما أوغلت في ذاتها وجدت نفسها تبتعدُ عن القيم العالميّة أكثر.

ولكنّ قوميّةً تستندُ إلى مرجعيّاتٍ مقدّسةٍ تحملُ بذورَ التمييز لا تتوقّف عن الآخر المنصوص عليه بقدر ما أن تلك السمات دائمة الحركة والتنقّل، تصلُ للداخل اليهوديّ نفسه لتتحوّلَ إلى القوميّة الأولى التي تأكلُ من رأسمالها الداخليّ وتلك روايةٌ أخرى.