محطّاتٌ كفاحيّةٌ في سفرِ ضميرِ الثّورةِ وحكيمها الدكتور جورج حبش

حجم الخط

يصعبُ على أيِّ كاتبٍ أن يتناولَ دورَ حكيمِ الثّورة في ذكرى رحيله، خشيةً من أنّ المقال أو البحث لن يعطيَهُ حقّه، في ضوء ما مثله على مدى ستة عقود، من رمزيّةٍ كفاحيّةٍ هائلةٍ على الصعيدين الوطنيّ والقوميّ والأمميّ، وما تركه من تراثٍ نظريٍّ وقيميٍّ ومناقبَ ثوريّةٍ وإنسانيّة، جعلته محطّ احترامٍ وتقديرٍ لدى قوى التحرّر والتقدّم في الوطن العربي وفي العالم، ومحطّ اهتمامٍ لدى معسكر الأعداء بمحاولتهم اغتياله أو اعتقاله بالنظر لما شكّله من خطورةٍ على نهجهم الاستعماري الكولونياليّ.

كما يصعبُ على أيّ باحثٍ أن يتناولَ تجربته على كافة الصعد الوطنيّة والقوميّة والأمميّة والإنسانيّة في بحثٍ بعددٍ محدودٍ من الكلمات وَفْقَ مقتضيات النشر، لذا سأتناول تجربة الدكتور جورج حبش على الصعيد الفلسطيني، في أبرز المحطّات على امتداد حياته حتّى رحيله عام 2008، ودور حركة القوميين العرب في خمسينات وستينات القرن الماضي، بقيادته بتوفير حاضنة للشقّ الوطني الفلسطيني، للشروع في نهج المقاومة المسلّحة.

المحطّة الأولى: الشروعُ في الكفاح المسلّح وتأسيس إطارٍ كفاحيٍّ قوميٍّ عربيّ:

عايش الدكتور جورج حبش مأساة نكبة عام 1948 بكل تفاصيلها وما تضمنته من مجازر وتنكيل بحقّ أبناء شعبه، وما نجم عنها من تهجير وطرد ما يزيد عن (800) ألف فلسطيني ومن ضمنها رحلة اللجوء المضنية خارج مدينة اللد مع أسرته ومع آلاف اللاجئين، التي جاءت بعد انسحاب جزء من قوات الإنقاذ من المدينة بتوجيهٍ من الجنرال البريطاني "غلوب-باشا".

 وقبل رحلة اللجوء القسري، عايش وشاهد جورج حبش، قصف مدينتي الرملة واللد بالطيران، ومشاركة عدّة ألوية في احتلال المدينتين بإمرة كلٍّ من إيجال آلون، واسحق رابين، وكذلك مجزرة اللد التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بقيادة رابين في العاشر من يوليو (تموز) 1948، وأسفرت عن قتل 500 فلسطيني، بعد أن جرى تجميعهم في مسجد "دهمش"(1).

بعد ثلاث سنواتٍ من عمر نكبة عام 1948، وبعد عودته لإكمال دراسة الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت، وضع د. جورج حبش نصب عينيه وعلى رأس اهتماماته، السعي الجاد لتشكيل إطارٍ تنظيميٍّ قوميّ، ببرنامجٍ سياسيٍّ وكفاحيٍّ للردّ على اغتصاب فلسطين من قبل العصابات الصهيونية المدعومة من الإمبرياليتين البريطانية والأمريكية، فكان له قصب السبق في إيجاد الآلية التنظيمية التي تربطُ بين البعد القومي والبعد الفلسطيني، ابتدأت بتشكيل لجنةٍ تنظيميّةٍ من مختلف الأقطار العربية، مهمتها الشروع في تأسيس حركةٍ قوميّة، ضمّت كلًّا من: وديع حداد (فلسطين)، وصالح شبل (فلسطين) وحامد جبوري (العراق)، وأحمد الخطيب ( الكويت )، وهاني الهندي (سوريا)، التي أسفرت لاحقًا عن تأسيس حركة القوميين العرب من خلال مؤتمر عقد في الأردن عام 1956. وقد أدّت الحركةُ مبكرًا دورًا مهمًّا، في الحفاظ على الهُويّة الفلسطينيّة من خلال تميّزها عن بقية الأحزاب القوميّة وغيرها، ارتباطًا ببرنامج عمل الحركة، الذي جمع منذ البداية وبشكلٍ واضحٍ بين البعدين القوميّ والفلسطينيّ، في إطار علاقة الخاص الوطنيّ بالقوميّ العربيّ.

وفي إطار بلورة الهُويّة الفلسطينيّة الكفاحيّة، قام الحكيمُ مع رفاقه في الحركة بتأسيس "كتائب الفداء العربي"، وعندما استقرَّ في أواخر عام 1951 في عمان، كان قرارُ جورج حبش الحازم باتباع أسلوب العنف المسلّح ضدّ (إسرائيل)، ومن هنا شرع ولا سيما بعد التحاق الدكتور وديع حداد به عام 1952 بتأسيس أوّل نواةٍ فدائيّة، قام بتسريبها إلى الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، إلا أنّ قوات غلوب باشا تمكنت في حينه من وضع العراقيل أمام دخولها للأراضي المحتلة (2).

يقول د. حبش بهذا الصدد: "في بداية التجربة كانت مجموعاتنا المسلّحة، تنجح في الدخول إلى الأراضي المحتلّة، وتقوم ببعض العمليات البسيطة نسبيًّا ضدّ الصهاينة، لكنّها على بساطتها، كانت تنعشنا كثيرًا، وتشعرنا بأنّنا نفعلُ شيئًا ضدّ العدوّ الصهيوني الذي اغتصب أرضنا، لكن بعد مضي بضعة شهور، أصبحت هذه العمليّات أكثر تعقيدًا، فلم تعد عمليّات التسلل إلى المناطق المحتلّة عام 1948، سهلةً كما كانت في بداية التجربة، وذلك بسبب تشديد الحراسة التي كان يقوم بها الجيش الأردني على المناطق الحدودية، إذ إنّه وعند نجاح شخصٍ ما أو مجموعةٍ ما في التسلل داخل مناطق الكيان الصهيوني، ونجاحها في توجيه ضربة، كانت العودةُ للضفة الغربيّة أصعب بكثيرٍ مما كانت عليه سابقًا، وهو ما جعلنا نعتقد بأن هنالك تنسيقًا بين دولة العدو وقيادة الجيش ممثّلةً "بغلوب باشا"، بحيث يخبر العدو قيادة الجيش بحدوث عمليّةٍ ما في منطقةٍ محدّدة، فيتخذ الجيش الأردني الإجراءات المشددة لإلقاء القبض على الفدائيين في طريق عودتهم إلى الأردن"(3). 

وما أن نجح جورج حبش ورفاقه في الحركة في إقامة حلقاتهم السريّة الأولى عام 1951 حتى انصرفوا مباشرةً لمعالجة القضية الفلسطينية، ومن ثم أعلنوا عام 1952، عن قيام منظّمتهم هذه تحت اسم "هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل"، التي أصدرت نشرةً أسبوعيّة اسمها "الثأر" وكما تشير هاتان التسميتان، فإنّ درجة انشغال الحركة بالهموم الفلسطينية كانت على قدرٍ كبيرٍ من الوضوح والتركّز" (4).

 لقد عمل د. جورج حبش ورفاقه في قيادة الحركة على تشكيل أطرٍ فلسطينيّةٍ بعد قيام الجمهورية العربيّة المتّحدة، وذلك في إطار فهمه القومي للقضيّة الفلسطينيّة، الذي يتلخّص بعنوان "الوحدة هي طريق تحرير فلسطين"، فلجأت الحركة إلى تشكيل لجنةٍ من كلٍّ من: الدكتور جورج حبش والدكتور وديع حداد، وأسامة النقيب (من فلسطينيي سورية)، وأحمد اليماني، وعبد الكريم حمد (من فلسطينيي لبنان)، زاهي قمحاوي (من فلسطينيي الأردن)

 وقد عدَّ الدكتور جورج حبش تشكيلَ هذه اللجنة، استجابةً لواقعٍ جديد، أكثر منها نزعةً مسبقةً لإقامة تنظيمٍ قطريٍ فلسطيني، وكانت (الحركة) مضطرّةً لتشكيل هذه اللجنة وتفعيل عملها للقيام بدورها المطلوب، حتى تتمكن من الاتصال "بتشكيل الفدائيين الفلسطينيين" في جيش الإقليم الشمالي (الجيش السوريّ سابقًا) وبكلامٍ آخرَ كانت "لجنة فلسطين "لجنة" وليس تنظيمًا(5).

 ودفع جورج حبش لاحقًا مع بقية رفاقه في اللجنة، تجاهَ تشكيل إقليم فلسطين عام 1964 في الحركة، وإنشاء تنظيم شباب الثأر، والبدء في تخزين الأسلحة في المناطق المحتلة، للبدء في مزاولة الكفاح المسلح بالتنسيق مع جمال عبد الناصر وفق شعار "أعلى من الصفر وأقل من التوريط".

وبدأ إقليم فلسطين منذ مطلع الستينات، الاهتمام بالتدريب العسكري عن طريق تشجيع الشبان المنتمين إليه على الالتحاق بالكليات الحربيّة في كلٍّ من مصر، وسوريا، والعراق، وعن طريق الاتفاق مع القيادة المصرية على تنظيم دوراتِ تدريبٍ عسكريٍّ في "أنشاص" بمصر.

 وفي نهاية سنة 1964، انطلق النشاط العسكري لـ "إقليم فلسطين" وارتقى أوّل الشهداء، وهو خالد أبو عيشة، في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1964، كما استشهد في سنة 1966، كلٌّ من محمد اليماني، ورفيق عساف، وسعيد العبد سعيد، وأسر المناضل سكران سكران.

 وجرت عمليات "إقليم فلسطين" العسكريّة عبر مجموعات "أبطال العودة"، التي ضمّت مناضلين من حركة القوميّين العرب ومن جيش التحرير الفلسطيني، وعبر التنظيم الفدائي الذي شكّله الإقليم باسم "شباب الثأر"، بيد أن تلك العمليات ظلّت محدودةً في تلك الفترة ولا يُعلن عنها غالبًا، وذلك تجنّبًا لتوريط الدول العربيّة، وتحديدًا مصر وسورية، في حرب مع إسرائيل ليستا مستعدتين لها، وهو ما عبّر عنه شعار "فوق الصفر وتحت التوريط (6).

المحطّةُ الثانية: مشاركة حركة القوميين العرب في المؤتمر الفلسطيني الأوّل في القدس عام 1964

كان للحركة حضورُها الرئيسي في الشارع الفلسطيني عشية تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، ما أثار حفيظة الشقيري الذي اتّخذ موقفًا سلبيًّا من الأحزاب القوميّة والمنظّمات الفلسطينيّة، وعلى رأسها حركة القوميين العرب، خاصّةً وأنّ الحركة رغم تأييدها لفكرة تأسيس منظمة التحرير الفلسطينيّة، إلّا أن دكتور حبش خاصّةً وقيادة الحركة اتّخذت موقفًا نقديًّا من تركيبة المؤتمر الفلسطينيّ الأوّل الذي عقد في القدس الذي ضمّ أغلبيّةً ساحقةً من ممثّلي الفئات العليا من الرأسماليّة الفلسطينيّة، ممن يديرون أعمالهم في البلدان العربيّة، ومن ممثلي الفئات الوسطى، ومن رؤساء البلديات في الأردن، وليضم إلى جانبهم أعدادًا ضئيلةً من ممثّلي المنظّمات الفلسطينيّة الجديدة والأحزاب  القوميّة (7).

 ورغم موقفها النقدي من نهج الشقيري الفردي ممثّلًا في اختيار معظم أعضاء المؤتمر وأعضاء اللجنة التنفيذية، إلا أن الحركة أسهمت بجد في الإعداد لمؤتمر القدس، لضمان الحد الأدنى من الثورية فيه، على الرغم من أنّ عدد القوميّين العرب في المجلس الوطني لم يكن كبيرًا، وذلك أمام الضغوط التي يتعرّض لها من قبل الرجعيّة، التي لا تريد من الكيان أكثر من أن يكون كيانًا شكليًّا يجهض العمل الثوري الحقيقي الفلسطيني، ويعطي الفرصة لهذه القوى الرجعيّة لضرب القوى الثوريّة الفلسطينيّة" (8).

المحطّةُ الثالثة: محطّةُ تأسيس الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين

في 11 كانون الأول/ديسمبر 1967، أُعلن عن تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باندماج ثلاثة تنظيماتٍ فدائيّة، هي "شباب الثأر"، و"أبطال العودة"، و "جبهة التحرير الفلسطينية"، التي تأسست في سنة 1964، بقيادة الضابط الفلسطيني السابق في الجيش السوري أحمد جبريل.

وقد أدى د. حبش دورًا مركزيًّا في تأسيس الجبهة، التي أدّت دورًا بارزًا في الكفاح المسلّح، وفي العمليّات الفدائيّة النوعيّة، وحصلت على موقع نائب رئيس المجلس الوطني في دورة المجلس الرابعة (الدكتور وديع حداد) بعد استقالة الشقيري، وقاطعت الدورة الخامسة اعتراضًا على هيمنة فتح على المنظمة وحصولها على نصيب الأسد في عضوية المجلس (33) مقعدًا مقابل (12) للشعبيّة وحصولها أيضًا على نصيب الأسد في اللجنة التنفيذية للمنظمة برئاسة ياسر عرفات (9). وقد استشعر اليمين الفلسطيني والرجعيّة العربيّة، وبعض القوى القومية المنافسة خطورةَ حضور الجبهة على دورها، على الصعيدين العسكري والجماهيري، وعملت على تشجيع الحالات الانشقاقية، لكن كل ذلك لم يفت من عضد الجبهة وحكيمها، الذي خرج من معتقل الشيخ حسن  في سورية، إثر مكيدةٍ دبّرها عبد الكريم الجندي- مدير الاستخبارات السورية آنذاك، عام 1968، بعد أن أمضى فيه تسعة أشهر، استثمرها في دراسة الأدبيات الماركسية اللينينية وأدبيات حركات التحرر الوطني ليوظفها مؤتمر الجبهة  الثاني عام 1969 دون مغادرة منظوره القومي، بحكم أن القضية الفلسطينية قضيّةٌ قوميّةٌ بامتياز.

وقد حرص في المؤتمر أن تستند البندقية الفلسطينية إلى برنامجٍ سياسيٍّ واضح، يسترشد   بأيديولوجية الماركسية – اللينينية، وتبدى ذلك في التقرير السياسي والتنظيمي للجبهة (تقرير شباط): (الاستراتيجية السياسية والتنظيمية) عام 1969 الذي حدد بوضوحٍ معسكر الأصدقاء والأعداء (10).

المحطّةُ الرابعة (1973- 1977): موقف الحكيم من قضية التسوية وبرنامج النقاط العشر:

لقد كان  الحكيم دور ضمير الثورة الفلسطينية، ولم يهادن حيال أي منهجٍ قد يضرّ باستمرار الثورة حتى تحقيق أهدافها، لذا كان موقفه السياسي الرافض بعد حرب تشرين (1973) لبرنامج النقاط العشر، الناجم عن دورة المجلس الوطني الثانية عشرة  عام 1974، مثالًا يحتذى في النقاء الوطني المستند إلى إبداعٍ نظريٍّ وسياسيٍّ في تلك الفترة، عكس حالةً غير مسبوقةٍ في قراءة الواقع الناجم عن حرب تشرين، عندما بين في أطروحته النّظريّة أنّ ميزان القوى الناجم عن حرب تشرين في ضوء القرار 242 ومع العامل السوفييتي لا يمكن أن ينجز سلطةً وطنيّةً دون صلحٍ أو مفاوضاتٍ أو اعترافٍ بالكيان الصهيوني، أو دون حدودٍ آمنةٍ ومناطقَ مجرّدةٍ من السلاح وقوّات دوليّة"، وكان أن أدّى دورًا رئيسيًّا في تشكيل "جبهة القوى الفلسطينية الرافضة للحلول الاستسلاميّة"، التي ضمّت كل من (الجبهة الشعبية، الجبهة الشعبية- القيادة العامة، جبهة التحرير العربية، جبهة النضال الشعبي).

وردًّا على طروحات الموقف من المرحليّة والمساومات، تصدّى الحكيم بكلّ جرأةٍ ووعيٍّ نظريٍّ بقوله "كلنا نعرف بطبيعة الحال على ضوء التجارب الثورية الكبرى في العالم، ثورة أكتوبر، ثورة الصين، الثورة الفيتنامية... كلنا نعرف أن موضوع "المرحلية موضوع وارد وعلمي، وموضوع مشروع".

وأضاف: (وكلنا نعرف عبارات لينين وتأكيداته، حول اضطرار أي ثورة لموضوع اسمه المساومات والتراجعات، والتراجعات والمساومات بين وقت وآخر، لكن وكما يقول لينين "أن هذا الموضوع لا يؤخذ بشكل مجرد"... هنالك فارقٌ بين مساومةٍ ومساومة، ومن ثَمَّ كلّ موضوعٍ يجب أن يؤخذ بشكلٍ ملموس، ومن ثَمَّ هنا الإجابة النظرية شيء والإجابة النظرية في حيز التطبيق شيء آخر، ومن ثَمَّ من الضروري أن نفهم بعضنا البعض... ومن ثَمَّ ليس من الضروريّ، إذا رفضت مساومة معينة، أو كان هناك تخوّف مشروع جدًّا من فهمٍ لمرحلةٍ معيّنة، أو نتائج مرحلة معيّنة، أن يتّهم هذا الموقف بموضوع التفكير المثالي والتفكير الرومانتيكي... أبدًا لا يجوز أن يحاكم هذا الموضوع، من خلال أن نأخذ هذه القوانين الثوريّة وهي أن المرحليّة تجوز، والمساومة تجوز، وأن نطبقها على الواقع الذي نحن بصدده في فترة محددة بشكلٍ ملموس (11).

المحطة الخامسة: الموقف الجذري للحكيم من مشاريع التسوية بعد حرب تموز 1982

خاضت الجبهةُ الشعبيّةُ كل معارك الثورة باقتدار، في إطار القوات المشتركة مع فصائل الحركة الوطنية اللبنانية في جنوب لبنان، على امتداد سبعينات القرن الماضي ورفع الحكيم شعارًا رئيسيًّا في حينه "بضرورة أن يكون النضال الفلسطيني في لبنان، بقيادة الحركة الوطنية اللبنانية"، في الوقت الذي سعت فيه قوى فلسطينية إلى احتواء القوى الوطنية اللبنانية وتحويلها إلى مجرد توابع لها. كما شاركت الجبهة الشعبية في كافة المعارك البطولية، ضد العدوان الصهيوني على لبنان في تموز 1982، وذلك في إطار القوات المشتركة في مختلف الجبهات، في بيروت والجبل والجنوب، ولم تنسحبْ من أيٍّ من المواقع التي وُجدت فيها، وفي الذاكرة المؤتمر الصحفي الذي عقده الحكيم في مطار بيروت، على مسافة أمتار من قوات الغزو، الذي تحدى فيه العدو الصهيوني بدخول أحياء العاصمة بيروت، وأكّد فيه على جاهزية المقاومة لمقاومة قوات العدو وهزيمتها.

وعلى امتداد الفترة اللاحقة لخروج أبو عمار إلى تونس، تصدى الحكيم بجرأة لاندلاق القيادة المتنفذة للمنظمة على التسوية المطروحة من قبل النظام السعودي والإدارة الأمريكية (مشروعا فاس وريجان) وبذل جهدًا كبيرًا لمنع الجسر بين المشروعين السالفين في دورة المجلس الوطني رقم (16).

ورد الحكيم بقسوةٍ بالغةٍ ومبرّرة، على زيارة عرفات لنظام كامب ديفيد في القاهرة بعد الاقتتال الفلسطيني – الفلسطيني في طرابلس، وسارع الحكيم بالتنسيق مع فصائلَ يساريّةٍ إلى تشكيل  التحالف الديمقراطي من (الجبهتين الشعبية والديمقراطية ومن جبهة التحرير الفلسطينية- طلعت يعقوب – والحزب الشيوعي)، حيث أدّى الحكيم دورًا مركزيًّا في الحوار مع عضوي لجنة فتح المركزية (أبو إياد وأبو جهاد)، وفي صياغة اتفاق عدن – الجزار عام 1983، لاستعادة المنظمة لخطها الوطني، وقد اشترط "التحالف الديمقراطي" في حينه أن تتضمن الوثيقة بندًا ينصُّ على أن "أبو عمار لم يعد قاسمًا مشتركًا"، لكن في ضوء رفض كلٍّ من أبو إياد وأبو جهاد لهذا الشرط، اكتفى التحالف بموافقة "فتح" على إدانة الزيارة، واعتبار الزيارة مخالفةً سياسيّةً وتنظيميّة (12).

وقد شكّل انعقاد دورة المجلس الوطني رقم (17) في عمان عام 1984 - الذي قاطعه التحالفان الديمقراطيّ والوطنيّ - انقلابًا على الدورات التي سبقتها، وخاصّةً دورة المجلس الوطني رقم (16)، إذ إنّه ولأوّل مرّةٍ لم يرفض المجلس الوطنيّ بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ قرار مجلس الأمن رقم (242)، ولم يتضمن أدنى إدانة لنهج كامب ديفيد، ناهيك أنّه شكّل انقلابًا وتراجعًا عمّا جرى الاتّفاق عليه في اتّفاق عدن- الجزائر، وفتح الباب لأبي عمار لأن يوقّع في شباط 1985 اتفاقًا مع الملك حسين، يتضمن مبدأ الأرض مقابل السلام وعقد مؤتمر دولي تشارك فيه ( إسرائيل) الخ (13).

تجدرُ الإشارة هنا، إلى أن الدعوة لعقد المجلس الوطني في عمان، لم تأتِ فقط في ظروف انقسام حركة فتح وانقسام منظمة التحرير الفلسطينية، وبروز التيارين الوطني والديمقراطي، بل "جاءت أيضًا في ظرفٍ شهد انقساماتٍ في الشارع السياسي القومي واليساري العربي حيالها، حيث اتّخذ حزب البعث الحاكم في سورية موقفًا داعمًا للفصائل الفلسطينية المقاطعة لها، ورأى أن ذلك الموقف من قيادة منظمة التحرير، دليل على انحراف قيادتها اليمينية وتحالفها مع الرجعية العربية لتصفية القضية الفلسطينية" (14).

 وفي مواجهة قرارات المجلس، وتوقيع عرفات على اتفاق شباط مع الجانب الأردني عام 1985، تصدى الدكتور جورج حبش لما أسماه بالانحراف اليميني، وبالتنسيق مع فصائلَ وطنيةٍ أخرى،  بتشكيل جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني التي ضمّت كلًّا من (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، "جبهة التحرير الفلسطينية – جناح طلعت يعقوب "والقيادة المؤقّتة لحركة فتح "الانتفاضة"، والجبهة الشعبية "القيادة العامة" وطلائع حرب التحرير الشعبية "الصاعقة" وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني) برئاسة رئيس المجلس الوطني السابق خالد الفاهوم؛ بهدف استعادة المنظمة لخطها الوطني وعلى قاعدة رفض الإنابة والتفويض ورفض نهج التسوية، والالتزام بالميثاق الوطني الفلسطيني (15).

وفي الدورة 18 للمجلس الوطني "دورة الانتفاضة 1988، خاضت الجبهةُ الشعبية لتحرير فلسطين نضالًا شاقًّا لمنع الاستثمار المبكر للانتفاضة، بعد أن أدرك الحكيم أنّه في حال منح الانتفاضة وقتها المطلوب "فإنّها ستكونُ قادرةً على نقل الحقوق الوطنيّة المشروعة من دائرة الإمكانيّة التاريخيّة إلى حيّز الإمكانية الواقعية"، لكن الجبهة وافقت على المبادرة السياسية الناجمة عن الدورة، وتحفظت فقط على ورود قرار مجلس الأمن رقم 242، إذ إنّها انشدّت لموضوع الوحدة الوطنية في مرحلة الانتفاضة، رغم تبيانها لحيثيات رفضها للقرارين 242 و 338، عبر مداخلة الدكتور جورج حبش أمام اللجنة السياسية للمجلس الوطني في الدورة (19) قبل صدور البيان السياسي وفي المؤتمر الصحفي للحكيم عقب انتهاء أعمال المجلس (16).

وقد استثمرت القيادة المتنفذة في المنظمة المبادرة السياسية، للولوج في دهاليز التسوية لاحقًا، والوصول إلى اتفاقات أوسلو المذلة، لكن الجبهة في مراجعاتها النقدية لاحقًا تراجعت عن موقفها في دورة المجلس رقم (19) وأعلنت في مؤتمرها الأخير رفضها للبرنامج المرحلي ورأت فيه بوابةً لتقديم التنازلات.

المحطّةُ السادسة: في مواجهة اتفاقيات أوسلو:

وبعد مؤتمر مدريد1991 واتفاقيات أوسلو (1993) التي جاءت لاستثمار ما آلت إليه الأمورُ في العراق وانهيار الاتّحاد السوفياتي، أدّت الجبهةُ الشعبية بقيادة الحكيم، دورًا أساسيًّا في التصدي لهذه الاتفاقيات ومشتقاتها، ولآثارها المدمرة؛ لأنها كما قال الدكتور جورج حبش: "لم تقدم الحد الأدنى مما كان يطالب به الفلسطينيون، وفي حين كنا نرمي بكل ثقلنا بعد ست سنواتٍ من انطلاق الانتفاضة، لم نحصل إلا على بعض الفتات على المستوى السياسي، وكانت أوسلو بمثابة الجبل الذي تمخّض وولد فأرًا.. ولمواجهة اتفاقيات أوسلو، طالبت بتشكيل جبهةٍ وطنيّةٍ للوقوف في وجه كلٍّ من (إسرائيل) وأسلوب عرفات، وكنّا نحاول تجميع اليسار من خلال ذلك، لكن البعض وخصوصًا الجبهة الديمقراطيّة أيّدوا - ويا للأسف! - عمليّة السلام مع الكيان الصهيوني" (17).

وحسب الدكتور جورج حبش: "واصلت القيادة المتنفذة تقديم التنازلات في بقية الاتفاقات اللاحقة، مثل اتفاقية الخليل (1997)، ففي هذا الاتفاق، وافق المفاوض الفلسطيني على الاستيطان اليهودي في الخليل، وطالبت في حينها بسياسة التحدي والرفض واستمرار المقاومة، كون هذه السياسة هي السياسة الوحيدة القادرة على كبح جماح العدوان".

وفي اتفاقية واي ريفر عام 1998، يقول د. حبش: قبل المفاوض الفلسطيني بالاتفاق، رغم أنّها ليس مجرّد اتفاقيّةٍ سياسيّة، بل اتفاقيّةٌ أمنيّةٌ من خلال الاستخبارات الأمريكية، حيث ثبتت التصور الصهيوني الأمني للحلّ، وربطت إعلان الدولة بالموافقة الإسرائيليّة، وشرعت لبعض الدول العربية إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني" (18). وفي مواجهة هذه الاتفاقيات دعا الحكيم للاستمرار بالانتفاضة والمقاومة لإفشالها، كما دعا إلى دعم الانتفاضة بالنار ردًّا على استخدام العدو الصهيوني القوة المفرطة ضد جماهير الانتفاضة.

وأخيرًا يسجّلُ للحكيم أنّه ولأوّل مرّةٍ في تاريخ الثورة الفلسطينية منذ عام 1967، يقدّم أمين عام تنظيم على تقديم استقالته، فقد تخلى عن منصبه أمينًا عامًّا للجبهة عام 2000 وقال عن سبب تخليه "إنه جاء من منطلق الديمقراطية إيمانًا مني بإفساح المجال لقادة غرسوا في النضال، وقناعةً مني بأنّ الجبهة الشعبية لديها القدرة على خلق القيادات".

المصادر:

1- بوابة الهدف: ذكرى مجزرة اللد في 10 يوليو (تموز) 1948، المنشور بتاريخ 10 يوليو (تموز) 2018.

2- عيسى الشعيبي، الكيانية الفلسطينية- الوعي الذاتي والتطور المؤسساتي، 1947- 1977، مركز الأبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، ص 56.

3- مذكرات جورج حبش، صفحات من مسيرتي النضالية، تحرير وتقديم أ. د. سيف دعنا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1919، ص 83-84.

4- عيسى الشعيبي، مصدر سابق، ص 56.

5- محمد حمال باروت، كتاب "حركة القوميين العرب: النشأة- التطور – المصائر" عرض وتلخيص الدائرة الثقافية المركزية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-، أيار 2007 ، ص.34

6- انظر مؤسسة الدراسات الفلسطينية، خلفية تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

7-محمد كريشان: منظمة التحرير الفلسطينية التاريخ وهياكل الفصائل والأيديولوجية-دار البراق-الطبعة الأولى 1968، ص 18.

8-جريدة الحرية – الناطقة باسم حركة القوميين العرب- آنذاك، حزيران (يونيو) 1967.

9- وليد الجعفري، بحث بعنوان: العمل في الساحة الفلسطينية، ص 161- 162، نقلاً عن: مركز الأبحاث- م. ت. ف، 1970، المجلد التاسع، ص 27.

10- انظر مذكرات جورج حبش "صفحات من مسيرتي النضالية"، مصدر سابق، ص 163.

11- انظر مداخلة د. جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ندوة المقاومة الفلسطينية أمام التحديات الجديدة، التي أدارها محمود درويش، مجلة شؤون فلسطينية، عدد 30، ص 15-31 – فبراير- شباط1974.

12- عليان عليان، التحالفان الوطني والديمقراطي، من زيارة عرفات إلى القاهرة إلى اتفاق عدن، دعوة للحوار في الساحة الفلسطينية، جريدة الخليج، عدد 2015، 21 أكتوبر- تشرين أول 1984.

13- عليان عليان، جريدة الخليج، بحث بعنوان "المجلس الوطني الفلسطيني بين ظروف الانعقاد والنتائج المحتملة"، عدد 2090، تشرين ثاني (نوفمبر) 1984.

14- لطفي الخولي، أوراق من الملف العربي، مستقبل الصراع العربي- الإسرائيلي عام 2000، ط.1، القاهرة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، 1986، ص 143.

15- أنظر بيان تأسيس جبهة الإنقاذ، الصادر بتاريخ 10 آذار (مارس) 1985.

16- وقائع المؤتمر الصحفي للدكتور جورج حبش بقصر المؤتمرات في نادي الصنوبر بالجزائر عقب انتهاء أعمال الدورة (19) للمجلس الوطني الفلسطيني، الصحافة الجزائرية والفلسطينية، بتاريخ 15-11- 1988.

17- جورج حبش، الثوريون لا يموتون أبدا، حوار: جورج مالبرنو، ترجمة: عقيل الشيخ حسين، الساقي، 2011، ص 252-254.

 18- مذكرات جورج حبش، صفحات من مسيرتي النضالية، مصدر سابق، ص 312.