رُجّت الأرض و مادت الجبال و تشققت السماء بالغمام .. و لكن لم تتنزل
الملائكة تنزيلاً بل نزلت أصواتكم المكبّرة من أعماق الزنازين برداً و سلاماً
على أرواح الشهداء الناظرين إليكم من عليين .. و حلّت خوفاً و رعباً
على قلوب سجانيكم المرتجفة .. إنّه يوم الحشر .. يوم القيامة .. و آن
لشعبنا أن يُبعَث بكم حياً ..
ارتجفت أبواب الزنازين تحت أيديكم التي التهم الجوع عضلاتها لكنه
لم يوهن الإصرار المتدفق فولاذاً في عروقها و أوردتها .. لنتعلم منكم
في كل يومٍ كيف يكون الوطن معطاءً بأبنائه الذين ما بخلوا عليه
بأنفسهم و لا بِقُرّة أعينهم .. لنتعلم كيف تكون الرجولة بعد أن
أضعناها في خوضنا اليومي لمعركة الحياة و نضالنا المستميت من أجل
رغيف الخبز و وقود و سكن فتحولنا لرجالٍ من عجين .. و كيف تكون
الأنوثة و الأمومة نحن اللواتي ألهانا التكاثر فسقط الوطن سهواً من
حساباتنا الشهرية لمشروع طفلٍ قادمٍ .. فنسينا أنه الولد الأغلى و
الأجمل ..
نتعلم منكم اليوم و أمس و غداً كيف تكون أن الحياة كرامة .. بعد أن
تحولنا لموتى لا يملكون ضريحاً و قد ضاقت بنا قبور الأرض و جحورها التي
طال اختباؤنا بها فتركناكم تقارعون التنين لا بقيود أيديكم و أرجلكم
أو بجوع أمعائكم بل بضميركم الذي ما خان عهد الوطن و بيقينكم
بحق هذا الوطن بفسحةٍ سماويةٍ و حفنة أحلامٍ وردية .. و قوس قزح ..
و حقنا في قبرٍ يسير على قدميه ..
نتعلم منكم كيف يكون التشبث بالأرض فنّاً يُبهِر العالم الذي تآمر
علينا و راهن على زوالنا بعد أن منح مقومات الحياة لعدونا فكنتم
الكلمة الباقية و آثرتم الموت بكرامة لترسموا الابتسامة على وجه
المسيح الحزين بقصاصكم ممن قتله و صلبه .. و كنتم الزيتونة التي
كلما قُطِعت أزهرت ، و كلما حُرِّقت أينعت ، و كلما اُجتُثت ضربت
جذورها عمقاً في الأرض ..
نتعلم منكم كيف طُميِرُ الانسان بطولةً و شموخاً ، فيتساقط مطركم
رغم الظلم و رغم القهر على أرض نفوسنا العجاف فنخضرّ بكم نحن
الذين استوطنّا الخريف و سكناه كالورق اليابس المندثر و المتناثر بريح
الانقسام لنكون الطبعة الأخرى من أندلسنا المغلوبة ..
نتعلم منكم كيف يُحوّل السجين سجّانه إلى سجينٍ يعيش مرارة
السجن أكثر منه .. فيغدو هو الحر الطليق و ذاك أسيراً لسجنٍ صنعته
يداه .. نحن السجناء الذين لم نعرف طعماً للحرية فكنا جياعها
الدائمين مذ رضينا بسلطةٍ غير شرعيةٍ تحكمنا و تجلدنا .. تبيعنا و
تتآمر علينا .. تعتقل أبناءنا و تشنق أقلامنا .. و لا يسلم من شرور
شياطينها ملائكة السماء " شهداؤنا " و لا ملائكة الأرض " أنتم
أسرانا " ..فالتضامن معكم يحتاج إلى تصريح .. التعبيرعن انسانيتنا
لأجل من ضحى لتحيا الانسانية يستلزم استصدار تصريح رسمي
من حكومة غير رسمية ! أما المقاومة و حمل السلاح لأجل الوطن
و حريتكم فهو فعل انتحار .. و الانتحار في شرع سلطة رام الله حرام
..!! فاعله إلى جهنم و ساءت مصيرا .. و كأن جحيمهم الذي أسكنونا
فيه جنة عدن .. !! و لا ندري أين الحلال في تسليم خلية من الشباب
المقاوم كانت تخطط لأسر جنود صهاينة ليردوا لكم حريتكم و بعضاً
من جمائلكم علينا نحن المقصرين بحقكم و حق الوطن ...
نتعلم منكم معنى النور .. " يا ضوء الشمس الهارب من ثقب الأبواب
.. " نحن الذين قبلنا حكم لطيور الظلام فسكنا قلب الليل و بتنا
نخشى ضوء النهار .. فليبزغ الفجر من زنازينكم المعتمة و ليبدأ النهار
زيارته للوطن لينحني السجان انبهارا به و يتهدم السجن بلهيبه ..
فنخلع عنا عباءة الليل ونقتل خفافيشه .. و نسكن و إياكم في قلب
الشمس التي تناضلون لتحريرها ..
نتعلم منكم " أيها الناظرون للنجوم " من خلف القضبان كيف نكون
نجوماً مثلكم تنير الوطن باحتراقها متساقطةً نجمةً خلف نجمة ..
نيزكاً خلف نيزك .. و شهاباً خلف شهاب ..
فلا تنظروا للنجوم لأنكم نجومنا التي تزيّن سماء الوطن .. ربما تقولون
ما قاله ناظم حكمت في سجنه :
" و رغم هذه القضبان ..
فإن قلبي لازال يخفق
مع أبعد نجم في الفضاء .. "
أما نحن فننشد " قلوبنا من خلف قضباننا تخفق مع نجوم عوفر و
عسقلان .. نفحة والسبع .. رامون و النقب .. "