أجيالٌ فلسطينيّةٌ لن تستسلم، وعلى إسرائيل الخروجُ من الباب: عودة إلى المبادرة العربيّة

حجم الخط

ترجمة خاصة*

[كتب الفيلسوف الصيني الأعظم كونفشيوس "المخرج هو من الباب. لماذا لا يستخدم هذا المخرج؟" يتساءل ماتي شتاينبرغ في هذا المقال عن مدى انطباق هذه المقولة على ما يتعلّق بالصراع "الإسرائيلي" الفلسطيني؟ مستخدمًا المبادرة العربية نموذجًا لحالة الرفض "الإسرائيليّة" الدائمة، حيث قُدِّمت المبادرة العربيّة السعوديّة لحلّ النّزاع قبل نحو عشرين عامًا، لكن حتّى الآن اختارت معظم الحكومات "الإسرائيليّة" تجاهلها أو معارضتها. في متن المقال، يحلل الكاتب أيضًا الحالة الفلسطينية، فإضافةً إلى أنّه يعلن صراحةً أنّ "إسرائيل" هي من يرفضُ السّلام ويحاربه، يستنتجُ أن الفلسطينيين لن يستسلموا، وأن إسرائيل دائمًا ستواجه عقبة الرفض الفلسطيني أداءً، ليس من السلطة أو الفصائل بل من أجيال تمثلت الوطنية الفلسطينية وأصبحت مؤطّرةً ذاتيًّا في مواجهة الإحتلال دون الحاجة إلى الفصائل التي أصبحت هشّةً وضعيفة. ولكي تتجاوز "إسرائيل" هذه العقبة، يزعم شتاينبرغ أنه يجب إعطاء "خطة السلام السعودية" فرصة الآن.]

يقول شتاينبرغ إنه بعد ثلاثين عامًا من اتفاقيات أوسلو، وأكثر من عشرين عامًا على المبادرة العربيّة، من المناسب التأكيد على ثبات الموقف الفلسطيني والعربي الرسمي الذي يتطلّب تسويةً سياسيّةً للصراع "الإسرائيلي" الفلسطيني على أساس الدولتين. والبدائل التي كثيرًا ما يتمُّ تقديمُها في "إسرائيل" على أنّها "إدارة الصراع" و"الحدّ من الصراع" ليست أكثر من تعبيراتٍ ملطّفةٍ لتعميق الوضع القائم. وهي مقدّمةٌ من وضع طرفٍ واحدٍ فقط؛ لأنّه من البديهي أنّهم لن يجدوا أي محاور فلسطيني وعربي.

يعدّ شتاينبرغ أن المبادرة العربية، خلافًا للتصوّر السائد في "إسرائيل"، تترك مجالًا للمناورة التفسيريّة.. حيث سيسمح الاتفاق السياسي على أساسها بتشكيل تحالفٍ سياسيٍّ وعسكري للعالم العربي الإسلامي السني بأكمله ضد إيران ووكلائها. ويزعم أن هذا سيمهد الطريق لتحالف استراتيجي مع السعودية باعتبارها حجر الزاوية للساحة العربية. أما السلطة الفلسطينية، التي يعتمد وجودها في حد ذاته على نجاح استراتيجيتها السياسية، فستثبت للجمهور الفلسطيني أن نهجها يؤتي ثماره، وسيحظى بتأييد غالبية الجمهور الفلسطيني.

يضيف شتاينبرغ أن العلاقة بين فكرة وتجسيدها في مؤسسة (التي تصبح فيما بعد مؤسسة) معقدة ومتعددة الأبعاد. هذا التعميم مفيدٌ أيضًا لموضوع مناقشة - القضية الفلسطينية. حيث إن أصل منظمات "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية والهيئة الحاكمة لمنظمة التحرير الفلسطينية ("السلطة الفلسطينية") هو فكرة القومية الفلسطينية، ومع ذلك فإن تأسيسها في الأطر التنظيمية يمنحها - من جهة - شرعيةً واقعيةً ناشئةً من تحقيقها، ومن ناحيةٍ أخرى - يرميها في أرض الواقع التاريخي على الوهم ومضاعفاته.

أحد استنتاجاته الرئيسية زعمه أن تاريخ فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية مليء بأمثلةٍ على الفجوات التي أحدثها الصدام بين المبدأ المفاهيمي المجرد وقيود الواقع التاريخي، وعادةً ما يتطلّب الجهد المبذول لتحقيق الفكرة في الواقع تعديلًا مصمّمًا لتقليص هذه الفجوات والتسوية مع "إسرائيل" بما يؤدي إلى منح الدولة والسيادة للجانب الفلسطيني. ولكنّ اصطدام المبدأ المجرد بـ "الجدار الحديدي" للواقع هو الذي فرض على الفلسطينيين في المقابل الضرورة.

ومما لا شك فيه - كما يقول شتاينبرغ - أن تجسيد الفكرة الوطنية الفلسطينية في شكل إطارٍ تنظيميٍّ أسهم في حقيقة أن الفكرة تجذّرت واتّسعت بين جمهورها المستهدف. ولكن لهذا السبب بالتحديد، فإنّ بقاء وحيوية هذه الفكرة غير مشروطين اليوم بوضع الأطر التنظيمية التي تحملها. إن ضعف مكانة هذه الأطر (فتح، منظمة التحرير الفلسطينية ومنظماتها، منظمة التحرير الفلسطينية) بين الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لا ينعكس في فقدان الولاء للهُويّة الوطنيّة الفلسطينيّة (على هذا) الاتجاه المزدوج، راجع آخر استطلاع للرأي العام الفلسطيني أجراه "المركز الفلسطيني للدراسات والاستطلاعات السياسيّة" برئاسة الدكتور خليل الشقاقي، العدد 86، 7-10 كانون الأول (ديسمبر) 2022: pcpsr.org. يتوافق هذا الاتجاه مع الاتجاهات التي برزت من نتائج الاستطلاعات السابقة التي أجريت في العامين الماضيين، فهنا أصبح للهُويّة الوطنيّة الفلسطينيّة التي ساعدت في إنشائها مختلف المنظّمات، حياة خاصّة، ولا تتوقّف على مصير الأطر الرسميّة، أو الاحتكاك مع الاحتلال الإسرائيلي.

وأقوى دليلٍ على ذلك هو أن جيلًا يذهبُ وجيلًا جديدًا يأتي والهُويّة الوطنيّة الفلسطينيّة باقية إلى الأبد. ورعاياها اليوم هم الشباب الذين كانوا في مهدهم خلال الانتفاضة الثانية (أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين) أو الذين ولدوا بعدها. وهم يشهدون تراجعًا في الأطر التنظيمية التي جسّدت الهُويّة الوطنيّة الفلسطينيّة، ومع ذلك تحمل الهوية الفلسطينيّة التي تغذّيها قوة مقاومة السيطرة "الإسرائيليّة" - الجيش والمستوطنين- هذا الجيل الشاب هو المسيطر في التركيبة السكانية الفلسطينية التي هي بشكلٍ عامٍ من الشباب (نحو 75٪ حتى سن 35). في الغالب، هذا الجيل لا يعصي أوامر التنظيمات المختلفة ولا تحرقه النهاية المؤلمة للانتفاضة الثانية. إن نشاطات مجموعات "عرين الأسود" في نابلس و "كتائب جنين" في مخيم اللاجئين في جنين ليست أكثر من أعراض خارجية لهذه الظاهرة في أوساط جيل الشباب. هذه ظاهرة تترسخ في النفوس ولا تعتمد على التنظيم الرسمي. أكثر من 90٪ من الهجمات في العام الماضي كانت بدائية، ليس بحكم توجيه تنظيمي من أعلى. لذلك فإن قمع هؤلاء الأفراد والجماعات لن يقمع الظاهرة ككل التي ستستمر في الازدياد، وفي غياب تسوية سياسية ستكون ذات طابع قتالي متصاعد. علاوة على ذلك، يتسم جزء كبير من الهجمات الفردية باستعدادهم للسعي من أجل الاتصال الوثيق إلى درجة الاستيعاب بين أهدافهم، وبالتالي فإن احتمال بقائهم على قيد الحياة ضئيل للغاية. وهو رغم أنه لايقوم بعملية استشهادية، يعرف مقدمًا أن فرصه في النجاة، خاصّةً في مكانٍ مزدحم، تكاد تكون معدومة. مثل هذه المبادرة الذاتية تجعل من الصعب على هؤلاء الأفراد والجماعات تحذير "إسرائيل" وردعها. و توقع الجانب "الإسرائيلي" بأن "يعتاد" الفلسطينيون على استعبادهم في ظل "إسرائيل" يدعو إلى وهم مرير.

على عكس الجيل الأول لحركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، فإنّ الهُويّة الوطنية الفلسطينية للجيل الشاب طبيعية وفطرية وعفوية وغير مكتسبة. تتجلى الهوية الوطنية الفلسطينية في حقيقة أن بين المنظمات والتيارات الولاء الأعلى للهويات الجماعية الأخرى، مثل حماس (الهوية القومية الإسلامية) و "الجبهة الشعبية" (الهوية القومية العربية) قد انعكس نتيجة لضرورة الظروف، وهم يعطون الأولوية العليا للهوية الوطنية الفلسطينية، فهم يقيمون داخل شعبهم ووطنهم، ولذلك فقد تكيفوا مع الروح الجماعية.

يمكن استخلاص درس عام من هذا: انشغالنا المرهق بالوضع المتدهور للسلطة الفلسطينية ومسألة خليفة زعيمها أبو مازن، في الفحص، علاج لأهم الأمور. السلطة الفلسطينية وأبو تنبثق أفكار مازن أولاً وقبل كل شيء عن الفشل الخطير لاستراتيجيتهم السياسية في الجيل الأخير - الاستعداد لتبني ترتيب التقسيم إلى دولتين وفقًا لمبادئ مبادرة السلام العربية التي بلغت عشرين عامًا. منذ ذلك الحين، اختارت حكومات إسرائيل (باستثناء عهد أولمرت) تجاهل أو معارضة المبادرة العربية و"خارطة الطريق" للجنة الرباعية (الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) التي سعت إلى ترجمة المبادرة العربية إلى لغة العمل.

وتنصّ المبادرةُ العربيّةُ صراحةً على ضرورة إنهاء الصراع مع إسرائيل وإقامة علاقاتٍ طبيعيّةٍ معها (التطبيع) وتحقيق حلٍّ متّفقٍ عليه أيضًا لإسرائيل (ومن ثَمَّ منحها حقّ النقض بشأن العودة إلى أراضي إسرائيل) في قضية اللاجئين الفلسطينيين. كل هذا مقابل قيام دولةٍ فلسطينيّة "على أساس خطوط 1967". والمبادرة العربية لا تشترط إخلاء كل المستوطنات مما يترك مجالًا للمناورة في هذا الشأن. قاعدةً عامة، تعدّ المبادرة العربية موقفًا افتتاحيًّا قبل المفاوضات وليست نهاية القصة، ومن ثَمَّ تتأصل فيها الرغبة العربية في المساومة على طريقة تنفيذها (نهج يعرف بـ "الاستباقيّة"). ليس من قبيل الصدفة أن "خارطة الطريق" للجنة الرباعية لعام 2003 أكدت أن المبادرة العربية هي مصدر تسوية يعادل اتفاقًا شاملًا إلى جانب القرارين التأسيسين 242 و338. كان رد الحكومة الإسرائيلية بقيادة شارون على "خارطة الطريق" (مايو 2003) يسمى رسميًّا "تعليقات" (أربعة عشر عددًا)، لكن صياغتها اختلفت بين لغة المطالبة ولغة الشرط.

بما أن التيار الرئيسي الفلسطيني تحت قيادة "فتح" أبدى استعداده الرسمي لتبني نمط التسوية السياسية (يمكن تحديد نقطة الانطلاق لهذا التغيير النموذجي باعتماد قرار مجلس الأمن رقم 242 في تشرين الثاني (نوفمبر) 1988) هذا الموقف وكذلك لقد أصبح موقعها في أوساط الجمهور الفلسطيني مرتبطًا بشكل حصري باستعداد إسرائيل للامتثال لهذا الأمر أو على الأقل البدء في الرد عليه. ومن ثَمَّ، كانت مدة الترتيب مشروطة بالاستعداد المتبادل لاعتمادها. ويكفي الرفض من جانب واحد لإحباطها.

من هذا المبدأ الأساسي - رفض دفع ثمن التسوية السياسية - تستمد إسرائيل موقفها من القادة الفلسطينيين ومؤسساتهم. منذ زمن بعيد، سعت إسرائيل إلى قص أجنحة قيادة فلسطينية مستقلة تدعو إلى تقرير المصير الوطني، وتشكيلها على صورة "الأبله المفيد"، الذي تتمثل مهمته برمتها في إعفاء إسرائيل من المسؤولية تجاه الفلسطينيين، ولكن في نفس الوقت تترك لنفسها السيطرة المطلقة على المنطقة، وكذلك لغرض الاستيطان فيها. لن أتطلع بعيدًا إلى المحاولة الإسرائيلية الفاشلة واليائسة لتأسيس "روابط القرى" كمناصرين في النصف الثاني من السبعينيات في مواجهة الدعم المتزايد بين سكان الضفة الغربية لمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للفلسطينيين وهويتهم القومية .. رؤساء "الروابط" التي سعت إلى الاستناد إلى القطاع الريفي في الضفة الغربية، كعمال قسريين في إسرائيل، تم تقرير مصيرهم، واختفوا وكأنهم غير موجودين هناك.

سأكتفي بمثال لاحق. بعد أن ألقت إسرائيل كل اللوم على ياسر عرفات (رغم أنه هو الذي قاد الفلسطينيين لقبول التقسيم إلى دولتين والتبني الطوعي للمبادرة العربية و "خارطة الطريق"، وحتى قبل ذلك ألغى رسمياً علناً في رسائل رسمية إلى رئيس الوزراء آنذاك شيمون بيريز في أيار 1996 وإلى رئيس الولايات المتحدة كلينتون في كانون الثاني 1998، وخلفه أبو مازن مواد "الميثاق الفلسطيني" التي تتعارض مع التسوية السياسية مع إسرائيل والاعتراف بها). وتجدر الإشارة هنا إلى إشارة منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة عرفات إلى "خارطة الطريق". على عكس "تعليقات" إسرائيل الـ 14 (كناية عن "اعتراضات" أو "تحفظات" للأسف)، تبنتها اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية كما هي، مؤكدة في إعلانها الرسمي على "ضرورة تطبيقها في جميع مكوناتها، مع الرغبة في ذلك". لتنفيذ الالتزامات الفلسطينية في نفس الوقت الذي يتم فيه تنفيذ الالتزامات الإسرائيلية "(انظر" بيان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بشأن تنفيذ خطة خارطة الطريق "، 30.05.2019).

أبو مازن، الذي عارض بشدة انجراف الفلسطينيين إلى الإرهاب في الانتفاضة الثانية، انتخب في أوائل عام 2005 بأغلبية ساحقة (62٪ من مجموع 75٪ من الناخبين في الضفة الغربية والقطاع) لمنصب الرئيس. بعد عرفات، أيد باستمرار تسوية سياسية مع إسرائيل حسب المبادرة العربية، لكن مصيره لم يتحسن من حيث الموقف الإسرائيلي. وبينما نددت إسرائيل بعرفات على أنه ليس أكثر راديكالية منه، فإن خطيئة أبو مازن في عامه الأول، وهو في أوج قوته، كانت متجذرة في اعتداله السياسي. لهذا تم دفع الفاتورة في قرار حكومة شارون الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة (سبتمبر 2005) بدلاً من تنفيذ الانسحاب بالاتفاق مع أبو مازن الذي حث إسرائيل على ذلك.

حماس التي ترفض أي أمر واعتراف بإسرائيل (حتى حسب المبادرة العربية) استفادت بشكل كبير من الانسحاب أحادي الجانب من القطاع وبدون عائد من جانبها، في حين انكشف أبو مازن - هو واستراتيجيته السياسية. - كسفينة فارغة. ومنذ ذلك الحين، تم تمهيد الطريق أمام فوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية (كانون الثاني (يناير) 2006)، ومن ثم سيطرتها العنيفة على قطاع غزة.

القاسم المشترك في الحالتين المذكورتين أعلاه ("روابط القرى" وحماس) هو أن إسرائيل سعت في كلتا الحالتين إلى الهروب من النظام السياسي الذي ينطوي بطبيعته على دفع الثمن. هنا - من خلال أعمال القسر في "روابط القرى" وهناك - من خلال حماس التي تنكر بشكل أساسي النظام السياسي بحكم تأويلها الديني. لذلك وجدت إسرائيل وحماس نفسيهما في نفس الصفحة: نتائج متطابقة رغم النوايا المتعارضة ("تعاون عدائي" بلغة العلاقات الدولية).

واستمرارًا لهذا النهج الذي يحابي من لا يرغبون على الإطلاق في تسوية مع إسرائيل - فرضت الحكومة الإسرائيلية غرامات وعقوبات، مثل اقتطاع أموال الضرائب المخصصة للسلطة الفلسطينية بقيادة أبو مازن لأنها ميزانيات لعائلات أسرى وشهداء، بينما سمحت إسرائيل في الوقت نفسه لقطر بضخ حوالي ملياري دولار لقطاع غزة لحوالي عقد من الزمان لغرض دعم النظام المدني الذي يمول جميع احتياجات قطاع غزة، بما في ذلك أسر هؤلاء. محتاج من بين الأسرى والشهداء .. أعلن زعيم حماس إسماعيل هنية هذا المبلغ في 27 تموز 2020 في مقابلة مع موقع "لوسيل" القطري، ومنذ ذلك الحين ازداد المبلغ الإجمالي. علاوة على ذلك، من حيث المبدأ، فإن كل دولار مخصص للاحتياجات المدنية لحكومة حماس في قطاع غزة يحول من حيث المبدأ دولارًا مقابلًا، بالنسبة لحماس في غزة وكذلك في الضفة الغربية، عكست "رسوم الرعاية" الممنوحة لحماس معاملة إسرائيل التفضيلية لأولئك الذين ليسوا "إرهابيين" من خلال اعتدالها السياسي (أي حماس).

يمكن فهم هذا النهج إذا كان هو الأسوأ من بين الأساليب الأخرى. لكن هذا النهج هو بالتأكيد الأسوأ. في ظل عدم وجود ترتيب سياسي للتقسيم إلى دولتين، والذي لن يدعمه غالبية الفلسطينيين فحسب، بل وأيضًا غالبية الدول العربية والإسلامية (باستثناء إيران)، فإن إسرائيل محكوم عليها بالغرق بعمق في واقع "دولة واحدة" غير متكافئة وغير دستورية تفرض نفسها فيها على السكان الفلسطينيين. سيؤدي تفكك السلطة الفلسطينية نتيجة لذلك إلى تحويل السيطرة الإسرائيلية (والمسؤولية) في المناطق المأهولة بالسكان "أ" إلى سيطرة مباشرة بالقوة، وليس مجرد سيطرة غير مباشرة.

لن تتخلص من المبادرة السعودية التي هي أساس المبادرة العربية. في الواقع، لم يكن للفلسطينيين حق الفيتو أبدًا ضد الدول العربية، وقد أثبتت اتفاقيات السلام مع مصر والأردن ذلك بالفعل. ومع ذلك، لديهم حق النقض (الفيتو) فيما يتعلق بمساحة معيشتهم في المنطقة الفلسطينية. لا توجد دولة عربية تستطيع ولا تريد أن تفرض عليهم حلاً لا يقبلونه. والحقيقة أن "خطة ترامب" بشأن القضية الفلسطينية لم تكن على جدول الأعمال على الإطلاق حتى تلك الدول العربية التي عقدت اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل. لقد تبنوا جميعًا، وما زالوا يفعلون ذلك منذ عشرين عامًا، مبادئ المبادرة العربية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية كنموذج تسوية ملزم.

في غياب التسوية ستزداد قدرة إيران وحزب الله على التدخل في القضية الفلسطينية من خلال الجهاد الإسلامي وحماس. سيحاول هؤلاء أيضًا الاستفادة الكاملة من تحول الجيل الفلسطيني الشاب إلى اتجاه قتالي واضح نتيجة للمأزق السياسي الحالي. في الواقع، خلال العامين الماضيين، في ضوء الجولات الخمس للانتخابات والتعقيدات الداخلية في إسرائيل، يكتسب مفهوم "الكيان المؤقت" فيما يتعلق بإسرائيل زخمًا في إيران. والخطاب العربي الفلسطيني. إسرائيل، على الرغم من ميزتها العسكرية والتكنولوجية المتميزة، تقدم ككيان يكون وجوده مؤقتًا، ويرجع ذلك أساسًا إلى الصراع المفتوح في القضية الفلسطينية. موزعو المفهوم هم إيران ووكلائها - حزب الله والجهاد الإسلامي وحماس، وقد أصبح أكثر شيوعًا بين الجمهور الفلسطيني ككل و اسرائيل برأيهم تنهار في ظل تناقضاتها الداخلية.

بعد ثلاثين عاما من اتفاق أوسلو، وأكثر من عشرين عاما على المبادرة العربية، من المناسب التأكيد على ثبات الموقف الرسمي الفلسطيني والعربي الذي يتطلب تسوية سياسية للانقسام إلى دولتين حول القضية الفلسطينية. إن استمراره لفترة طويلة يظهر أهميته وحيويته، رغم أن الإخفاق في تنفيذه يلقي بظلاله على المبدأ الذي تأسس عليه. حتى على المستويين العربي والفلسطيني، فهو مستمر نسبيًا، رغم أن الافتقار إلى الإدراك هنا أيضًا على مر السنين يقضم التمسك بالمبدأ نفسه. البدائل التي كثيرًا ما يتم تقديمها في إسرائيل على أنها "إدارة الصراع" و "الحد من الصراع" ليست أكثر من تعبيرات ملطفة لتعميق الوضع القائم. هم مقدمون في وضع طرف واحد فقط، لأنه من البديهي أنهم لن يجدوا أي محاور فلسطيني وعربي. أولئك الذين هم على استعداد لدعمهم هم من بين المحتالين في التسوية الفلسطينية - حماس والجهاد الإسلامي المدعومة من إيران.

المخرج من التشابك متاح من حيث المبدأ، كما قال كونفوشيوس: "المخرج عبر الباب. لماذا لا يتم استخدام هذا المخرج؟" حقيقة أن الفلسطينيين والعالم العربي والإسلامي السني عرض هذا المسار على إسرائيل منذ سنوات لا يجعله غير ذي صلة من وجهة نظرهم. إسرائيل برفضها تبنيها تجعلها غير ذات صلة. لا ينبغي أن يتعلم المرء من ذلك أن على إسرائيل قبول المبادرة العربية من منظور "انظر وقدس". المبادرة العربية، كما حاولت أن أبينها أعلاه، تفسح المجال للمناورة التفسيرية. يقدم بمصطلحات رياضية مبادئ جبرية يمكن تحويلها إلى قيم عددية مختلفة. الاتفاق السياسي القائم على تفسير المبادرة العربية سيجعل من الممكن إقامة تحالف سياسي وعسكري من العالم العربي والإسلامي السني بأسره ضد إيران ووكلائها. على أي حال، فإن هذا سيمهد الطريق لتحالف استراتيجي مع السعودية باعتبارها حجر الزاوية للساحة العربية. السلطة الفلسطينية، التي يعتمد وجودها في حد ذاته على نجاح استراتيجيتها السياسية، ستثبت للجمهور الفلسطيني أن نهجها يؤتي ثماره، وستحظى بتأييد الأغلبية الساحقة في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة. سيتم تهميش معارضيها حتى في منطقة سيطرتهم في قطاع غزة. الترتيبات الكونفدرالية مع الجانب الفلسطيني ممكنة، ولكن فقط بعد إقامة السيادة الفلسطينية على الجانب الإسرائيلي. الخيار واحد وليس هناك من خيار: إما ترتيب سياسي قائم على الانقسام، أو مساحة واحدة حيث يكون للجانبين صقور في حناجر بعضهما البعض.

في بعض الأحيان يمكن توضيح طبيعة القرار المطلوب من خلال محاولة توقع المستقبل. لا سمح الله نصل إلى واقع حيث سنحكم علينا بالرجوع إلى الحقائق النهائية من وجهة نظر "ملاك التاريخ" للفيلسوف اليهودي الألماني والتر بنيامين: "إنه [ملاك التاريخ] يدير وجهه إلى الماضي. حيث تظهر أمامنا سلسلة من الأحداث، يرى كارثة واحدة ووحدة تتراكم باستمرار موجات الخراب فوق بعضها البعض وتضعها عند قدميه (الأطروحة التاسعة من "عشر أطروحات في الفلسفة" من التاريخ").

*معهد الأمن القومي اإسرائيلي. ماتي شتاينبرغ. محاضر جامعي صهيوني. كان سابقًا مستشارًا لرئيس الشاباك في الشؤون الفلسطينية.