سيناريو أصفهان.. تصعيدٌ نسبيٌّ أم مواجهةٌ شاملة؟

حجم الخط

في سياق المواجهة الشاملة بين الكيان الصهيوني والجمهورية الإسلاميّة في إيران تظهرُ أحيانًا عوامل التصعيد الكبرى بين الطرفين، وأحيانًا تخبو ويصلُ التوتّر بينهما إلى أقلّ درجة، لكن من المفيد التذكير أنّ هذه المواجهة قد بدأت فعليًّا منذ أكثرَ من عشرة أعوام، وسبقها قتال بالوكالة. الأحداث تتجدّدُ مرّةً أخرى بين الطرفين، وكان آخرها الهجوم على أحد المصانع العسكريّة في مدينة أصفهان، وجاء هذا الهجومُ بعد أن تولى بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة الصهيونيّة للمرّة السادسة. وقد يعتقدُ البعض أنّ هذا الهجوم هو بدايةٌ لسلسلةٍ من الهجمات المتبادلة والمتعاقبة، ومع هذا فإنّ الهجمات الإسرائيليّة العدوانيّة لم تصل بعد إلى درجة الخطورة التي يدعيها الاحتلال. فالبرنامج النووي الإيراني يسيرُ وبلغ مرحلةً متقدّمةً بعمليّة التخصيب؛ إذ تمَّ تخصيب نحو 70 كيلو جرام من اليورانيوم بنسبة نقاء 60%، وهي كميّةٌ تؤهّلُ إيران لامتلاك العديد من الأسلحة النوويّة إذا ما شرعت في ذلك، كما قلّصت أيضًا من تعاونها مع الوكالة الدوليّة للطاقة الذرية، حيث أزالت 27 من كاميرات المراقبة للمواقع النوويّة الإيرانيّة. والسؤال هنا هل تستطيعُ هذه الهجمات الصغيرة والمحدودة أن تصيب قلب المشروع النووي الإيراني؟

بالتأكيد أن الجواب حتمًا بالنفي؛ إذ السؤال الأكثر أهمية الذي يبرز هنا: ماذا يريد كيان الاحتلال من هذا الفعل وبالتحديد بنيامين نتنياهو؟

بالدرجة الأولى يريد إيصال رسالةٍ دوليّةٍ مفادُها أن (إسرائيل) حاضرةٌ وجاهزةٌ على الدوام، وهي الأقدرُ على مواجهة هذا المشروع.

مع أنّ الحقائق تكذّبُ ذلك، فإسرائيلُ ملتزمةٌ بالإملاءات الأميركيّة فيما يتعلّق بهذا الملف، وتلك الإملاءات تقومُ على أنّ الوقت لم يحن بعدُ لهجومٍ عسكريٍّ شاملٍ على هذا المشروع، وأن هناك مجالًا قائمًا للديبلوماسيّة بين النظام الغربي وإيران. فالحديثُ الإسرائيليُّ الدائمُ عن حربٍ ما بين الحروب هي مجرد هرطقاتٍ إعلاميّةٍ وسياسيّةٍ؛ الحرب هي الحرب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فيما الحرب ما بين الحروب أو "حروب الظل" لم تستطع حتى الآن أن تؤثر على هذا المشروع، والمعنى هنا يتضح بأن قرار التخلص من المشروع النووي الإيراني ليس قرارًا إسرائيليًّا صرفًا، إنّه قرارٌ دوليٌّ ويلزمه حسابات معقدة ترتبط بالصراعات الدولية والاصطفافات الإقليميّة التي لم تنضج بعد. والإعلان عن تحالفٍ إسرائيليٍّ مع نظمٍ خليجيّةٍ، وإن كان بعض ملامحه قد تشكّلت إلا أن هذا التحالف لم ينضج نظرًا للموقف السعودي الصلب في هذا المجال.

إذن، فالتخوّفات من إيران ومشاغلاتها من قبل الاحتلال مرتبطةٌ أصلًا بالمشروع النووي الإيراني الملتف حول كيان الاحتلال، وبهذه الصورة تظهر إيران وكأنها هي على الهجوم وليس العكس، فأيُّ مغامرةٍ إسرائيليّةٍ بمهاجمة مقرات المشروع النووي ومراكزه بإيران سيعقبها حتمًا تدمير منشآت وبنى تحتية للكيان الصهيوني، فالسياسةُ الإسرائيليّةُ - إذًا - سياسةٌ دون تصورات وسيناريوهات مسبقة؛ لأنّها بكلّ بساطةٍ مرتبطةٌ أصلًا بأزمة النظام السياسي لدى الاحتلال، وهي أزمةٌ منفصلةٌ عن هذا الموضوع.

في السابق كان نتنياهو على رأس الحكم، ذهب ثم عاد للرئاسة ست مرات والمشروع النووي الإيراني يتقدّم بخطى ثابتة، هذا ما تشير له كل التحليلات والتقارير الأمنية والإعلامية والاستراتيجية من عواصم القرار بالعالم. وضمن سياق ضربة أصفهان أعلنت وزارة الدفاع الإيرانية أن ثلاث طائرات مسيرة تحملُ كمّيّاتٍ صغيرةً من المتفجّرات هاجمت مجمّعًا عسكريًّا في مدينة أصفهان بوسط إيران يوم السبت 28 كانون الثاني(يناير) 2023، ما تسبّب في بعض الأضرار بالمنشأة، وصرّح مسؤولون أميركيّون أنّ (إسرائيل) هي من نفّذت الضربة ردًّا على مخاوف تتعلّق بالأمن القومي بشأن الأنشطة العسكرية الإيرانيّة، كما حمّلت إيران رسميًّا (إسرائيل) المسؤوليّة عن هجوم أصفهان، بينما لم تؤكّد إسرائيل أو تنفي بشكلٍ رسميٍّ صلتها بالحادث. هذا الهجومُ يحملُ رسائل إسرائيليّة عدّة في إطار الحرب الصامتة بين الطرفين؛ أهمّها إعلان نتنياهو نهج الحرب والعدوان الذي يستهدف توجيه ضربات غادرة مؤثرة دون أن تؤدي إلى تصعيد وحرب شاملة، وتأكيده على أن مواجهة "التهديد الإيراني" سيبقى أولوية قصوى للأمن القومي الإسرائيلي، وعنوان هام لدى حكومته اليمينية المتطرفة، حيث أوضح ذلك أثناء أداء اليمين أمام الكنيست على أن "مواجهة إيران وحماية المصالح الإسرائيلية من التهديدات الإيرانية تأتي ضمن الأولويات القصوى لحكومته". ومن بين الرسائل استهداف تقويض القدرات العسكرية والنووية الإيرانية حتى لو كانت تتواجد في العمق الإيراني لأنّ اختيار مدينة أصفهان في الهجوم الأخير ليس عبثيًّا، حيث يقع ضمن حدودها ومحيطها الجغرافي أربعة مصانعَ حربيّةٍ لإنتاج المسيرات، والصواريخ الأسرع من الصوت "بمساعدة روسية"، حسب التقارير الغربية، فضلًا عن ذلك وجود العديد من المنشآت النوويّة فيها، وخاصّةً مفاعل نطنز، وقد أكّد داني ياتوم رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي السابق هذه المعلومة، وقال "إن الصواريخ الأسرع من الصوت الإيرانية يصعبُ على منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلي ضربها، لأنّها أسرع من الصوت بتسع مرات وهنا تكمن خطورتها". وبالإضافة للقدرات النووية، تستهدف (إسرائيل) أيضًا تعطيل صناعة الصواريخ الباليستية الإيرانية وصناعة الطائرات دون طيار، وهو أمرٌ يحظى باهتمامٍ متزايدٍ لمنع إيران من تطوير تعاونها العسكري مع دول أخرى، حيث تخشى (إسرائيل) من أن تعميق التعاون العسكري بين موسكو وطهران قد يهدد مصالحها في المنطقة، مما يجعل ردع هذا التعاون أمرًا استراتيجيًّا. كما أن (إسرائيل) تريد إحراج وإرباك المستويات والأجهزة الأمنية الإيرانية بأنها فشلت طوال الأعوام الأخيرة الماضية في وقف الاستهداف الإسرائيلي لأهدافٍ نوعيّةٍ في الداخل الإيراني، خاصّةً وأن الطائرات التي نفذت الهجوم انطلقت من داخل إيران أو بالجوار منها بحسب متابعين، وتريد أيضًا أن ينعكس ذلك على ارتفاع وتيرة التحريض على تصعيد الاحتجاجات الشعبية وعدم الرد عليها.

وفي السنتين الأخيرتين نفذت إسرائيل هجمات بالداخل الإيراني طالت أشخاصًا ومنشآتٍ صناعيّةً اغتالت العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، والهجوم الإلكتروني على منشأة "نطنز" لتخصيب اليورانيوم في نيسان (أبريل) 2021، التي أدت إلى بعض الضرر بأجهزة الطرد المركزي النووية المتطورة، وشهد عام 2022 استهداف منشأة إيرانية للبحوث النووية والطائرات دون طيّارٍ في "بارشين"، والهجوم على قاعدةٍ للطائرات دون طيارٍ في مدينة "كرمانشاه" غربي إيران. وفي المقابل لم تقف إيران مكتوفة اليدين على هذه الاعتداءات، فجاء ردّها بأساليب مختلفة طالت أماكن متعدّدة منها استهداف ما أعلنت أنه قاعدة استخبارات إسرائيليّة في "أربيل" عاصمة كردستان العراق عام 2022، بالإضافة إلى تنفيذ مخططاتٍ جرى إحباطها لاستهداف إسرائيليين في أماكن مختلفة.

الضربات الإسرائيلية خلال العامين الماضيين لم تشكل عامل ضغطٍ على القيادة الإيرانية لدفعها إلى تغيير أو مراجعة سياستها النووية. بدلًا من ذلك، واصلت طهران تطوير وتعزيز قدراتها الدفاعية عن منشآتها العسكرية، فاتّخذت تدابير عدّة للحدّ من آثار الضربات على مرافقها العسكرية المهمّة حيث شيّدت مواقع موازية يمكنها تبديل عمليّاتها دون تأخيرٍ لتعويض المنشآت المستهدفة والمتضررة، والتمكّن من الإخفاء والتشتيت المناسب للذخيرة اللوجستية الخاصة بالمنشآت على أوسع نطاقٍ جغرافيٍّ داخل إيران. وكشفت مؤخّرًا عن قاعدةٍ جويّةٍ كبيرةٍ تحت الأرض تحمل اسم "عقاب 44"، وتستوعب طائرات مقاتلة، وفي أيار (مايو) الماضي كشفت إيران عن قاعدة طائرات دون طيّار مساحتها كبيرة، ووصفتها بأنّه "لم يسبق لها مثيل تحت الأرض"، وتقع في مكانٍ مجهولٍ في جبال زاغروس في غرب البلاد، تضمُّ صواريخ استراتيجيّة وأسطولًا من المسيرات.

وما لبثت أميركا و(إسرائيل) من الانتهاء من مناورة شاملة (جونيبر اوك2023) حتى وقعت ضربة أصفهان، وهنا ما يشير إلى أن توقيت ومزامنة الهجوم لم يكن مصادفةً وجاء بعد الانتهاء مباشرة من المناورة، التي امتدّت لأسبوع، وتضمّنت التدريبات ضرب أهدافٍ تحاكي مواقعَ نوويّةً إيرانيّةً واستخدام القاذفات بعيدة المدى، والاستهداف البالغ الدقة والتركيز، والتزود بالوقود في الجو، كما شملت التدريبات على تطوير القدرات الهجومية التكتيكية المتعلقة بالبنية التحتية النووية لإيران، الأمرُ الذي أكّدته مصادر إسرائيليّة.

وتؤكّدُ المناورةُ التي تعدُّ الأكبر تاريخيًّا بين الجانبين بأن الكيان الصهيوني لا يمكنه من الناحية العسكرية، أن يتفرد بمهاجمة إيران لضرب قدراتها النووية دون دعمٍ ومساندةٍ كاملتين من الولايات المتحدة الأميركية، التي تعمل على تعزيز فرص الخيار العسكري. إلا أن إدارة بايدن ما زالت تحاول التوصل لاتفاق مع طهران للعودة لطاولة المفاوضات النووية وليس للحرب معها.

البعض يرى أن إيران لن تسكت على هجوم أصفهان وستعمل على ردٍّ انتقاميٍّ مؤثّر، وعمليًّا لم يستغرق الردّ وقتًا طويلًا، فبحسب المتحدّث باسم الحرس الثوري الإيراني، العميد رمضان شريف، في تصريحٍ خاص لوكالة "سبوتنيك"، يوم (9/2/2023) قال: "على الرغم من أن هجمات الإسرائيليين لم تكن ناجحة، إلا أنّهم تلقّوا ردودًا موجعة... وليست هناك ضرورة حاليًّا، للإعلان عن تلك الردود. ولكن سوف نشاهدُ ذلك في سلوكهم، خلال الفترة المقبلة". في حين ستواصل (إسرائيل) عدوانها؛ بهدف تعطيل قدرات إيران النوويّة وبرامج الصواريخ والطائرات دون طيّار القتاليّة، وهذا يأتي في إطار حرب الظل بين الطرفين، التي تبقى حدودها ضمن تبادل الهجمات وإطالة أمد التوترات الذي يمنع من حدوث صراعٍ عسكريٍّ شاملٍ بين إيران وإسرائيل في ظل الظروف المعقدة والمتشابكة دوليَّا وإقليميَّا.