أسئلة المقاومة في هذه المرحلة

حجم الخط

تصاعدُ المواجهة مع العدوّ الصهيوني يطرح اليوم أسئلةً وقضايا تتعلّقُ بإدارة هذه المواجهة، فمنذ سنواتٍ كان السؤال الأساسي في معظم ساحات الوطن يتمحور حول: كيفية استعادة قدرة الفلسطينيين على فعل المواجهة، وإحداث خرقٍ لأطواق الملاحقة الأمنيّة المفروضة على الفلسطينيين؛ أي أن يستطيع الفلسطيني أن يقاوم أيًّا كان شكل أو مستوى أو موضع هذه المقاومة وأدواتها، ولكن هذا الواقع قد تغيّر بكلفةٍ كبيرةٍ وتضحياتٍ جسيمة، وبتنا اليوم أمام أنماطٍ عدّة للمقاومة في معظم ساحات الوطن، وخصوصًا في الضفة المحتلّة، وأيضًا أمام تصعيدٍ هائلٍ في كثافة العدوان ومستوى جرائم الاحتلال.

السمة الأبرز لهذه المرحلة هي الكثافة والتعدد في مسارات العدوان؛ بات يطرح عشرات العناوين اليومية للمواجهة، وأيضًا قضايا كبرى مثل قرار الضم الاستيطاني أو القانون الصهيوني لإعدام الأسرى الفلسطينيين، والعدوان المتصاعد على القدس وحملة القتل المتصاعدة في الضفة المحتلة، والهجوم الاستيطاني الشرس على النقب وأهله، هذه المواجهة تحتاج اليوم لما هو أكثر من إشعالها، أو دعوة الجماهير لخوضها أو حتى دفع الفصائل لطاقتها فيها؛ إنما نحتاج للتنظيم واختيار نقاط المواجهة، وذلك يجب ألا يتم بناءً على أكثر هذه النقاط استفزازًا لمشاعرنا الإنسانية والوطنية، لكن بناءً على قدرتها في الإسهام بهزيمة العدو.

إن الشائع بشأن هذه المرحلة من الصراع أن واجب شعبنا هو الصمود وتفعيل مقاومته لمنع العدو من التمدّد، وهذا صحيحٌ إلى حدٍّ كبير، ولكن ما لم يكن هذا الطرح والمقاربة جزءًا من مسارٍ ورؤيةٍ لهزيمة الاحتلال، فإنه وصفةٌ للهزيمة على المدى القصير، أي هزيمة وإخفاق في إنجاز حتى العنوان الآني الذي يطرحه، فما يُمكّن من تحقيق الأهداف التكتيكية هو انسجامها ضمن سياقٍ عام، وعدم تضاربها مع بعضها أو مع هذا السياق كليًّا.

ما سبق ليس خطابًا نقديًّا موجّهًا للحالة الفلسطينية - رغم ضرورة المواظبة على نقدها - ولكن بالأساس دعوة لإدراك التحولات في طبيعة الاشتباك مع العدو، وأيضًا ما حققه شعبنا من تطوّرٍ في قدرته على المواجهة، تطور ما زال لم يصل لمستوى الحشد أو التنظيم الكافي أو اختيار الأهداف النضالية؛ فشعبنا يمارس اليوم فعله ضد الاحتلال بناء على "الخبرة النضالية الموروثة"، فيما يحتاج لأدوات تسهم في تحديد الأهداف وبناء وتنظيم أدوات تحقيقها. هذا الطرح يبدو ضروريًّا في مواجهة مقولاتٍ مهيمنةٍ في البيئة الفلسطينية، وفي مساحات المعنيين في معسكر المقاومة عمومًا؛ لعل أبرزها تلك المتعلّقة بـ"غياب التنظيمات عن ساحة الضفة" أو عدم وجود حاجةٍ لتحديد أهدافٍ واضحةٍ والتوافق على مهمّاتٍ لتحقيق هذه الأهداف، باعتبار أن شعبنا يدرك خطه العام ومساره التحرّري، ويمارس كفاحه في هذا الإطار العام، والإشكالي في هذه المقاربات أنها قد تكون صحيحة في حالة حركة احتجاجية ضد سياسات معينة، ولكن شعبنا لا يحتجّ على الاحتلال أو شِقٍّ من سياساته، ولكن يناضل لأجل هزيمة عدوه التاريخي دفاعًا عن وجوده.

هناك من يقارب دور الفصائل/التنظيمات كما لو كانت جيوشًا أجنبيةً سترسل مفوضيها لبناء ميلشياتٍ محليّةٍ تابعةٍ لها في الضفة المحتلة، فيما الواقع أن عشرات آلاف -غالبًا مئات الآلاف- من مناصري وكوادر هذه الفصائل يمارسون "انتماءهم" بأشكالٍ علنيّةٍ متعدّدةٍ في ساحة الضفة، ولكن نقطة عجزهم هي عدم تمكنهم من ممارسة العمل المنظم ضمن هيكلٍ تنظيميٍّ وبأهدافٍ محدّدة، وأيضًا بأثمانٍ مدروسةٍ سلفًا، وملائمة لحجم النتائج المرجوة. بعبارةٍ أخرى هناك فصائل في الضفة وكادر ومناصرين، ولكن لا يوجد تنظيم، كما أن هناك بنى وطنية مفتوحة عابرة للفصائل - وهذا لا يعني أنها غير فصائلية - ولكنها تعمل معًا بمنطق التضافر والتضامن النضالي، لا بمنطق المعركة الشاملة ضد العدو الهادفة لهزيمته من خلال ضرب مفاصله الأكثر أهمية... الجواب الذي قد تقدمه بوابة الهدف في هذا الجانب مسيس؛ يأتي من خطها السياسي المعروف، ومن قراءة هذا الخط للواقع الفلسطيني، ونضاله المستمر لتغييره ولهزيمة العدو بالأساس؛ الجواب هو جبهة مقاومة وطنية، تضم أوسع شريحة ممكنة من المؤمنين بالنضال الثوري طريقًا لهزيمة الاحتلال، تشكل وعاءً تنظيميًّا لنضال شعبنا في هذه المرحلة، وتضع أهداف عملياتية وسياسية لضرب مفاصل العدو واستنزافه وتطوير أدوات شعبنا في ممارسة هذا الاستنزاف؛ بناء هذه الجبهة ليس اتّفاقًا سياسيًّا بين بعض من الفصائل، وإن كان قد يبدأ بذلك، ولكنه بالأساس بناءً وطنيًّا في كلِّ حيٍّ ومدينة وشارع وقرية ومخيّم يحيل بؤر النضال المبعثرة؛ لقواعد ثورية متصلة ببعضها وببرنامجها ومتجذرة شعبيًّا.