فلسطين الجديدة: أجيال تتواصل وتنصهر في أتون المعارك اليومية

حجم الخط

في ضوء هذا التصعيد الإجرامي الصهيوني وهذه المجازر الجماعية والفردية التي تقترفها وحدات ونخب الاحتلال العسكرية الخاصة على مدار الساعة، وبالمقابل في ضوء هذه المعارك والملاحم الكبيرة التي يسطرها شباب فلسطين، نعود لنوثق بمنتهى الوضوح والثقة والإيمان: إن الجيل الفلسطيني الجديد هو جيل المستحيل الذي أخذ يقلب كل الحسابات ويخلخل الأمن الصهيوني ويربك المؤسسة الأمنية والعسكرية الصهيونية بكاملها، والذي يقود القضية الفلسطينية نحو أفق حقيقي للتحرير والخلاص من براثن الاحتلال المجرم، وعلينا الإيمان بالجيل الفلسطيني الجديد… الجيل المنتفض الثوري الشجاع والجريء الذي لا يهاب المواجهة حتى الشهادة، وهذا ما نشاهده ونتابعه في السنوات الأخيرة على امتداد مساحة الوطن المحتل، من جنين إلى نابلس إلى القدس   وإلى كل الأماكن الفلسطينية خلال الأسابيع والشهور الماضية، حيث يتقاطر الشبان كالطوفان للتصدي لقوات ومستعمري الاحتلال المجرمين، وما العمليات البطولية الفذة التي ينفذها أيقونات هذا الجيل- مؤخراً سوى أمثلة ساطعة وقوية على ذلك.

وعن دور هذا الجيل الفلسطيني الجديد-الشاب- في هذا الكفاح، بل وفي المقاومة والانتفاضات، هناك زخماً هائلاً من التقارير والمعطيات التي تتحدث عنهم وعن بطولاتهم وروحيتهم الاستشهادية، فالذي يحمل سكينه ويتوجه للجنود أو المستوطنين المسلحين ليهاجمهم وليطعنهم، فإنه يعرف مسبقاً أنه متوجه للاستشهاد حتما، فيحمل روحه على راحته بمنتهى الجرأة والإقدام، والذي يتوجه إلى حاجز شعفاط وإلى بوابة مستعمرة “معاليه أدوميم” يعرف أنه ذاهب أيضا للشهادة، وفي ذلك جاء في تقرير وصفي لهم: ”أنهم ولدوا من رحم انتفاضة الأقصى، وقد تسموا بأسماء شهداء الانتفاضة تيمناً ببطولاتهم وتضحياتهم، ترعرعوا على أنموذجين في الساحة الفلسطينية؛ أنموذج قهر المحتل وإجرامه منقطع النظير، وأنموذج البطولة والتضحية الذي يرفع الهمم ويؤجج نار الثأر والثورة في صدورهم”. وجاء في وصفهم أيضاً: “أن هذا الجيل لم يرَ الذل، ولم يعرف المحنة ولم تقهره السجون الصهيونية، فقلبه قوي وجنانه شديد لم ينكسر، واثق معتد بنفسه، ثابت راسخ القلب، جيل فتح عينيه بعد الحلم على حروب الاحتلال العدوانية على الشعب الفلسطيني وعلى المعارك اليومية، وهذا الجيل هو من يصنع الثورة والانتفاضة، وهو جيل النخبة، وهو جيل الطعن في القدس والضفة، جيل لا يعرف الحسابات، ولا يتردد".

إلى ذلك، ووفق الوثائق والصحف والشهادات المختلفة، فإن الجيل الفلسطيني الرابع هو الذي يقف اليوم منتفضاً في مواجهة الاحتلال الصهيوني، مواصلاً الأجيال العربية الفلسطينية الأربعة التي سبقته في الميدان منذ نحو أربعة و سبعين عاماً، ولكنه يكون الجيل الفلسطيني، ربما التاسع أو العاشر إذا ما أخذنا في الحساب أن التصدي العربي الفلسطيني، بدأ مع بدايات الاستيطان الصهيوني منذ عام 1878، مع إقامة أول مستعمرة صهيونية وهي “بيتح تكفا” على أراضي قرية الملبس الفلسطينية، ولذلك نوثق ونقول: ما أعظم وما أروع فلسطين في مسيرتها الكفاحية المفتوحة المليئة بالهبات والانتفاضات والثورات والتضحيات، هذه المسيرة التي تصدت وتتصدى للمشروع الصهيوني نيابة عن الأمة العربية: ثمانية – تسعة أجيال متتابعة تخوض الكفاح بلا تعب أو كلل أو يأس أو استسلام، يذهب جيل ليأتي الجيل التالي بعده، والجيل الثالث، فالرابع وهكذا، ليحمل الراية والرسالة والأهداف الوطنية التحررية، وها هو الجيل الخامس منذ النكبة والعاشر منذ نحو قرن وأربعين عاما كاملة، هو الذي يحمل الراية ويقود التصدي في الميدان في مواجهة جيش ومستعمري الاحتلال، ليضيف ملحمة كفاحية أخرى إلى جملة الملاحم التي سطرها الشعب العربي الفلسطيني في مواجهة الصهاينة الغزاة.

إسرائيلياً، وعن هذا الجيل الفلسطيني قال الكاتب الإسرائيلي ”آفي يسسخاروف – محلل عسكري-يديعوت أحرونوت”، 27/1/2023 ”أن العملية الأخيرة في جنين أثبتت أن الشبان الفلسطينيين لا يخافون من الموت في مواجهات مع إسرائيل”، واضاف واصفا ما جرى: لقد كان من المفترض أن تكون عملية محدودة جداًـ وبالفعل بدأت كذلك، قوة من المستعربين تخفّت في شاحنة لمنتوجات الألبان، بحسب تقارير فلسطينية، ووصلت إلى وسط مخيم اللاجئين في جنين، حيث كانت تختبئ خلية من “المخربين=أي الفدائيين-” وتخطط لهجوم في وقت قريب. اصطدمت قوة المستعربين بمسلحين، وتطوّر الحادث إلى عملية واسعة جداً في وضح النهار في وسط المخيم..    في المرحلة الأولى من العملية، أصيب مسلحان وسلّم ثالث نفسه. المسلحون في المخيم يعرفون أنه في حوادث من هذا النوع يمكنهم، ببساطة، الانسحاب قليلاً والمكوث في منازلهم والسماح للقوة الإسرائيلية بالخروج. لكن العشرات منهم فضلوا مواجهة القوة الإسرائيلية، مع استعدادهم للموت، أو للإصابة بجروح، وخلال وقت قصير من العملية، أُعلن مقتل 9 فلسطينيين وامرأة لا علاقة لها بما يحدث”.

ومن أهم ما كشف الكاتب الاسرائيلي النقاب عنه ما يتعلق بجرأة الشبان الفلسطينيين قائلاً: ”على الصعيد العسكري، هذه العملية كانت ناجحة، وأدت إلى إحباط هجوم. لكن العملية في جنين أثبتت ما لاحظه الجانب الإسرائيلي منذ وقت طويل، وهو أن المئات أو الآلاف من الشبان الفلسطينيين لا يخافون من الموت، أو الإصابة بجروح، خلال مواجهاتهم مع إسرائيل، فقد كُتبت على عدد كبير من نُصب القتلى من المسلحين، وعلى جدران مخيمات اللاجئين، عبارة “احذروا الموت الطبيعي… لا تموتوا إلاّ تحت زخات الرصاص” (عبارة مأخوذة من الكاتب غسان كنفاني ، من الجبهة الشعبية). يبدو أن العديد من الشبان في الضفة الغربية يجعلون هذه العبارة شعاراً لهم في الحياة، أو بالأحرى في الموت".

وقبلها كشفت مجلة “إسرائيل ديفينس” العسكرية العبرية عن مفاجأة، مفادها “أجهزة الأمن الإسرائيلية تواجه ورطة كبيرة، بالنظر إلى أن الهجمات التي ينفذها الفلسطينيون في الوقت الراهن تختلف كثيرا عن سابقاتها في السنوات الماضية، حيث تتميز بروح تضحية عالية غير مسبوقة”، وأضافت المجلة في تقرير لها “أن جهاز الأمن الإسرائيلي العام “الشاباك” أصدر تقريراً حول العمليات الفلسطينية الأخيرة أظهر أن منفذي هذه العمليات نوعية جديدة من الشباب الفلسطينيين الذين يتمتعون بروح تضحية عالية”.

وأكدت الكاتبة الإسرائيلية عميره هاس في صحيفة هآرتس على ذلك قائلة: “أن المواجهات المستمرة في الأراضي الفلسطينية، يقف خلفها جيل جديد من الفتيان والشبان الفلسطينيين الذين فقدوا كل أمل في اتفاق أوسلو“، وتحت عنوان ”جيل لا يخافنا” كتب نوعم أمير في معاريف يقول: “لقد نشأ هنا جيل لا يتذكر السور الواقي ولا يخاف".

وربما يلخص لنا الكاتب الإسرائيلي المناهض لسياسات الاحتلال العنصرية ضد الفلسطينيين، جدعون ليفي هذه الحقيقة المشار إليها أعلاه، حينما كتب في هآرتس، قائلاً: يبدو أنّ الفلسطينيين طينتهم تختلف عن باقي البشر، فقد احتللنا أرضهم، وأطلقنا عليهم الغانيات وبنات الهوى، وقلنا ستمرّ بضع سنوات، وسينسون وطنهم وأرضهم، وإذا بجيلهم الشاب يفجّر انتفاضة الـ 87… أدخلناهم السجون وقلنا سنربّيهم في السجون وبعد سنوات، وبعد أنْ ظننا أنهم استوعبوا الدرس، إذا بهم يعودون إلينا بانتفاضة مسلحة عام 2000، أكلت الأخضر واليابس، فقلنا نهدم بيوتهم ونحاصرهم سنين طويلة، وإذا بهم يستخرجون من المستحيل صواريخ يضربوننا بها، رغم الحصار والدمار، فأخذنا نخطط لهم بالجدران والأسلاك الشائكة.وإذا بهم يأتوننا من تحت الأرض وبالأنفاق، حتى أثخنوا فينا قتلاً في الحرب الماضية، حاربناهم بالعقول، فإذا بهم يستولون على القمر الصناعي عاموس ويدخلون الرعب إلى كلّ بيتٍ في إسرائيل، عبر بث التهديد والوعيد، كما حدث حينما استطاع شبابهم الاستيلاء على القناة الثانية، خلاصة القول، يبدو أننّا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ، ولا حلّ معهم سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال”.

وخلاصة القول عن الشباب والفتيات الفلسطينيين والفلسطينيات: “أن الفكرة الأهم في هذه الانتفاضات المستمرة، أنها كسرت فكرة أن هناك جيلاً فلسطينياً لا يهزم، لأن الإسرائيلي منذ العام 1948 راهن على كسر إرادة الأجيال الفلسطينية، وفي كل مرة كان هنالك جيل يفاجئه ويطلق ثورة من نوع خاص، ترسّخ بقاء المقاومة في البيئة الفلسطينية وتحبط الإسرائيليين… الإسرائيليون راهنوا على أن الجيل الفلسطيني الجديد هو جيل “أوسلو”، لكن العدو الإسرائيلي فوجئ بأن هذا الجيل يقاوم بكل ما أتيح له من قوة، ولا ينتظر أن يمتلك أدوات مميزة ليقاوم”.

وفي تطورات هذا المشهد الفلسطيني الكفاحي المتصل عبر الأجيال، يظهر دور الطفل الفلسطيني في الميدان، كما يظهر دور المرأة والفتاة والطفلة الفلسطينية في الميدان الفلسطيني، فهناك الشهيدات وهناك الأسيرات في معتقلات الاحتلال، ليصبح هؤلاء الأطفال أيقونة الكفاح الشعبي الفلسطيني ورمزاً للجيل الفلسطيني الشاب الجديد الذي لا يهزم ولا يكسر أمام عنجهية وقمعية الاحتلال.

ننحني احتراماً وإجلالاً للجيل الفلسطيني الجديد الصاعد الذي يخشاه الاحتلال وتتحدث وسائل إعلامه عن جيل لا يهاب الموت أبداً، فهذا هو الفلسطيني الجديد الحقيقي الذي تابعناه في الميدان الفلسطيني- المقدسي على مدى الشهور والسنوات القليلة الماضية، وتلك هي فلسطين الجديدة التي سيبنيها هذا الجيل الجديد بقوة الإيمان والمقاومة والتحرير.. أجيال تتواصل في أتون المعارك اليومية.