مهمّةٌ شاقّةٌ تلك التي يضطلع بها من يأخذ على عاتقه كتابةَ تاريخِ شعبٍ أو أمّةٍ أو أحداثٍ تاريخيّةٍ عامّةً كانت أو خاصة، حيث تخضع تلك المهمّة لعوامل عدّة: أيديولوجيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة.. وحتّى شخصيّة، فهو يكتب نصًّا/وثيقة عن التاريخ وللتاريخ معًا، وهذا أحد أبرز ما يجعل المرء يعدّها فعلًا مهمّةً شاقة، ليس هذا فحسب، بل ومهمّةٌ ترقى لأن تكون مصيريةً – وهي بالفعل كذلك - في الحالة الفلسطينية، التي يخضع تاريخها: وجودًا ووعيًا وحقوقًا للمُطهر التوراتي – الصهيوني الذي يعمل بدأب منذ القرن الثامن عشر على الأقل، لصناعة تاريخ خاص، ليس بدافع التزوير والاختلاق فحسب، بل نسف التاريخ العربي لفلسطين، بديناميت المشروع الغربي الاستعماري، لإزاحة الإنسان عن المكان كليًّا كما وثقت عمليات التطهير الممنهجة، واستمرار وجود ما يزيد عن سبعة ملايين فلسطيني في بلدان المهجر واللجوء.
هنا، تكتسب هذه المهمة تاريخيّتها الراهنة، براهنية الصراع المستمر في كل زاويةٍ من زواياه، بدءًا من القاعدة المنهجيّة، والأدوات البحثيّة، والمعلومات الدقيقة، والوقائع الجارية، واحترام الحقائق، والمحدّدات القسريّة، والمعالجات السببيّة، والقراءة النقديّة، بما يشكّل نسقًا تاريخيًّا لنص/وثيقة مؤسّسةٍ بمجملها للمستقبل المنشود؛ ترتكز على أعلى درجات النزاهة الفكرية والوطنية والأخلاقية.
لمحة عامة عن الكتّاب: الالتقاء والتمايز
كثيرون هم من اضطلعوا بمهمة كتابة التاريخ الفلسطيني: إميل توما، عارف العارف، عبد الوهاب الكيالي، يوسف سامي اليوسف، بيان نويهض الحوت، سميح فرسون، عادل مناع، رشيد الخالدي، ماهر الشريف، يزيد الصايغ وغيرهم كُثر؛ منهم من تناول تاريخ فلسطين منذ حقبٍ تاريخيّةٍ سحيقةٍ تتجاوز السبعة آلاف سنة، وآخرين تناولوه في حقبٍ زمنيّةٍ محدّدة "الاحتلال العثماني" ومنهم من تناول تاريخ فلسطين الحديث تحديدًا منذ بروز المشروع الصهيوني وأهدافه الاستعمارية، ومنهم من وثّق "للنكبة" وأحداثها، ومنهم من كتب عن ناحية أو لواء أو مدينة فلسطينية بعينها، ومنهم من وثق لتاريخ فلسطين في سياقة القومي وأبعاد الصراع التاريخي وشموليته، ومنهم من وثق لمرحلةٍ بعينها: الكفاح المسلّح والتسوية السياسيّة الفلسطينيّة – الإسرائيليّة... الخ.
في كتابه الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، عام 2022، بعدد (767) من الصفحات؛ يلتقي المؤرخ عبد القادر ياسين مع العديد من الأسماء المذكورة وغيرهم في تناول التاريخ الفلسطيني، ومنه تجربة الحركة الوطنية منذ بدء الغزوة الصهيونية على فلسطين، لكنّه يبدأ متأثّرًا بخلفيّته اليساريّة المعروفة ببدايةٍ ميّزته، من خلال تناول الاقتصاد السياسي للقضية الفلسطينيّة؛ منطلقًا من "كوْن الاقتصاد هو محرِّك التاريخ، بينما تُقطر الحرب ذلك التاريخ؛ أما السياسة فهي التعبير المكثّف عن الاقتصاد (ماركس).
معروفٌ حسب - قول ياسين - أنّ علم التاريخ يختص بدراسة تطور المجتمع، الذي يتحدد بحركة قوى الإنتاج، والتغيير في علاقات الإنتاج، دون إغفال دور العلاقات السياسية، والفكرية. واعين – في الوقت نفسه – أن التاريخ إنما يتجلَّى صراعًا بين الطبقات؛ وكل صراع طبقي هو صراع سياسي"، وبتعبير جورج لوكاتش في كتابه التاريخ والوعي الطبقي: "إن الفجوة الأكثر هدمًا والأكثر ثقلًا بنتائجها، في وعي البروليتاريا الطبقي، تُعلن في الفصل بين الصراع الاقتصادي والصراع السياسي". في حين أنّ المؤرخ "ياسين" لا يؤرخ في كتابه "للطبقة العاملة" الفلسطينية، بل للشعب الفلسطيني وتركيبته الاجتماعية، إلا أن أحد أسس فهم الصراع وتجليّاته ومساره وأبعاده، وفي كنهها تحوّلات حركته الوطنيّة، لا بد أن يكون من بوابة تلك القراءة الاقتصادية – السياسية، سواءً على صعيد علاقة الصهيونيّة العضويّة بالرأسماليّة الإمبرياليّة، أو على صعيد تراكم المسار التسووي في قيادة الحركة الوطنية، الذي كان يزداد مع تراكم رأسمالها وامتيازاتها وعلاقاتها السلطوية واندماجها أكثر مع الطبقتين الرأسماليتين العربية والفلسطينية، وهنا مربط خيل تعميق هذه القراءة بتخصصيةٍ أكثر، تضعنا أمام نصٍّ عموميٍّ في فهمٍ أعمق للتاريخ ومحدّداته الموضوعيّة.
يُدرج "ياسين" في كتابه وقائع كثيرة ارتبطت بالوجود الاستعماري البريطاني في فلسطين، وبالتطوّرات التي تأسّست على هذا الوجود خلال القرن العشرين: صكوك ووعود ومبادرات ومشاريع تسوية واتفاقيّات وأحزاب وتشكيلات عصابيّة وحروب ومجازر وانتفاضات وداخل وشتات وتحالفات وإخفاقات وهزائم وانتصارات ومؤتمرات... من بدء تشكّل الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة عام 1918 إلى الظاهرة المسلّحة المرتبطة بالشيخ عز الدين القسام أوائل الثلاثينات، وتوجت بثورة 36 – 39، ومن الكتاب الأبيض إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، وانتقال ثقل المركز الإمبريالي إلى أمريكا الذي انتقلت معه الحركة الصهيونيّة وصولًا لاحتلال فلسطين، ومن النكبة وتوالي فصول المعاناة والقتل إلى "النكسة" 1967 التي فرضت شروطًا قسريّة/موضوعيّة جديدة، أعطت لما سمّي بالكيانيّة الفلسطينيّة دفعةً لمن كان ينتظر "فلسطنة" القضية من بوابة أن الهزيمة "قومية"، دون رؤية أنها كانت هزيمةً فلسطينيّةً بقدر ما كانت هزيمة عربية، إلى أن انتهى المآل بأن تكون التسوية الأمريكية هي نتيجة التغييرات التي جرت في بنية وتركيبة ومسار تطور وعلاقات الحركة الوطنية الفلسطينية، حيث حدث الانقلاب الكبير لمن لم يتوقعه، والنتائج المحتومة لمن قرأ التاريخ في حلقاته المتواصلة، وليس في مساراته المتقطّعة. هنا يلتقي المؤرخ "ياسين" مع بعض آخر ممن كتبوا عن هذه التجربة أو "حقبوا" لها، لكن القارئ سيجد أمامه أحداثًا ووقائعًا كثيرة يحفل بها الكتّاب في معظم صفحاته، بمصادر ومراجع متنوّعة (صحفية في أغلبها!) جمعت بين كاتب التاريخ أو المؤرخ والصحفي، وهذه الأخيرة تبرز في إقرار "ياسين" نفسه، بأن "التاريخ مدرسةٌ سياسيّة؛ فهو سياسة الماضي، بينما الصحافة تاريخٌ راهن، لأنّ كليْهما يحاول الوصول إلى البواعث المحرِّكة الخفيَّة، وراء ما للوقائع من حُجبٍ مشكوكٍ فيها".
أظهرت بعض الكتب التاريخ الفلسطيني بأنّه عبارةٌ عن تاريخ أفراد/طبقات - إن جاز التعبير - مارسوا دورًا محوريًّا مهمًّا في تحديد مسار الحركة الوطنية والتجربة الفلسطينية بالإجمال، وهذا صحيحٌ من حيث المبدأ، حيث ما كان يجري فعليًّا هو صياغة كامل البنية المجتمعية والسياسية وتكييفها أفقيًّا لتكون بمستواهم، وبمستوى مصالحهم، ومن ثَمَّ "رؤاهم" أو مشاريعهم الخاصة، التي كانت ترى الخارج/الموضوعي هو المحدّد الأساسي لا الداخل/الذاتي، وعليه جرى التعامل مع المجتمع/الشعب والتعاطي معه عبر حلقاته الرخوة والضعيفة، بحيث جرى المساس المتدرّج بالقيم والمعايير الوطنية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية، عبر تنمية الديناميات السلبية الداخلية، وما تفضي إليه من تهيئة الأرضية لتحقيق المصالح الطبقية والسياسية الخاصة، وهذا يبرز في مجمل جنبات كتاب المؤرخ "ياسين".
لقد كَتب الكثير من الكُتَّاب بعضهم من آنفي الذكر وغيرهم عن التجربة السياسية للحركة الوطنية الفلسطينية، التي بدت في جزء منها كتابات/قراءات بديهية في سياق عملية توثيق تاريخية، وهنا لا شك تقع جميعها في محطة التقاء بعملية حفز الوعي الاجتماعي العام للتجربة بإيجابياتها وسلبياتها، وتضع أمامنا ذخيرةً يُركن لها، لكن يبقى المحظور الدائم في كتابة التاريخ، بما هو عملية حفظ للذاكرة الوطنية والاستمرارية التاريخية والنصر التاريخي؛ الوقوع في أسر البديهيات المعروفة/المعلنة التي تضعنا أمام "ملاحقة الحوادث" في دراسةٍ أفقيّةٍ في الأغلب، خاصّةً أنّ حصيلة الحوادث/الظواهر أوصلتنا لضرورة إعادة قراءة البديهيات نفسها، من خلال ضرورة تأصيل الحوادث/الظواهر، وإعادتها إلى جذرها، وبنيتها الاجتماعية التي هي مصدر الحوادث/الظواهر ومنبعها التي تجد تعبيرًا جماعيًّا وفرديًّا في آن، كي نصل إلى تفسير التاريخ وليس تبريره.
العشوائيّة في التاريخ: عن المنهج
لقد اكتفى البعض بأن يرى عملية التاريخ سردًا أو تسجيلًا أو توثيقًا للأحداث التي جرت في الماضي، أخذًا بالفهم التقليدي الدارج عن دور التاريخ، الذي يشكّل استعادةً للماضي، فقد نجد فيه ما هو ممتع ويساعد بالحكم على الماضي، بحسب قول الوزير البريطاني دوغلاس هيرد. لكن هنا يحضر سؤال المنهج الذي يشكل ركيزة أية عملية بحثية وجوهرها، بل معيارها/ضابطها العلمي الذي أعتقد أنه لا يمكن أن يكون محل اختلاف، ألا وهو المنهج التاريخي الذي من الخطأ الفادح اعتباره فقط عملية سرد أو تسجيل أو توثيق لأحداث الماضي والتعليق عليها أو اختزال المسألة بإسقاطاتٍ تَحرِف المراد من عملية كتابة التاريخ عن هدفها، وأي هدفٍ أسمى من فهم واقع الحال، ربطًا بالحصيلة التاريخية الإجمالية المحققة، التي وضعت الجميع: تجربة وشعب وقضية في دوائر أزمة بنيوية، لم يجرِ الفكاك منها بعد، بحيث يعزز واقع الحال هذا، أي الحصيلة التاريخية ربطًا بصحة وثبات الوقائع/الظواهر التاريخية المتكررة التي شكلت بتتابعها؛ نسقًا تاريخيًّا واحدًا؛ أن القراءة الهادفة/الفاحصة تحتاج لتوظيف المنهج التاريخي بمكانته العلمية المرموقة؛ حاجةً وضرورةً للقراءة والتحليل والاستشراف على نحو يوصلنا إلى الجذر الفكري لأخطائنا العملية أو حصيلتها التاريخية السلبية؛ فهذه الحصيلة التراكمية – دون أدنى شك - تعود بدورها لأخطاءٍ فكريّةٍ تأسيسيّة، وهنا يصحُّ تمامًا قول غسان كنفاني : "تكتسب مهمة الباحث دورًا أعمق مما كان لها في أي وقتٍ مضى؛ فهي مطالبةٌ بالتزود بشجاعة مضاعفة من جهة؛ للقدرة على النقد، ومن جهةٍ أخرى للتمسّك بما لا ينبغي أن يُدمّر".
التاريخ الفلسطيني: توثيق أم نقد؟
تُبيّن لنا القراءة الأفقية للتاريخ الفلسطيني، وكما يظهر في كتاب المؤرخ عبد القادر ياسين، غير منفصلةٍ عن جزءٍ مهمّ ممن اضطلعوا بذات المهمة، أن نسقًا واحدًا حكم تطور مختلف مجالات الحركة الوطنية الفلسطينية خصوصًا، اتجاه محدد هو إبراز مفاصلها الرخوة والتعاطي عبر أضعف حلقاتها، بحيث كان "دائمًا" يجري الأخذ بالخيار الأقل مستوى، والحصيلة ظهور الحركة الوطنية ومجتمعها/شعبها الفلسطيني عند أدنى مستوياتهما، وذلك لم يكن مُضرًّا بسياسة التحرير المُعلنة، بل بسياسة التسوية المضمرة أيضًا. وما بين السياستين؛ يظهر أنه ضاع عن ذهن المعنيين في الحالتين أن بنيةً داخليّةً ضعيفة لا تُبعد المجتمع/الشعب عن "صراط" التحرير، ولا تفرض عليه قبول التسوية من ناحية المبدأ فقط، بل تُعطي للعدو شرط استمرار التفوق والاندفاع في تحقيق أهدافه الاستعمارية – التصفوية، وفي سياقها فرصة أن يفرض ويحدد نوع التسوية نفسها، وهذا مؤكد "بواقع الحال القائم" بالطبع. هنا تتعدى مهمة كتابة التاريخ أو إعادة كتابته بالالتقاء أو الافتراق مع ما كُتب مسألة التوثيق؛ إلى إعادة التأهيل الواعي والشامل لما خضع له المجتمع/الشعب، الذي لم يقتصر على الجانب السياسي فحسب، بل مجمل بنيته الاقتصادية – الاجتماعية وقيمها التحررية، من خلال محاولات تدمير الذاكرة الوطنية الجمعية، بإعادة تأسيسها على تاريخ/وعي غير صحي، بسيادة ذهنيّة قطعٍ وتفصيلٍ للتاريخ باعتباره متوقّفًا على حزبٍ أو حركة بعينها، الذي غدا في مجمله فيما بعد متوقفًا على شخص/ رمز بعينه، في تشويهٍ للذاكرة الجماعية، وتفتيت للوعي الفلسطيني الذى تربى على تواريخ/مراحل منفصلة، وهذه تصح على مرحلة ما بعد وما قبل 1948، كما تصح على مرحلة ما بعد وما قبل 1967. فبفضل ذهنية القطع تلك وعوامل ودوافع أخرى طبعًا جرى تأسيس "الذاكرة الحديثة" على وجود مرحلتين بعد 1948: مرحلة ما قبل الثورة التي تكاد توازي مرحلة الضياع ومرحلة الثورة وما بعدها، حيث الهداية والخروج من الضلال إلى النور!
لذلك كادت الأمور أن تصل بالبعض، ولربما وصلت، حد التصرف وكأن الشعب والقضية والهوية والنضال الفلسطيني لم يكن موجودًا حتى فاتح 1965 بالنسبة للبعض وحزيران 1967 أو كانون أول 1987 بالنسبة لبعض آخر. لربما قام البعض أو كاد أن يؤرخ لانبثاق فلسطين بالهزيمة العربية سنة 1967 في مقاربةٍ ذهنيّةٍ تحاول الإيحاء، وكأن وجود العرب لا "إسرائيل" هو الذي يُثقل على حضور فلسطين ويمنعه من الخروج إلى الضوء! ذهنية كهذه هي التي أسست لأيديولوجيّة الخروج من العرب والتاريخ باختلاق بدايةٍ جديدةٍ للنضال الفلسطيني، وتاريخٍ جديدٍ له ولعلاقته بذاته الفلسطينية والعربية وعلاقته مع العدو في آن.
السؤال القديم الجديد: هل للمهزوم أن يكتب التاريخ؟
تأسيس المستقبل:
"التاريخ لا يكتبه سوى المنتصرين" من الفيلسوف مارتن هيدجر الذي رأى أن النصر يحقّقه الزعماء الكبار مرورًا بوالتر بنيامين الذي حاول أن يفكّك المقولة وحمولتها الفكرية والعملية بالنظر إلى الإنسان منتصرًا كان أم منهزمًا؛ فطالما أنّ "التاريخ خير مُعلّمٍ"، فإنه لا ينحصر علمه على المنتصرين فقط، بل وعلى المهزومين أيضًا، وعليه فليس صحيحًا أن التاريخ يكتبه المنتصرون فقط؛ بل ويكتبه المهزومون، وأحيانًا بحروفٍ أكثر عمقًا وإشراقًا، وبكبرياءٍ منقطع النظير؛ تؤسّس في الضمير الجمعي للشعب المهزوم فرصًا هائلةً للإلهام الإيجابي والبقاء وإمكانية نهوض عظيم، من خلال الوقوف جديًّا على الحصيلة التاريخيّة المحقّقة، وقراءتها من على قاعدة الاستمراريّة التاريخيّة، التي تتطلّب وعي الهزيمة أسبابًا وشروطًا، ومحدّدات قسريّة موضوعيّة وذاتيّة؛ ففي الوقت الذي يعد بداية وعيها الصحيح الاعتراف بها، فإنّ شرط تجاوزها هو التأسيس للمستقبل المنشود، كما دلّت تجارب من انتصر بعد هزيمة كَتب صكها بيده.