السودان... التطبيع مع الكيان والصراع الداخلي يشوه مواقفه القومية التاريخية

حجم الخط

السودان بعد الإطاحة بنظام البشير ذي التوجه الإسلامي الاستبدادي، قام رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بتطبيع بلاده مع الكيان الصهيوني العنصري العدواني الذي اغتصب أرضنا وشرد شعبنا الفلسطيني، مشوها بذلك موقف السودان القومي التاريخي من القضية الفلسطينية، وهو الآن  يخوض  صراعًا مع حليفه السابق حميدتي قائد قوات الدعم السريع صراع على السلطة السياسية خارج نطاق الانتماء القومي العربي الذي عرف به السودان، عبر الوقائع السياسية والعسكرية التي شهدتها المنطقة العربية منذ قيام الكيان الصهيوني في مثل هذا الشهر مايو أيار عام 48..

في الصراع المسلح الحالي الذي يشهده السودان بين طرفين لهما علاقتهما السياسية مع حكومة نتنياهو الفاشية التي دعتهما للتفاوض في تل أبيب، يصبح ممهدًا السودان لجره إلى التقسيم السياسي مرة أخرى بعد انفصال الجنوب عنه ومسح موقعه كقطر رئيسي من الخارطة السياسية العربية، وهو التوجه الذي يتعارض مع تاريخه الوطني والقومي الذي سجلته الوقائع التاريخية التالية:

- في الخرطوم العاصمة السودانية، انطلق شعار اللاءات الثلاثة (لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف)  بالكيان الصهيوني وهي التي أقرت بالإجماع في مؤتمر القمة العربية الذي انعقد بعد وقوع  هزيمة يونيو حزيران 1967، القاسية على المشاعر الوطنية والقومية، وكان شرفًا للسودان برئاسة الرئيس إسماعيل الأزهري أن يحتضن هذه القمة النوعية الهامة في سجل التاريخ السياسي العربي  المعاصر.

- في عام 48 عام النكبة اشترك السودان ضمن الجيش المصري مع الجيوش العربية الأخرى  في الحرب، ضد العصابات الصهيونية المسلحة وسقط العديد من الجنود السودانيين شهداء على أرض فلسطين، وقد كانت القوات المصرية التي دافعت عن الفالوجة وعراق المنشية وعن الكثير من القرى والمناطق الفلسطينية في جنوب البلاد، بقيادة اللواء السوداني طه بيه الملقب بالضبع الأسود الذي أرعب قادة العصابات الصهاينة، بسبب خططه العسكرية الناجحة التي أوقعت خسائر فادحة في الجانب الصهيوني، وكانت كتيبة المقدم جمال عبد الناصر آنذاك التي صمدت في دفاعها أثناء حصار الفالوجة الذي استمر عدة شهور تحت أمرته...

- بعد انتهاء الحرب التي أسفرت عن هزيمة الجيوش العربية أمام العصابات الصهيونية المدربة والمسلحة تسليحا جيدا والمدعومة من قبل حكومة الانتداب البريطاني، خضع قطاع غزة للحكم العسكري المصري تحت عنوان الأراضي الفلسطينية الخاضعة لرقابة القوات المصرية الضاربة، وبقيت كتيبة الهجانة السودانية ضمن تواجد هذه القوات، حيث  تعرض مقرها في عام 55 من القرن الماضي لهجوم غادر مباغت، شنته ليلًا الفرقة الإسرائيلية 101 وكان  يقودها حينذاك الإرهابي شارون، وقد أسفر الهجوم عن استشهاد العديد من الجنود السودانيين الذين احتضنت أجسادهم الطاهرة مقبرة الشهداء بمدينة غزة، وهو ما ينبغي تسجيله في سياق المشاركة العسكرية السودانية في الصراع ضد الكيان الصهيوني.

- كان للسودان دورًا أيضًا في حرب أكتوبر 73 إلى جانب المشاركة العربية من العراق والجزائر والمغرب و ليبيا وجيش التحرير الفلسطيني.

وهكذا يتبين من خلفية هذه الوقائع التاريخية كلها حقيقة مكانة السودان في النظام السياسي العربي الرسمي، دولة رئيسية، وليست طرفًا في عداد الدول الصغيرة، كما هو حال مشيخات الخليج العربي التي اكتسبت وزنها السياسي العربي والإقليمي، بما تملكه من ثروات مالية هائلة من عادات النفط، والتي أصبحت ترى أن مصلحتها الأمنية، تكمن في التطبيع مع الكيان الصهيوني...

هذا  هو السودان الذي يمزقه الآن الصراع على السلطة بين كل من البرهان وحميدتي اللذان خرجا عن دور السودان القومي وارتميا في أحضان الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، خلافًا لما يعرفه الشعب  الفلسطيني عنه، كقطر عربي شقيق دافع عن عروبة فلسطين واشترك جنوده البواسل في القتال ضد العدو الصهيوني وسقط منهم الشهداء، ولكن الأمل كبير في الشعب السوداني الشقيق الذي يمتلك، وعيًا سياسيًا متقدمًا على كثير من الشعوب العربية، وفي أحزابه السياسية المناضلة التي أعلنت مواقفها الرافضة للتطبيع وللصراع المسلح على السلطة السياسية الحالي، والتي تؤكد في كل أدبياتها أن القضية الفلسطينية هي قضية شعب يناضل من أجل استقلاله الوطني وتحرره....

الأمل كبير أن يفوت هذا الشعب العربي المسيس الفرصة على هدف التآمر على السودان وايصاله إلى مرحلة التفكك والانهيار والتقسيم السياسي البغيض.