75 عاماً على النكبة المتجددة

حجم الخط

أن نحيي ذكرى النكبة يعني أن نروي (قصتنا)، نصوغ روايتنا ونظل نحشد بها الأجيال الفلسطينية أولاً والعالم ثانياً. ولكن الأهم من صوغ روايتنا، كي لا تظل محض رواية تتكرر في كل ذكرى، هو أن نقف أمام الحقيقة التالية: على الرغم من أهمية صوغ الرواية وتعميمها والدفاع عنها، إلا أن الأهم أيضاً أن لا يتناقض الخطاب والبرنامج والأدوات مع ما يجب أن تكون عليه الرواية حقاً.
بين إحياء ذكرى النكبة وبين الخطاب والبرنامج والممارسة السياسية الرسمية للقيادة الفلسطينية بون واسع. ففي فعاليات ذكرى النكبة يتم استرجاع تفاصيل الجريمة التاريخية التي ارتكبتها الحركة الصهيونية بحق شعبنا من تهجير ما يقارب ال 850 ألفا وتدمير حوالي 450 تجمعا سكانيا، وإغراق فلسطين بمجموعات المستوطنين المنقطعي الجذور عن وطننا وأرضنا. ولا تخلو تلك الفعاليات من مظاهر النوستالوجيا المفعمة بالعاطفة المشبوبة والصادقة للملايين السبعة من اللاجئين، والمطعّمة برموز عديدة كالمفتاح وسند الطابو والاسم الأصلي للقرية أو الموقع. ورغم بعض المظاهر التي لا تتفق والحصافة المطلوبة لإحياء الذكرى، وتشي بتحويله أحياناً لكرنفال مخجل، فإن تلك الفعاليات تعيد إنتاج الرواية الفلسطينية حول الجريمة التاريخية، وحول الحق التاريخي لنا في وطننا، والرواية والحق مكونان رئيسان لتعزيز مكونات الهوية الوطنية وهما بمثابة الوقود للنضال الوطني. وفي هذا الصدد ينبغي التأكيد:
1- إن الاقتصار على إحياء الذكرى كما يجري لن يخدم النضال الوطني لوضع حد تاريخي لنتائج/تداعيات النكبة. إن أهم نتائج النكبة أولاً هي تهجير شعبنا، وثانياً إنشاء دولة المشروع الصهيوني الاستعماري بمادته الديموغرافية، المستوطنين، على كامل تراب فلسطين التاريخية. وهنا يقع التناقض الذي لا فكاك منه في البرنامج والخطاب الرسميين، فمن ناحية يجري التركيز على النتيجة الأولى، وكأنها هي فقط الرواية، وهذا مطلوب بطبيعة الحال كواجب وطني وتثقيفي/ تعبوي، ومن ناحية ثانية فإن كل مفاصل الخطاب والبرنامج والممارسة الرسمية تهيل التراب على النتيجة الثانية، إذ أن مراجعة تاريخية، وهو ما ترفض القيادة الرسمية القيام به، تؤشر لحقيقة هذا التناقض. يرفض خطاب النكبة ولكنه يدافع عن اتفاقيات أوسلو وملحقاتها ويلتزم بها والتي تم فيها الاعتراف بشرعية دولة إسرائيل بما يعنيه هذا من اعتراف وتسليم علنيين بمشروعية المشروع الصهيوني في فلسطين، ليلحقه بطبيعة الحال مسخ جغرافية فلسطين في الضفة والقطاع في تشويه صارخ للحقيقة التاريخية. ماذا يعني هذا غير إقرار تاريخي، يصل حد التسليم، بنتيجة النكبة الأكثر مأساوية والاعتراف بشرعية تلك النتيجة؟
دون المراجعة التاريخية لكل الخطاب والبرنامج والممارسة السياسية للقيادة الرسمية منذ 30 عاماً ستظل روايتنا منقوصة في أفضل الأحوال، وتعمل على تشويه الوعي في اسوأ الأحوال. لا يمكن تصور رواية تاريخية صادقة حول النكبة دون التأكيد على فلسطين التاريخية كجغرافيا لا تقبل التقسيم أو التفاوض او العبث، دون التأكيد على الحق التاريخي الحصري في الوطن فلسطين، دون التأكيد على مشروعية النضال لتحرير فلسطين. هذه مفاصل رئيسة في رواية شعبنا، وهنا تفترق تلك الرواية عن الرواية التي تسوّقها القيادة الرسمية.
2- رواية النكبة تستوجب خطاباً للتحرر الوطني يعكس حقيقة طبيعة القضية الوطنية الفلسطينية كقضية تحرر من الاستعمار الصهيوني الاستيطاني وعودة كل اللاجئين إلى وطنهم وقراهم التي تهجروا منها. خطاباً يعكس موقعنا كشعب من الصراع: صحيح أننا ضحية جريمة عنصرية تاريخية واستعمار فاشي مجرم ونعاني ونضحي ونعيش الآلام، ولكننا أيضاً شعب مقاوم ومضحّي ومتمسك بنضاله وحقوقه ولم تهزمنا الصهيونية وسنستمر بالمقاومة حتى تحرير وطننا. خطاب يؤكد حقيقة الصراع الوجودي مع المشروع الصهيوني في فلسطين كحقيقة تاريخية أوجدتها النكبة. هذا الخطاب المطلوب، أما الخطاب الذي يعتقد واهماً أنه يستقطب الرأي العام ببكائيته وإظهار (ضعفنا وعجزنا) ويستجدي الهيئات الدولية لن يفعل سوى إشاعة الوهم وإضاعة الاتجاه في أفضل الأحول.
وفي هذا الصدد، من الطبيعي أن نعتبر إحياء الأمم المتحدة لذكرى النكبة، وللمرة الأولى، (بدري عليها) موقفا جيدا وإنجازا أيضاً، ولكن الأهم كيف يتم الاستفادة من هذا الانجاز بخطاب التحرر الوطني أمام العالم، وهو ما لم يحصل يوماً، وأيضاً من الهام أن نكون واقعيين في تقدير أهمية تلك المؤسسات الدولية: إنها نتاج موازين قوى لا تعمل لصالح شعبنا بدليل أن عشرات القرارات صدرت عنها ومنذ 75 عاماً ولم تنفذ، وهل نحتاج لمدة أطول من هذه لنتأكد؟ وبالتالي ينبغي مراجعة مدى الأهمية التي نوليها لها، وبالحد الأدنى لنعترف أن خطابنا حولها ليس أكثر من خطاب للاستهلاك لا أكثر ولا أقل.
كي لا تتحول الذكرى لمحض ذكرى والسلام ينبغي مراجعة البرنامج والخطاب والأدوات التي لا تتناول في اهدافها جوهر نتائج النكبة وتداعياتها، وهنا، هنا فقط، تتحول فعالية النكبة لتغدو وقوداً لاستمرار النضال الوجودي.